أطلق المعهد العربي لرؤساء المؤسسات صيحة فزع قبيل استقبال السنة الجديدة 2020 بعد عام حمل مزيدًا من التدهور الاقتصادي، وضعفًا في التخطيط وتعميقًا للتبعية الاقتصادية بفرض مزيد من الشروط الإلزامية للجهات المانحة. وهو تدهور يأتي في ظل غياب الإصلاحات الجوهرية وضعف الدولة المؤدي إلى استشراء الفساد في مؤسساتها ما أدى إلى بناء ديمقراطي غير فعال، وذلك وفق مخرجات المعهد المذكور بمناسبة دورته الرابعة والثلاثين لـ"أيام المؤسسة" المنعقد في سوسة تحت عنوان "المؤسسة والدور الجديد للدولة".
واعتبر المعهد أن ضعف الدولة جعلها لا تنخرط بيسر في ديناميكية الإصلاح ليؤدي التباطؤ في النموّ إلى تعميق حالات العجز والتفاوت الاجتماعي والجهوي، داعيًا إلى تبني إصلاحات جذرية عادلة اجتماعيًا توفر الاطمئنان لمواطن عصفت به التجاذبات السياسية في السنوات الأخيرة وأثرت على سير مرافق الدولة.
اعتبر المعهد العربي لرؤساء المؤسسات أن ضعف الدولة جعلها لا تنخرط بيسر في ديناميكية الإصلاح ليؤدي التباطؤ في النموّ إلى تعميق حالات العجز والتفاوت الاجتماعي والجهوي
وتتواصل، في الأثناء، مشاورات التشكيل الحكومي ببطء شديد وتضيق بالتالي الآجال الدستورية لتركيز الحكومة الجديدة بعد انتخابات رئاسية وتشريعية مرّت بمنعرجات خطيرة كادت تعصف بمسار الديمقراطية الناشئة، وهو ما أثر على سير المؤسسات الاقتصادية والمرافق الاجتماعية التي لا تزال تنتظر الإصلاحات الشاملة.
في الوقت ذاته، يناقش مجلس نواب الشعب قانون المالية الجديد في ظل صورة مخجلة للصراعات داخل المؤسسة التشريعية، وتظل الخشية من أداء بطيء سليل المجلس السابق الذي ترك وراءه مشاريع قوانين في الرفوف ولم يستكمل تركيز الهيئات الدستورية.
اقرأ/ي أيضًا: قانون المالية التكميلي 2019.. تسوية للحسابات أم ترحيل للأزمات؟
أما مؤسسة الرئاسة فهي لا تزال على مسافة بينها وبين باقي المؤسسات إذ مرّ على تنصيب رئيس الجمهورية قيس سعيّد اليمين خمسون يومًا، ويبدو أن الصلاحيات المحدودة لم تجعل من ديناميكية هذه المؤسسة في حركية ونشاط يؤثر مباشرة على الوضع العام في البلاد على الأقل في الوقت الحاضر في علاقة بمشاورات تشكيل الحكومة.
وعودة للأزمة الاقتصادية، قدّر المعهد العربي لرؤساء المؤسسات أن المنوال التنموي الخماسي للحكومة 2016-2020 الذي تضمن برنامج مكافحة الفساد وقانون الاستثمار الجديد وتحسين مناخ الأعمال لم يقدم نتائج اقتصادية كبيرة. وتحدث عما اعتبره غياب التنفيذ الجاد للخيارات القادرة على تحسين القدرة التنافسية وتعزيز جاذبية مواقع الإنتاج من نجاعة البنية التحتية الخاصة بالنقل، والجانب اللوجستي، وتحفيز الخدمات المرتبطة بالصناعة والتسهيل الإداري للتجارة الخارجية.
وقد شهدت تونس، بالتزامن مع الأزمة الاقتصادية في السنوات الأخيرة، تصاعدًا للتحركات الاجتماعية مما يدعو إلى مراجعة السياسات الاجتماعية والاقتصادية التقليدية وتبني مشاريع جديدة قادرة على مواجهة العوائق التنموية التي تتخبط فيها البلاد.
وكشفت كل هذه المعوقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية عن "أزمة قيم" أو "أزمة أخلاقية" تعيشها البلاد باعتبار أن "غياب الأخلاق هو عائق حقيقي للتنمية فالقيم تولّد دائمًا الالتزام وتجعل من الجهات المعنية تتبنّى إصلاحات وأفكار جديدة حسب ما ورد في نشرية للمؤسسة خلال الدورة.
