مقال رأي
أمقت الادعاء. يبقى أني أؤمن أن شيوع الادعاء يستظهر ادعاءً مستحقًا.
نواجه الآن ادعاء مزدوجًا: الشعبوية (populism) ومضادها (وحليفه الموضوعي) النخبوية (elitism). مديح الشعب مقابل مديح النخبة، هجاء الشعب مقابل هجاء النخبة. صراع أجوف، وليس مبتدعًا، بل حدث سابقًا في سياقات أخرى مرارًا وتكرارًا.
بعد موجة الشعبوية، نتهيأ الآن إلى ما يشبه موجة النخبوية، التنمر على اللا نخبوية (anti-elitism) التي تتصدر ترشيحات انتخابات سعيّد التشريعية لبرلمان بلا أي صلاحيات جدية كما يضبط ذلك دستوره
بعد موجة الشعبوية التي هيأها فشل نخبة ما بعد الثورة في الإصلاح، والتنمر الذي حصل على تجربة الانتقال الديمقراطي من خلال انتقاء بعض الحالات الكاريكاتورية وتعميمها على مجمل التجربة، نتهيأ الآن إلى ما يشبه موجة النخبوية، التنمر على اللا نخبوية (anti-elitism) التي تتصدر ترشيحات انتخابات قيس سعيّد التشريعية (لبرلمان بلا أي صلاحيات جدية كما يضبط ذلك دستوره).
كلاهما ادعاء أجوف. أؤمن بادعاء مستحق آخر: نحتاج أن نفهم أي ديمقراطية "ممكنة" على ضوء التنمية "الضرورية" المستحقة لبلد مثل تونس. ليست الإجابة بكل تأكيد في الصراع الوهمي بين "الشعب والنخبة". في المجمل ليست المعضلة الرئيسية لزمننا السياسي في تونس "مواجهة قيس سعيّد" بل "المشروع البديل" الذي يمكن أن يواجه خيبات الأمل الغالبة (التي تخترق الجميع، من يتمثل نفسه "شعبًا" أو "نخبة") من الاطمئنان إلى استبداد "صارم" وديمقراطية فاسدة كلاهما أظهرت التجربة عقمه التنموي وبالتالي استحالة ديمومته.
ليست المعضلة الرئيسية لزمننا السياسي في تونس "مواجهة قيس سعيّد" بل "المشروع البديل" الذي يمكن أن يواجه خيبات الأمل الغالبة والتي تخترق الجميع
نظم آخر الأسبوع الماضي، الصديق الحقوقي العياشي الهمامي ندوة (نظمتها الجمعية الحقوقية التي بادر بتأسيسها مؤخرًا) كانت، ضمنيًا، أشبه بمحاولة لتجميع "فلول" 18 أكتوبر. إذا كان للعياشي من استحقاق فهو دوره في ابتداع كيمياء "18 أكتوبر" الأصلية. كانت في سياقها تجسيرًا ضروريًا للصراع المؤدلج الوهمي بين "إسلام/علمانية" لمواجهة استبداد زين العابدين بن علي الذي لعب على تطبيع الاستبداد تحت شعار "مواجهة الأصولية" ليحوّل استبداده إلى أصولية رجعية فاسدة مانعة للتنمية ومن ثمة هيأ لحصول الثورة.
يبقى أن ميراث "18 أكتوبر" لم يترك أثراً حاسمًا على ما بعد الثورة، وانخرط أهم قواها عمليًا في حالة "استكبار" حزبوي مؤدلج وعصبية مقيتة لوراثة منظومة بن علي بعيدًا عن "توافقاتها" التي كانت أساسًا حول "قواعد لعبة" ديمومة الديمقراطية.
الآن في أقصى الحالات لا يمكن أن يكون هناك أي معنى جدي "للتجميع" ضد سلطة قيس سعيّد خارج مبدأ الدفاع عن "الحد الأدنى للحريات"
الآن في أقصى الحالات لا يمكن أن يكون هناك أي معنى جدي "للتجميع" ضد سلطة قيس سعيّد خارج مبدأ الدفاع عن "الحد الأدنى للحريات"، اتئلاف حقوقي واسع لا أكثر، يسعى استباقيًا لحماية مجال الحريات الذي لم يلتهمه بعد السعي شبه التسلطي للسلطة الحالية.
في المقابل، ينادي العياشي الهمامي الآن بمراجعات أمام نخبة تعتبر نفسها، خاصة أكثرها مسؤولية عن إخفاق ما بعد الثورة، بأنها طاهرة وإنها قامت "بما يجب أن تقوم به". كان الوضع سرياليًا: قاعة معبأة بجزء مهم من النخبة المعارضة لقيس سعيّد في أحد النزل الفخمة تشتم (في أغلبها) الشعبوية.. على قاعدة مديح النخبة.
