31-أكتوبر-2022
قيس سعيّد ونجلاء بودن

مع الانقلاب في تونس انحدر خطابه الشعبوي بالأداء السياسي إلى الدرجة الصفر (صورة أرشيفية/الرئاسة التونسية)​

مقال رأي

 

يعرف المهتمون بالأدب ونقده كتاب "الكتابة في درجة الصفر" للفرنسي رولان بارت. وعنوان الكتاب مفهومٌ أُلْقِي به ستينيات القرن الماضي للنظر في درجات أدبية النصوص والتمييز بين حدودها وأبنيتها وأصنافها.

وإذا كانت درجة الكتابة تقاس إلى "النصّ الأول" وهو الكلام العادي الخالي من كل انزياح فإنّ درجة السياسة تقاس إلى "التجربة الأولى" وهو الاجتماع الطبيعي باعتباره سلوكًا عفويًا كثيرًا ما يُنعت ظلمًا بالبدائي والمتوحّش. وتمثّل الدولة فاصلاً بين مرحلتين تخضع السياسة في أولاهما إلى القيمة وتنشدّ في ثانيتهما إلى المصلحة.

تونس تعيش الدرجة الصفر للسياسة بما هي عجز مطلق عن تدبير المؤسسة وإدارة الشأن العام ورعاية الحياة اليوميّة

مع الانقلاب في تونس انحدر خطابه الشعبوي بالأداء السياسي إلى الدرجة الصفر. فلا هو ممثّل للقيمة (عمر الفاروق) التي يدّعي تمثيلها ولا هو مجسّد للمصلحة (تحقيق ما يريد الشعب) التي يبرّر انقلابه بالعمل على تحقيقها. فالبلاد تعيش الدرجة الصفر للسياسة بما هي عجز مطلق عن تدبير المؤسسة وإدارة الشأن العام ورعاية الحياة اليوميّة.

 

 

  • استعارة سياسية قبيحة

قدّم الانقلاب حركتَه على أنّها تصحيح لمسار لم يعد قابلاً للاستمرار. ورغم ما لهذا العنوان من مصداقية نسبية منحها إيّاه تعثّر المسار الانتقالي وتعطّل مؤسسات الدولة عن أداء دورها، فإنّ دور الانقلاب وروافده الوظيفيّة في سياسة "التعطيل والترذيل" قبل 25 جويلية/يوليو 2021 كان سببًا كافيًا لإدراك غايته الحقيقية في استهداف الديمقراطية والحياة السياسية.

وتبيّن من خلال تجميد البرلمان المؤسسة الأصلية في النظام الديمقراطي الجديد واستهداف بقية المؤسسات أنّنا بإزاء عملية هدم منهجي لتجربة الانتقال إلى الديمقراطية. وأبان خطابَ الانقلاب الشعبويَّ الرث عن استعارة سياسية قبيحة تقوم على مواجهة بين "شعب خيّر" و"نخبة خائنة". وهو ما يعني برنامجًا لقتل السياسة باستهداف مؤسساتها في الدولة والمجتمع. ومثّل الأمر 117 الانقلابي مرجعية لهذه الجريمة السياسية بتجميع السلطات في يد "الفرد التافه العاجز".

أبان خطاب الانقلاب الشعبوي عن استعارة سياسية قبيحة تقوم على مواجهة بين "شعب خيّر" و"نخبة خائنة" وهو ما يعني برنامجًا لقتل السياسة في البلاد

ومن قبح هذه الاستعارة السياسية تضاعف عجز المنقلب مع تضاعف تركيز السلطات بين يديه. فتفاقمت الأزمة المالية الاقتصادية وارتفعت البطالة إلى نسب قياسية وشارفت نسبة تضخّم على أن تصبح برقمين واستفحل اختلال الميزانية العامة مما سيجعل كلّ ما ستحصل عليه البلاد من قروض لا يخرج عن اللهاث وراء استحقاق تسديد الديون وفوائدها ودفع أجور الموظّفين.

ألقى كلّ ذلك بظلاله على الحياة اليوميّة عبثيّة الانقلاب وتداعياتها المشوهة لوجه السياسة وفسخ ما ارتسم عليه من آثار الحياة الديمقراطيّة. المقدرة الشرائية وارتفاع الأسعار الجنوني ليحطّ المشهد عند افتقاد المواد الأساسية. وإذا كانت الدولة في مفهومها القانوني هي جملة المرافق، فإنّ أهمّها مثل النقل والصحة والتعليم والقضاء هي اليوم شبه معطّلة. ويمثل تعطّل هذه المرافق الأساسية مؤشرًا على انهيار الإدارة آخر الأسس التي لا قيام للدولة بدونها.