الطيب البياحي (المعهد العربي لرؤساء المؤسسات): لا بدّ من نقاش حول علاقة المؤسسة بالدولة
في كلمته، أكد رئيس المعهد العربي لرؤساء المؤسسات الطيب البياحي أن تونس عرفت انتخابات رئاسية وتشريعية حرة وشفافة وقد ساهم التونسيون في اختيار رئيسهم وممثليهم في كنف الحرية "وهذا ما يجعلنا نعتقد أن الأمل له مكان" وفق قوله.
الطيب البياحي: لابد من نقاش حيوي حول الدولة في علاقتها بالمؤسسة في حوار نزيه يجب أن يغيّر الأمور حتى لا نبقى على ما نحن عليه
وأضاف، في المقابل، أن المشاكل لا تزال قائمة وأن المسؤولين الجدد على وعي بها، غير أن الوضع يتطلب اليقظة خاصة على مستوى المالية العمومية في ظل تواصل العجز التجاري، والبطالة المتفاقمة وتدهور الخدمات العامة خاصة الصحية منها.
ودعا إلى وجوب أن تضع الطبقة السياسية، حكومة ورئيسًا ونقابة وأحزابًا ونخبًا، ما وصفها بحساباتها السياسوية لتفكر في إيجاد حلول للمشاكل بما يستجيب لتطلعات التونسيين، مؤكدًا على ضرورة بعث ديناميكية جديدة لإصلاح الدّولة. وقال، في هذا الإطار، إن "الدولة كما المؤسسة هما شريكان يجب أن يعملا معًا، لابد من نقاش حيوي حول الدولة في علاقتها بالمؤسسة في حوار نزيه يجب أن يغيّر الأمور حتى لا نبقى على ما نحن عليه".
محمد الناصر (الرئيس السابق للبرلمان): النظرة المستقبلية غائبة
من جانبه، أقر الرئيس السابق لمجلس نواب الشعب محمد الناصر خلال مداخلة له في الجلسة الافتتاحية أن تونس تعيش أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية مؤكدًا، في الآن ذاته، إلى وجود تطلع في مرحلة الانتقال الديمقراطي لما سيكون عليه الغد مشيرًا إلى مسار الدولة التونسية منذ نشأتها وتطورها وصولًا إلى اليوم.
واعتبر أن الدولة الوطنية منذ الاستقلال أخذت على عاتقها تلبية حاجيات المواطنين وكان الشعب التونسي قابلًا لتطبيق القوانين في ظل عقد اجتماعي بين الدولة والشعب لكن الدولة أخفقت في إعطاء حظوظ الأجيال المستقبلية، وفق تأكيده.
محمد الناصر: الدولة ليست أشخاصًا وإنما ذاتًا معنوية تخدم المصلحة العامة وتحتاج إلى تصرف المواطن بمسؤولية
اقرأ/ي أيضًا: بعد توقعات البنك الدولي وصندوق النقد.. الاقتصاد التونسي خطوة إلى الوراء؟
وأضاف أن الحرية بعد الثورة أصبحت واقعًا ملموسًا وهو ما تميزت به تونس إلى درجة أنها أظهرت شططًا في التعارض مع تطبيق القانون وفق قوله متحدثًا أن "الدولة فقدت هيبتها بعد الثورة في ظل تجاوز السلطة والفساد في التسيير وتفكك العقد الاجتماعي بين الشعب والدولة التي استمرت رغم عدم قدرتها على تلبية احتياجات المواطنين".
وأشار الناصر إلى تبني النظام السياسي الجديد، بالتحول من نظام رئاسي إلى آخر برلماني والسلطة في يد ممثلي الشعب البرلمان مع انقسام السلطة التنفيذية إلى رئاسة جمهورية ورئاسة حكومة، وهو ما اعتبره "إشكالًا" مشيرًا، في ذات الإطار، إلى تقلّص مسؤولية الدولة مع بروز مؤسسات وهيئات مستقلّة مثل الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وغيرها.
