مقال رأي
حينما قرّر المتنبي مغادرة مصر بعد ما لقيه من نكران من حاكمها كافور الإخشيدي، كتب قصيدة في هجائه جاء في مطلعها "عيد بأي حال عدت يا عيد.. بما مضى أم بأمر فيك تجديد؟"، وقد صادفت ليلة المغادرة ليلة عيد الأضحى. وبيّن المتنبي في مطلع قصيدته حالة الكرب والحزن التي لحقته من مكوثه في مصر بجوار حاكمها، فالمتنبي يسأل العيد إن حلّ كعادته مطبّعًا مع حالة السوء أم حلّ بشيء جديد.
للطرافة، ينادي البعض بتونس رئيس الجمهورية قيس سعيّد بـ"الإخشيدي" وذلك لأنه سبق واستشهد به في المناظرة الرئاسية عام 2019، وقد بدا اسم حاكم مصر غريبًا على مسامع المتلقّين. ونحن، المحكومين، وبصدد توديع عام واستقبال عام جديد، حالنا لا يبعد عن المتنبي نتساءل: عام بأيّة حال عدت يا عام؟
انتهت الانتخابات التشريعية، بنهاية عام 2022، بفضيحة بعد تسجيل مشاركة حوالي 11% فقط من الجسم الانتخابي، بما يؤشر للفشل الذريع لمشروع سعيّد
طبع عام 2022 نفسه عامًا استثنائيًا في التاريخ السياسي المعاصر لتونس، هو عام تنفيذ سعيّد خارطته لـ"الصعود الشاهق في التاريخ"، كما يكرّر دائمًا هذه العبارة السمجة. انطلق العام بإطلاق استشارة إلكترونية شهدت عزوفًا بمشاركة نصف مليون تونسي، أي في حدود 5% فقط من جملة الجسم الانتخابي، ولاحقًا تكوّنت لجنة لصياغة دستور جديد رغم أن نتائج الاستشارة بيّنت أن أغلبية المشاركين فضّلوا تعديل قانون الأحزاب وقانون الانتخابات وتعديل الدستور على مقترح صياغة دستور جديد، وهو ما يؤكد أن رئيس الدولة هو لوحده صاحب القرار، وليست الاستشارة الإلكترونية إلا مسوّغ لصبغ مشروعية مفقودة على دستوره. فلاحقًا، ومجددًا، رمى سعيّد مشروع الدستور المقترح من اللجنة التي عيّنها بنفسه في سلّة المهملات، ليخرج للعلن دستوره الذي كتبه بنفسه ولنفسه، وهو دستور ينسف مبدأ الفصل بين السلط ويؤسس لحكم فردي وينزع عن القضاء استقلاليته.
انتظم تباعًا استفتاء، في غياب قواعد النزاهة، لإضفاء شرعية وهمية على دستور الرئيس الحاكم. واصل الرئيس خارطته لتنتظم انتخابات تشريعية، بنهاية العام، انتهت بفضيحة بعد تسجيل مشاركة حوالي 11% فقط من الجسم الانتخابي، بما يؤشر للفشل الذريع لمشروع سعيّد، خاصة وأن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لم تشهد ترديًا منذ الثورة كما شهدته العام الفائت.
يستقبل التونسيون العام الجديد بقانون مالية أصدره الرئيس كالعادة بدون تشاور وشراكة مع الفاعلين في البلاد الذين تداعى جلّهم رفضًا لما سُميّ بقانون مجبى
يستقبل التونسيون العام الجديد بقانون مالية أصدره الرئيس كالعادة بدون تشاور وشراكة مع الفاعلين في البلاد الذين تداعى جلّهم رفضًا لما سُميّ بقانون مجبى. وقد تزامن نشره مع إعلان صندوق النقد الدولي تأجيل مناقشة ملف تونس في جدول أعماله. خرج وزير الاقتصاد ليعلن أن نسبة التضخم عام 2023 ستبلغ 10.5% مبينًا أن العام الجديد سيكون صعبًا على التونسيين. في الواقع، يودّع التونسيون عامًا ويستقبلون آخر وقد شهد الوضع المعيشي ترديًا غير مسبوق، مؤشره الارتفاع غير المسبوق في الأسعار بل، والأخطر، فقدان العديد من المواد الأساسية من الأسواق مثل السكر والزيت والقهوة وغيرها من المواد المعيشية.