إذا كانت الدولة في مفهومها القانوني هي جملة المرافق، فإنّ أهمّها مثل النقل والصحة والتعليم والقضاء هي اليوم شبه معطّلة وهو مؤشر على انهيار الإدارة آخر الأسس التي لا قيام للدولة بدونها

وإنّ من أهمّ تشوهات السياسة أن تتعطّل وظائف الدولة بتعطّل مرافقها. و لهذا تداعياته الخطيرة لا على مسير دواليب الدولة فحسب وإنّما أيضًا على ثقة الناس بها من ناحية وعلى فكرة التعاقد على العيش المشترك التي تؤسس اجتماعهم من ناحية أخرى. وبهذا المعنى كان الانقلاب استعارة سياسيّة قبيحة. 

  • بلاد في المزاد

دعوى تصحيح المسار سقطت منذ إجراءات الانقلاب عليه يوم 25 جويلية/يوليو 2021. وتتساقط "دعاوى السيادة الوطنيّة" تباعًا مع سنة ونصف من الانقلاب جرّفت ما بقي من مقومات السيادة. فالبلد مستباح بكل معاني الاستباحة ومستوياتها. وإذا كان للانقلاب من منجز فهو توفير كل شروط صندوق النقد الدولي لفرض تصوره في معالجة الأزمة المالية الاقتصادية المتفاقمة.

إذا كان للانقلاب من منجز فهو توفير كل شروط صندوق النقد الدولي لفرض تصوره في معالجة الأزمة المالية الاقتصادية المتفاقمة في تونس

إنّ ما يطلبه صندوق النقد الدولي والقوى الماليّة المانحة، إلى جانب عناوين الإصلاح التي تتضمّنها وصفته، توفّر الشرط السياسي والاجتماعي الملائم. وأمّا فيما يخصّ المستوى السياسي من الشرط فإنّه المطلوب فيه وضع سياسي مستقرّ يستمدّ شرعيّته من مؤسسات ديمقراطيّة منتخبة وممثّلة للإرادة العامّة.

وأمّا فيما يتعلّق بالمستوى الاجتماعي فإنّ المطلوب هو استقرار اجتماعي أقرب إلى الهدنة الاجتماعيّة بين النقابات وأرباب العمل والحكومة. وبدون هذين الشرطين لا يمكن المرور إلى إصلاحات تتعلّق بكتلة الأجور قد تصل إلى خفض الأجور وإيقاف الانتدابات وتسريح جانب من اليد العاملة، ورفع الدعم وإصلاح المؤسسات العموميّة والتفويت في بعضها للخواص.  

قبل الانقلاب، كانت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ماضية إلى توقيع الاتفاقات المطلوبة. وكان وجود مؤسسات منتخبة وممثلة وحياة سياسيّة ديمقراطيّة ومؤسسة قضاء تتجّه إلى تحقيق استقلاليّتها، رغم ما كان يعرفه مسار الانتقال إلى الديمقراطيّة يومها من تعثّر وما تعرفه الحياة الحزبيّة من احتدام و انسداد سياسي أفرغا انتخابات 2019 من مضمونها السياسي.

الوجه الآخر للدرجة الصفر للسياسة هو الدرجة الصفر للسيادة. فالانقلاب المعزول ليس أمامه إلاّ أن يذعن صاغرًا للإملاءات المفروضة من المانحين

ولم يكن من سبيل للخروج من الأزمة إلاّ بانتخابات سابقة لأوانها. ولكنّ إصرار القوى الفائزة بانتخابات 2019 على المناورة داخل المربّعات السياسية الضيّقة ضاعف من التجاذب داخل الأغلبيّة في مجلس نواب الشعب المحسوبة على الثورة، فكان التقابل بين الأغلبيّة البرلمانية والأغلبيّة الحكوميّة سببًا كافيا للعصف بكلّ حكومة ائتلافيّة. 

جرّف الانقلاب كلّ أسباب تهيئة الاقتصاد التونسي للاقتراض في ظروف معقولة من الصناديق الدوليّة للخروج من الأزمة الماليّة الاقتصاديّة التي فاقمتها الجائحة وكان لها الأثر الكارثي على بلادنا والاقتصاد في العالم. وخلاصة الأمر أنّ الوجه الآخر للدرجة الصفر للسياسة هو الدرجة الصفر للسيادة. فالانقلاب المعزول محليّا وإقليميًّا ودوليًا ليس أمامه إلاّ أن يذعن صاغرًا للإملاءات المفروضة من المانحين.