وقال، في نفس السياق، إن السلطة لم تعد مركزية مع إرساء الحكم المحلّي الذي لا يزال يتطوّر شيئًا فشيئًا حسب تعبيره. فيما اعتبر، في المقابل، أن توزيع المسؤوليات حال دون الاعتداء على الحريات وأعطى امتيازات للمعارضة بترؤسها لجنة المالية بالبرلمان على سبيل المثال.
وذهب محمد الناصر إلى أن تونس تعيش مرحلة تاريخية متحدثًا عن غياب النظرة المستقبلية في الفترة الماضية وانحصارها في حدود المدة النيابية فقط، مشددًا أن "الدولة ليست أشخاصًا وإنما ذاتًا معنوية تخدم المصلحة العامة وتحتاج إلى تصرف المواطن بمسؤولية على اعتبار أن المواطنة تتضمن الحقوق والواجبات".
وتحدث الرئيس السابق للبرلمان عن الدور الاجتماعي للمؤسسة الاقتصادية داعيًا إياها للتصرف كخلية اجتماعية معتبرًا أن كل ما يتحقق من ثروة هو ثروة وطنية رغم أن المؤسسة تخلق بعض النتائج السلبية على المجتمع على حد تعبيره.
يوسف الشاهد: ليس الدولة القوية هي الدولة المستبدة
بدوره أكد رئيس حكومة تصريف الأعمال يوسف الشاهد في مداخلته أن الأزمة التي تتخبط فيها البلاد هي أزمة سياسية وأخلاقية قبل أن تكون أزمة اقتصادية واجتماعية معتبرًا أن الأزمة السياسية كائنة وأن تنقيح الدستور لن يحل المشكل بالضرورة.
وتحدث عن ضرورة توفر "الإرادة السياسية القوية" لتجاوز الأزمة وإرساء ثقافة تعاقدية بين الدولة والحكومة من جهة والقطاعات المنتجة والخاصة من جهة أخرى. وقال إن الدولة مطالبة بتوفير موارد إضافية موضحًا أن أكبر تحدي هو عبء المؤسسات العمومية مشيرًا إلى ضرورة إعادة الهيكلة للمؤسسات في النقل والصناعة خصوصًا.
يوسف الشاهد: الأزمة التي تتخبط فيها البلاد هي أزمة سياسية وأخلاقية قبل أن تكون أزمة اقتصادية واجتماعية وتنقيح الدستور لن يحل المشكل
وأكد على وجوب الاتفاق على دور الدولة في الاقتصاد مشيرًا إلى وجود أشخاص ترفض عودة الدولة القوية لأنها حسب رأيهم مدخل للاستبداد وهذا سوء فهم وجب رفعه قائلًا "ليست الدولة القوية هي الدولة المستبدة".
ودعا الشاهد إلى تنقيح القانون الانتخابي بتغيير طريقة الاقتراع وكذلك شروط الترشح على اعتبار أن القانون الحالي يسمح لترشح كل من هبّ ودبّ ويعتبر هذا من الأولويات على المدى القصير قبل 2024. كما دعا لإعطاء نجاعة أكبر للبرلمان بمراجعة قانونه الداخلي لرفع كل التعطيلات في تمرير القوانين مشيرًا إلى أنه من بين 263 مشروع قانون مودعًا لا يزال 100 مشروعًا عالقًا مثل قانون الصرف وقوانين مرتبطة بالبنك الدولي.
واعتبر رئيس حكومة تصريف الأعمال أن قطاعي الأمن والدفاع مثلا أولوية في الفترة السابقة ببلوغ ميزانيتهما 7000 مليون دينار مؤكدًا أن هذا الاستثمار هو أولوية رغم أنه على حساب قطاعات أخرى مثل التنمية الجهوية وخلق مواطن الشغل.
ويتبين من خلال المداخلات المقدّمة في تظاهرة "أيام المؤسسة" من شخصيات ممارسة للسلطة اليوم، أن العجز عن التغيير لامس كافة مرافق السلطة وأثر مباشرة على مختلف المؤسسات بجميع أصنافها، وهو ما يستلزم وعيًا لتركيز دولة قويّة وفعالة ومرنة في نفس الوقت تطبق القانون، وتقدم على إصلاحات جذريّة، وتحارب الفساد وأيضًا قادرة على تحسين مناخ الأعمال في ظل عدالة اجتماعية وفضاء رحب للحريات.
اقرأ/ي أيضًا:
الجمعيات المالية.. حلول اجتماعية لدعم القدرة الشرائية في تونس