بعضها كان من قبل، من أكثر من تصدر معركة استحثاث "صراع الهوية" لتشتيت أي استقرار ديمقراطي. إحدى المداخلات وصلت إلى حد الحديث عن أن أكبر نجاحات "العشرية" هي "حكمة النخبة السياسية" في المقابل "الشعب" يتميز بمشاعر "الحسد" والبغيضة. مثلما قلت سابقًا "العشرية" لم تكن لا "سوداء" ولا "وردية". كانت تجربة "رمادية" معقدة، فحسب. أكبر مراحل الفشل في مواجهة الشعبوية (كما حدث سابقًا في أمثلة أخرى عديدة) هو نخبوية نرجسية منتصرة لنفسها. كأننا نراوح مكاننا في التاريخ بلا أي دروس من تجارب الماضي.
أكبر مراحل الفشل في مواجهة الشعبوية في تونس هو نخبوية نرجسية منتصرة لنفسها. كأننا نراوح مكاننا في التاريخ بلا أي دروس من تجارب الماضي
إذا كان من "فضيلة" للمرحلة الشعبوية التي نمر بها (وهي حالة نموذجية عربيًا، أترك ذلك لكتاب أصارع نفسي من أجل إنهائه منذ أكثر من عامين)، إذا كان من "فضيلة" قلت لمرحلتنا الراهنة تونسيًا فهي أن نترك للزمن السياسي أن يأخذ وقته من مشاعر "الانتقام" و"التدمير" وأن نتمعن فيما حصل، أن نعود إلى الأمثلة والتجارب المقارنة. أن نحاول الإجابة على أهم سؤال: ما الخطأ الحاصل (What went wrong).
أحد اكتشافاتي في الفترة الأخيرة كتاب لاقتصادي كوري جنوبي يناقش باقتدار ومن زاوية مقارنة تجارب التنمية، أسباب نجاحها وفشلها. أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة كامبريدج ها جون شانغ (Ha-Joon Chang) أصدر سنة 2002 كتابًا يمكن اعتباره مرجعيًا في نقاش عقبات التنمية لدول مثل تونس "Kicking Away the Ladder: Development Strategy in Historical Perspective".
ما يميز كتاب شانغ أنه يناقش بالتجربة التاريخية الخط الاقتصادي النيوكلاسيكي (النيوليبرالي) السائد الذي يعتبر أن "النظرية" الليبرالية (مثلاً كما كتبها أدم سميث) هي الواقع. وبالمناسبة من زاوية الراهن نحن إزاء لحظة تاريخية مفصلية يلتقي فيها السياسي بالاقتصادي، الحالة الشعبوية الشبه تسلطية ببرنامج صندوق النقد الدولي الذي يمثل ملخصًا مكثفًا للترسانة الإيديولوجية النيوليبرالية.
إذا كان من "فضيلة" للمرحلة الشعبوية التي نمر بها في تونس أن نترك للزمن السياسي أن يأخذ وقته من مشاعر "الانتقام" و"التدمير" وأن نتمعن فيما حصل وأن نعود إلى الأمثلة والتجارب المقارنة
أهم مبادئ هذه الترسانة تتمثل فيما يلي: أن الدولة يجب أن تبقى في المؤخرة وأن السوق ينظم نفسه عبر "اليد الخفية" للسوق. أن هذه التجارب الناجحة إن لم تكن الليبرالية الاقتصادية فإن المؤسساتية السياسية (الديمقراطية الليبرالية) هي ما سمح بنجاحها. إن اقتصاديات ناجحة تستوجب "تجارة حرة" بلا تعريفات جمركية. وإن صناعة ناجحة والتجديد التكنولوجي تستوجب ترك "المبادرة الحرة" تتصرف بعيداً عن الدولة. وإن المؤسسات العمومية آيلة إلى الفشل وأن قاطرة التنمية هي مبادرات القطاع الخاص.
أهم إنجازات شانغ أنه كشف بالتفصيل أن هذا المخيال الليبرالي "الرومنسي" تقريبًا ليس له أي علاقة بالواقع.. أو بالتاريخ. إن اقتصاديات الدول المنتصرة والمهيمنة بدءًا من الولايات المتحدة وقبلها بريطانيا وفرنسا وألمانيا ثم التجارب اللاحقة مثل بلده كوريا الجنوبية (التي كان ناتجها الداخلي القومي الخام في مستوى تونس في خمسينيات القرن الماضي) لم تكن ممكنة لإلا بسياسات معاكسة تمامًا لما تنصح به الدول المهيمنة الدول التي لم تنجح، عبر المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد.