 

 

  • سياسة قتل السياسة

قتل السياسة على يد الانقلاب رافقه محاولة بعث سياسة موازية تتلخّص في فكرة "البناء القاعدي". وهي فكرة لم يُفلح مفسّرون جلهم نكرات وبلا سيرة علمية وسياسية في تقريب صورته إلى "الشعب الذي يعرف ما يريد" ولكنه لم يقدر على فهم ما يريده هؤلاء المتكلّمون باسمه.

بدأت تظهر في أفق المشهد السياسي عيّنات من "الطبقة السياسية الجديدة" من خلال عرضها "الخالي من السياسة" ومن خلال "خلافاتها" المبكرة حول المشروع وهي بلا أساس إلاّ تعارض مصالحها حول ما يُستعدّ له من انتخابات

وبدأت تظهر في أفق المشهد السياسي المدمَّر عيّنات من "الطبقة السياسية الجديدة" من خلال عرضها "الخالي من السياسة" ومن خلال "خلافاتها" المبكرة حول المشروع. وفي حقيقة الأمر فإنّ هذه الخلافات بلا أساس إلاّ تعارض مصالحها حول ما يُستعدّ له من انتخابات "تشريعية" بمرجعية "دستور سعيّد" و"قانونه الانتخابي". وهما نصّان عجيبان لا يُعرف "الناسخ والمنسوخ" منهما.

كشفت هذه الخلافات عن ضحالة هي أفدح بكثير مما عرفته تجارب "المؤتمرات الشعبية" في تجارب مجاورة لم تستمر إلاّ بسبب تحوّز القائمين عليها على عائدات نفطية ضخمة وثروات معتبرة. ولكنها انتهت إلى موت السياسة وما ترتب عنه من موت الاقتصاد والثقافة والانحدار إلى ما دون الحالة السياسية والمجتمعية التي انطلقت منها. ومثلت في تجارب الساسة نموذجًا أوفى لـ "الاستبداد القاتل".

 

 

ومع الزمن كانت سياسة قتل السياسة تتأكّد من خلال إصرار سلطة الانقلاب على شطب كلّ الأجسام الوسيطة من أحزاب ومنظّمات. وفي هذا السياق صيغ دور الاتحاد العام التونسي للشغل وضُبطت مهمّته في ظلّ نظام فردي كلّياني. وبذلك استعادت المنظّمة الشغيلة "منزلتها النوفمبريّة" ودورها التابع للسلطة، بعد أن كانت شريكًا في الحكم على مدى سنوات الانتقال العشر ومتقاطعًا مع المنظومة القديمة في مناهضة مسار بناء الديمقراطيّة. وكان موقف اتّحاد الشغل يدور مع موقف المنظومة القديمة ومصلحتها, ومثّل حزبها السياسي المعارض حين فقدت واجهتها السياسية مع تشظّي حزب نداء تونس في 2015.

تناسخت الدرجة الصفر للسياسة في الدرجة الصفر للدبلوماسية مع شلل نسبة عالية من بعثات البلاد الدبلوماسيّة والدرجة الصفر للاستثمار بغياب شروطه الدنيا، والدرجة الصفر للاقتصاد

ومن مظاهر قتل السياسة تمزيق دستور 2014 باعتباره دستور الثورة والشهداء أوّلًا وباعتباره الوثيقة المرجعيّة للنظام السياسي الجديد ولمؤسسات الدولة الديمقراطيّة ثانيًا. عمليّة قتل السياسة أوصلت البلاد إلى الدرجة الصفر للسياسة. وقد تناسخت هذه الحالة في الدرجة الصفر للدبلوماسية مع شلل نسبة عالية من بعثات البلاد الدبلوماسيّة من سفارات وقنصليات، والدرجة الصفر للاستثمار بغياب شروطه الدنيا، والدرجة الصفر للاقتصاد...الخ ومن ثمّ الدرجة الصفر للسيادة.

ومع ذلك فإنّ توازن الضعف بين الانقلاب والقوى الديمقراطيّة وتردّد الأجهزة الصلبة للدولة في العودة إلى موقف الحياد النسبي في صراع القديم والجديد حدا بشركاء تونس المعنيين بتونس وبمصالحهم التقليديّة فيها إلى محاولة بناء معادلة صعبة بين سلطة الانقلاب المصرّة على المضيّ في أجندتها والقوى الديمقراطيّة المتمسكة بهدف إسقاط الانقلاب واستعادة المسار الديمقراطيّة. وتشدّ العصا من الوسط فيما يشبه سياسة "الاحتواء المزدوج".

الدرجة الصفر للسياسة في تونس هي حالة العبث التي انطلقت مع انقلاب 25 جويلية/يوليو 2021. 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"