10-ديسمبر-2022
انتخابات

تونس اليوم تشهد إعادة تأسيس لنظام الفرد الواحد الذي يحكم ويسود دون حسيب ورقيب (ياسين القايدي/ الأناضول)

مقال رأي

 

لم نكن بحاجة لانتظار انطلاق الحملة الانتخابية للانتخابات التشريعية المنتظرة، التي فرضها رئيس الدولة إتمامًا لخارطة طريق وضعها بنفسه لنفسه تأسيسًا لنظام حكم الفرد الواحد، وذلك حتى نتبيّن ضحالة العملية الانتخابية. فقبل انطلاق الحملة، كفت هيئة الانتخابات في تحويل المسار الانتخابي إلى عنوان مهزلة، منذ حملة الاستفتاء، في الصيف الفارط، وليس ذلك بغير المنتظر ما دام أن هيئة الانتخابات، المعيّنة من رئيس الدولة للتذكير، تحوّلت أشبه بإدارة لتنظيم عمليات الاقتراع لا أكثر ولا أقل، في غياب شروط الانتخابات النزيهة وهي استقلالية الهيئة، وحياد الإدارة، وقبلها تشريع ديمقراطي ضامن للنزاهة لا تشريعًا بأوامر عليّة لخدمة مشروع شخص واحد.

مهزلة التشريعيات القادمة انطلقت، تأسيسًا، بتنظيم "الوظيفة" التشريعية في الدستور الذي أحدث نظامًا سياسيًا مختلّ التوازن لا صوت فيه يعلو فوق صوت الرئيس فيما يكتفي البرلمان بدور شكلي

مهزلة التشريعيات القادمة انطلقت، تأسيسًا، بتنظيم "الوظيفة" التشريعية في دستور منظومة 25 جويلية/يوليو، والذي أحدث نظامًا سياسيًا مختلّ التوازن لا صوت فيه يعلو فوق صوت الرئيس، فيما يكتفي البرلمان بدور شكلي في غياب أي رقابة حقيقية على السلطة التنفيذية. تحوّل البرلمان بهذا المعنى لغرفة خلفية موكول لها لعب دور تشريعي محدّد تحت سيف رئيس دولة الذي يمتلك كل الصلاحيات لنسف أي سلطة مضادة له.

لاحقًا، فرض رئيس الدولة نظام الاقتراع على الأفراد، ليصدر تقسيمًا جديدًا للدوائر الانتخابية في غياب أي سند علمي حول أسس التقسيم، ما أدى لتباين شاسع في حجم التمثيلية. بيد أن الأنكى أن القانون الانتخابي صدر معزولًا عن الواقع كاشتراط عدد تزكيات غير ممكن توفيرها حسابيًا في بعض الدوائر، وهو ما أدى بالنهاية، ورغم تمطيط هيئة الانتخابات في آجال الترشحات، لتسجيل عشر دوائر لم تتلق أي ترشح أو لم تشهد إلا ترشحًا وحيدًا فقط، ما يعني أننا بصدد إخراج برلمان غير مكتمل التركيبة بما سيؤدي مثلًا لرئيس برلمان وقتي، إذ يستلزم سد الشغورات تنظيم انتخابات جزئية لاحقًا. هل أتاكم، بالنهاية، حديث برلمان مؤقت قبل انتخابه أعضائه؟ 

تحوّل البرلمان وفق القانون الانتخابي الجديد إلى غرفة خلفية موكول لها لعب دور تشريعي محدّد تحت سيف رئيس الدولة الذي يمتلك كل الصلاحيات لنسف أي سلطة مضادة له

لم يكن ليكتمل هذا المشهد إلا مع استماتة هيئة الانتخابات في التعدي على القانون وصلاحيات غيرها من الهيئات، والحديث عن هيئة الاتصال السمعي البصري (الهايكا)، إذ أصدرت "إدارة" الانتخابات قرارًا خاصًا حول تنظيم وسائل الإعلام خلال الحملة الانتخابية على خلاف ما جرى عليه العمل طيلة المواعيد الانتخابية الفارطة. وقد بلغت حالة الاستقواء إلى درجة توجيه توصية إلى التلفزة العمومية بعدم التعامل مع هيئة الاتصال السمعي البصري بحسب نقيب الصحفيين التونسيين