يرد شانغ على كل الإجابات الليبرالية الأخرى أيضًا، والتي يتم الاستنجاد بها عندما لا تنجح كما يحصل دائمًا تطبيقات النصائح النيوليبرالية الاقتصادية: بما في ذلك أن "المؤسساتية" (الديمقراطية) وسيادة القانون كانا شرط النجاح وأن (في حالة لم تصلح كل الإجابات الأخرى) هناك عيوب "مناخية" و"ثقافية" و"أخلاقية" حالت دون استيراد النموذج الناجح.
شانغ يوضح من خلال الأمثلة العنيدة للتجربة التاريخية أن نجاح التنمية كان رهين دولة قوية خططت بخليط من التعسف والفوقية السلطوية (الاقتصادية على الأقل) للنجاح. وأن الديمقراطية لم تكن شرط التنمية الناجحة بل كانت نتيجتها في أسوأ الأحوال أو أحد أسلحتها اللاحقة في أحسن الأحوال. في كل الحالات لا تخلق الديمقراطية، مثلما يعتقد بعض الرومانسيين الديمقراطيين لدينا، التنمية الناجحة. ذلك مستحيل عمليًا، ولم يحدث البتة تاريخيًا. هذا أهم إسهام لكتاب الكوري ها جون شانغ.
لا تخلق الديمقراطية، مثلما يعتقد بعض الرومانسيين الديمقراطيين في تونس، التنمية الناجحة. ذلك مستحيل عمليًا، ولم يحدث البتة تاريخيًا
سيكون ذلك صادمًا لأي مؤمن ليبرالي رهيف الحس. في كل الحالات سيكون صادمًا لمن يناقش معضلة الديمقراطية في تونس بمعزل عن حل المعضلة الاقتصادية. لن يكون قيس سعيّد أبديًا مثلما لم يكن غيره. تجاوزنا نقاش إمكان تجريب الديمقراطية. نحتاج الآن إلى البحث عن سبل ديمومتها. تحديدًا علاقة التأسيس الديمقراطي بنجاح التنمية. خاصة كيف نتفاعل مع "الدعم الغربي" الظاهر للانتقال الديمقراطي الشكلي دون الانصياع لنصائحه التنموية المضللة أو في أقل الحالات التي تحتاج مساءلات عميقة.
سواء كانت الديمقراطية نتيجة أم أحد عوامل نجاح التنمية، فإن التجربة التاريخية توضح بما لا يقبل الشك أن تمسك الناس بأي نظام سياسي مرتبط عضويًا بمدى ارتياحهم لوضعهم الاقتصادي والاجتماعي. تملك الديمقراطية ينبثق من الاطمئنان إلى الحالة الاقتصادية والاجتماعية، وهذا لا يبدو ممكنًا باستنساخ شكلي للنصائح النيوليبرالية.
التجربة التاريخية توضح بما لا يقبل الشك أن تمسك الناس بأي نظام سياسي مرتبط عضويًا بمدى ارتياحهم لوضعهم الاقتصادي والاجتماعي
ارتداد التجربة الديمقراطية ليس ناتجًا عن مؤامرة "ثورة مضادة" بل عن موازين قوى فشل التأسيس الديمقراطي في توفير شرطها التنموي. وبمعنى آخر فإن الاستكانة للبورجوازية الرثة التي أنتجتها التنمية الرثة لدولة الاستقلال لن ينتج إلا نخبة سياسية رثة. إذا كان هناك أي تميز لفئة من الناس يجعل منها "نخبة" تستحق تصدر المجتمع فستكون قدرتها على الإجابة نظريًا وخاصة عمليًا على هذه المعضلة.
أكتب هذه الكلمات وأنا منغمس عميقًا في نوستالجيا "ميلانكوليا" موسيقى المبدع الروسي العظيم رخمانينوف (تلك قصة أخرى تستوجب تفصيلًا). يمكن أن يبدو ذلك بعيدًا جدًا عن عالم صراع الشعبوية والنخبوية في تونس الرتيبة. لكن هذه اللحظات الرتيبة بالذات التي تمثل فرصة استثنائية لإعادة تمثل "الأساسي". أن الصراع السياسي بلا معنى دون أن يكون تمثلنا للهدف من السياسي هو تحسين وضع الإنسان وليس صراعات "الإيقو" العقيمة. وإلا فنحن إزاء الإخفاق المتكرر… نوع من التسليم بالقدرية (fatalism). هذا الشعور تحديدًا ما يستحضر لدي موسيقى العظيم رخمانينوف، "الذي كتب ما نشعر به".
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"