فشل سعيّد المنعكس في الضعف الفادح لنسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة مردّه جوهريًا هو يقين جلّ التونسيين أن البلد تسير في طريق خاطئ، خاصة وأن سعيّد بيّن بوضوح ضعف كفاءته على إدارة البلد. تبيّن خطاباته اضطراب أولوياته وانعدام أي حلول عملية وناجعة له لحلّ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وهو الذي اختار، في الأسبوع الأخير من عام 2022، أن يجتمع مع قيادات أمنية وعسكرية مهددًا "الخونة" و"العملاء"، مكتفيًا، وكالعادة، باتهامهم بأنهم وراء الاحتكار وفقدان المواد الأساسية. هي حالة مستعصية من الهروب من الواقع.
سعيّد بيّن بوضوح ضعف كفاءته على إدارة البلد، إذ تبيّن خطاباته اضطراب أولوياته وانعدام أي حلول عملية وناجعة له لحلّ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية
جميع المؤشرات تبيّن أن العام الجديد لن يكون، في أبسط التوصيفات، أفضل من سابقه على جميع المستويات. سياسيًا، ستنتظم الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية والمرجّح تسجيل نسبة مشاركة ستجعل البلد، الذي كان قبل سنوات مثالًا للانتقال الديمقراطي، موضع سخرية في العالم. والمفترض نظريًا أن يشكّل سعيّد حكومة جديدة تطبيقًا لدستوره، مع تركيز برلمان جديد، معدوم الصلاحيات ومكوّن من شخصيات جلّها بدون أي كفاءة سياسية أو إدارية، والمؤمل، في هذا الجانب، أن يحافظ سعيّد على سنّة بث الجلسات العلنية للبرلمان ليكتشف التونسيون المستوى الحقيقي لمن يدّعون تمثيلهم.
نستقبل العام الجديد أيضًا دون إجراء الحركة القضائية في سابقة في تاريخ القضاء التونسي، وبعد مظلمة سعيّد بإعفاء 57 قاضيًا في غياب أدنى ضمانات حقوق الدفاع، بل برفض تنفيذ قرار المحكمة الإدارية بإيقاف تنفيذ جلّ قرارات الإعفاء.
جميع المؤشرات تبيّن أن العام الجديد 2023 سيكون عسيرًا على التونسيين عبر مزيد تركيز منظومة سعيّد للحكم الفردي واستفحال للأزمة الاقتصادية والاجتماعية
عام 2023 هو عام عسير على التونسيين: مزيد تركيز منظومة سعيّد للحكم الفردي واستفحال للأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وبينهما تصاعد حالة التشاؤم في صفوف المواطنين من مستقبل البلاد مع مزيد تلاشي الحفاظ على المكسب الديمقراطي وسقف الحقوق والحريات. لا توجد مؤشرات على أن سعيّد مستعدّ للحوار مع التونسيين، مع الفاعلين المدنيين والحزبيين، فهو لا يتقن إلا لغة الإلقاء والتوجيه وكأنه نبي مُرسل من السماء، أو لغة الاتهام وكأنه قاضي القضاة. وهذه المعضلة الحقيقية قد تهدّد كيان الدولة والسلم الأهلية، ذلك أن انزياح البلد نحو المزيد من التردي والتصعيد والتأزم المدفوع من رئيس الدولة لا يؤدي إلا لجعل البلد على صفيح ساخن دائم مفتوح على كل الاحتمالات.
سعيّد، بهذا المعنى وباستقبال العام الجديد، هو اختبار حقيقي للتونسيين للحفاظ على وحدتهم المجتمعية ودولتهم، لأنه مستعدّ لمواصلة استثماره في الكراهية والعنف بمختلف أشكاله لغاية حماية مشروعه السلطاني.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"