أما مشهد الترشحات للانتخابات، التي تشهد للتذكير مقاطعة القوى الديمقراطية من جلّ الأحزاب الرئيسية في البلاد، دون عن القوى المدنية، فهو لوحده عاكس لحالة من تردٍّ فظيع للفعل السياسي. إذ أدى التحول من نظام الاقتراع على القائمات القائم على الأحزاب إلى نظام الأفراد القائم على الترشحات الفردية، في الواقع، لانحدار العملية الانتخابية من زاوية أنها عملية معزولة تنظمها السلطة لحساب نفسها، وعملية غير ديمقراطية في سياق توظيب مؤسساتي بعد انقلاب دستوري مع مقاطعة القوى الديمقراطية للمسار الانتخابي الزائف. أدى ذلك لمشهد ترشحات جلها من أشخاص غير معروفين على المستوى الوطني، ولا محطات نضالية لهم في المنتظمين السياسي والمدني، غايتهم ليست إلا تأمين مصالحهم كوكيل عن السلطة في الدائرة وأداء الدور السياسي المطلوب مقابل تمتع النواب بوجاهة التمثيلية مع استتباعاتها المصلحية على المستوى المحلي. 

مشهد الترشحات للانتخابات عكس حالة تردٍّ فظيع للفعل السياسي إذ أدى نظام الاقتراع على الأفراد إلى ترشح أشخاص أغلبهم غير معروفين ولا محطات نضالية لهم في المنتظمين السياسي والمدني ولا غاية لهم سوى تأمين مصالحهم

ليس من الصدفة، في هذا الجانب، ملاحظة قلة عدد الترشحات في الدوائر المدينية في المدن الكبرى على غرار تونس العاصمة من ذلك تسجيل ترشح وحيد بدائرتي المروج ورواد رغم أنهما من أكثر المناطق كثافة سكانية بالعاصمة، وذلك مقابل إسهال ترشحات في عدد من الدوائر الحدودية، وهو ما يبيّن تحول الترشحات فيها إلى حلبة صراع بين عائلات وعروش محلية لنيل صفة تمثيل المنطقة أمام السلطة المركزية، أكثر من صفة تمثيل الناخبين في الغرفة البرلمانية.

هل ستتجرأ، في الأثناء، السلطة على مواصلة النقل التلفزي المباشر لأعمال البرلمان كما البرلمانات السابقة؟ يوجد شك. هذا النقل المباشر، فيما سبق، بقدر ما مثل حقًا وسيلة للمواطن لمراقبة أداء البرلمانيين، ساهم كذلك في تصاعد حالة النقمة ضد البرلمان الذي تحول، بنظر العموم، إلى حلبة لممارسة السياسوية بل أيضًا لممارسة العنف اللفظي والمادي بين النواب على حساب مصلحة الناخبين، وكل ذلك أدى لحالة قبول شعبي لقرار حل البرلمان قبل عام ونصف.

يشي مشهد الترشحات بأننا بصدد إخراج برلمان يضم في جله أشخاصًا محدودي المستويين التعليمي والثقافي وممن لا يتحوّزون على المعارف الضرورية للعمل المؤسساتي بما سيؤدي إلى ترذيل العمل البرلماني

يشي مشهد الترشحات الحالي بأننا بصدد إخراج برلمان يضم في جله أشخاصًا محدودي المستويين التعليمي والثقافي، وممن لا يتحوّزون على المعارف الضرورية للعمل المؤسساتي، بما سيؤدي إلى ترذيل العمل البرلماني، ولكن أيضًا إلى تفاقم مظاهر الاستعراض الشعبوي في الجلسات العلنية للظهور في صورة المدافعين عن مصالح مناطقهم، خاصة وأن سيف سحب الوكالة سيمثل عنصر ابتزاز مسلّط عليهم. وربما استبق قيس سعيّد هذا المشهد المنتظر بتنصيصه في دستوره على عدم تمتع النواب بالحصانة البرلمانية في صورة تبادل العنف والثلب وتعطيل عمل البرلمان. فالبرلمان المقبل، لو يتم المحافظة على سنّة النقل التلفزي المباشر لجلساته العلنية، ربما سيجعل العديد يتحسّرون على البرلمان المنحلّ.

في الأثناء، لا تشذ الانتخابات التشريعية المنتظرة في توصيفها على أي انتخابات تنظمها أي سلطة غير ديمقراطية في العالم، وتونس اليوم تشهد إعادة تأسيس لنظام الفرد الواحد الذي يحكم ويسود دون حسيب ورقيب. هي انتخابات غير قادرة على تمثيل الإرادة الشعبية العامة، تنتظم في عزلة عن القوى الديمقراطية وبأدوات تجعلها بالضرورة انتخابات غير نزيهة. بالنهاية نحن بصدد مهزلة جديدة بعد مهزلة الاستفتاء على الدستور "المنزّل" من الرئيس، الذي يعتقد صاحبه أنه "صعود شاهق غير مسبوق في التاريخ".

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"