14-أبريل-2019

لوبيات تضغط من أجل منع التقليص من توريد بعض المواد (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

في نقد لتعامل الحكومة مع الأزمة الاقتصادية خاصة في علاقة باحتياطي العملة الصعبة، تساءل أحدهم عن المفارقة التونسية بين انهيار مخزون العملة الصعبة من جهة وحصول ماركات عالمية على رخص بطريقة مريبة من جهة أخرى لتحقق أرباحًا ترسلها إلى البلد الأم على حساب مخزونات العملة الصعبة.

تأتي هذه المعضلة لتعمّق عجز الميزان التجاري الذي بلغ 19 مليار دينار سنة 2018 (مقارنة بـ12 مليار دينار عام 2015) في رقم تاريخي لم تعرفه تونس منذ استقلالها، وهو ما يطرح السؤال حول جديّة الحكومة في الحدّ من الواردات العشوائية التي تخلّ بالتوازنات الاقتصادية، خاصة في ظل محدودية نسق الصادرات. وقد أعلنت المعارضة، بداية سنة 2019، تشكيل لجنة تحقيق حول "أسباب وتداعيات عجز الميزان التجاري الذي بلغ مستويات قياسية خطيرة جدًا".

بلغ عجز الميزان التجاري 19 مليار دينار سنة 2018 في رقم تاريخي لم تعرفه تونس منذ استقلالها وهو ما يطرح السؤال حول جديّة الحكومة في الحدّ من الواردات العشوائية 

وكانت قد أقرت الحكومة، في نهاية مارس/آذار 2019، زيادات في أسعار المحروقات بتعلّة التحكّم في الموازنات باعتبار أن العجز الطاقي يمثل ثلث العجز التجاري. وزير المالية السابق والنائب الحالي عن حركة النهضة سليم بسباس أكد بدوره، في تصريح لـ"ألترا تونس"، أن العجز الطاقي يمثل أحد أهم الأسباب في تفاقم العجز التجاري وذلك إضافة إلى تراجع إنتاج تونس من المحروقات الذي أصبح لا يفي إلا بنسبة 50 في المائة من الاحتياجات وفق قوله. وأشار أيضًا إلى معضلة نقص الصادرات من القطاعات الحيوية مثل الفسفاط.

وخلال العام الجاري، بلغ العجز التجاري حتى موفى شهر مارس/ أذار ما يقارب 3973،2 مليون دينار مقابل 3655 مليون دينار خلال نفس الفترة سنة 2018، كما زاد العجز الطاقي ليبلغ 1411،5 مليون دينار (35.5 في المائة من إجمالي العجز) مقابل 1381 مليون دينار خلال الثلاثي الأول في السنة الماضية.

تفاقم عجز الميزان التجاري في تونس بين 2015 و2018

اقرأ/ي أيضًا: الترفيع في نسبة الفائدة المديرية.. هل يمثل حلًا؟

من جانب آخر، يمثل الانهيار المتواصل للدينار التونسي أكبر خطر على الميزان التجاري إذ يحبط تراجع العملة المحلية جميع محاولات الحكومة في التخفيف من حدة العجز. في هذا الجانب، أكد وزير المالية الأسبق والخبير الاقتصادي حكيم بن حمودة، في حديث لـ"ألترا تونس"، أنه حتى في صورة تساوي الواردات والصادرات ستواصل الواردات الارتفاع لوحدها وذلك في ظل التراجع المستمر للعملة المحلية. ويعرف الدينار التونسي منذ سنة 2016 تراجعًا تاريخيًا حيث بلغت قيمته 3.05 للدولار الواحد و3.43 دينار للأورو الواحد.

سليم بسباس، أكد في حديثه معنا أيضًا، أن تراجع الدينار لا يخدم بأي حال من الأحوال الميزان التجاري "مثلًا قمنا بمفاوضات مع تركيا وتمكنا من تحسين الاتفاقيات التجارية من أجل تعديل العجز التجاري معها ولكن انهيار الليرة التركية جعل هذه الجهود تذهب هباءً".

ارتفاع أسعار العملات الأجنية مقابل الدينار التونسي بين 2015 و2019

في محاولة لسد هذا النزيف وسعيًا للحد من تدهور الاحتياطات من العملة الصعبة، توجه البنك المركزي برسالة إلى البنوك التجارية حول موضوع إجراءات فتح الاعتمادات لتوريد المنتجات غير الضرورية التي تعتبر غير ذات أولوية مع تقديم قائمة مفصلة في هذه المنتجات. وجاء في رسالة البنك المركزي أنه" تبعًا لتفاقم عجز الميزان التجاري وتحسبًا لتواصل تراجع مستوى الاحتياطات من العملة، تقرر تفعيل الاقتراح المنبثق عن المشاورات داخل الجمعية المهنية للبنوك والمؤسسات المالية بربط فتح خطابات الاعتماد لتوريد المواد غير الضرورية التي تعتبر بالنظر للظرف الاقتصادي الراهن غير ذات أولوية بتوفير الموردين المعنيين ضمانًا مسبقًا من أموالهم الذاتية يغطي قيمة الواردات موضوع خطاب الاعتماد".

وتم تحديد قائمة بـ204 منتجًا غير ضروري في قائمة المواد المورّدة، لكن ورغم هذه الجهود المبذولة منذ سنة 2017 إلا أن عملية التوريد العشوائي للمواد غير الضرورية أو غير ذات أولوية لا تزال متواصلة.

فتحي الشامخي لـ"ألترا تونس": الحكومة غير قادرة على السيطرة على التوريد في ظل ضعفها في مجال المراقبة

الخبير الاقتصادي والنائب عن الجبهة الشعبية فتحي الشامخي، أكد لـ"ألترا تونس" تعليقًا على تواصل التوريد العشوائي، أن المشكلة لا تكمن في القرارات بل في المراقبة مشيرًا إلى أنه يعتقد أن الحكومة غير قادرة على السيطرة على التوريد في ظل ضعفها في مجال المراقبة حتى أصبحت الأمور خارج السيطرة وفق تعبيره.

اقرأ/ي أيضًَا: كيف تطورت مؤشرات الاقتصاد التونسي منذ 2010 وإلى اليوم؟

وأضاف أنه يمكن التحكم في عديد المواد غير أن تونس تستوردها بكثافة مشيرًا بالخصوص لاستيراد أعداد هامة من السيارات. لكن في المقابل، أكد بسباس، في حديثه معنا، أن تونس ملزمة بإتفاقيات دولية لا يمكنها فرض قيود جمركية ومالية على أي مواد يتم توريدها. أما حكيم بن حمود كان له رأي أخر، إذ تحدث عن وجود لوبيات تضغط على الدولة من أجل المواصلة في نهج التوريد الحر قائلًا: "هناك مؤسسات للتجارة الخارجية نشاطها مرتبط بالتوريد وستفعل أي شيء من أجل إنقاذ نفسها".

في محاولة لتتبع مدى جدية الدولة في التحكم في الواردات، حاولنا تتبع تطور قيمة توريد السيارات التي تعتبر من المنتجات غير الضرورية، ووجدنا أنها ارتفعت بشكل مطرد من 1317.6 مليون دينار سنة 2013 إلى ما يقارب 1726.5 مليون دينار سنة 2017 أي ارتفاع بأكثر من 500 مليون دينار وهو ما فاقم العجز التجاري. كما تحصلت، في نفس الإطار، أكثر من 3 ماركات عالمية لإنتاج السيارات على رخص للانتصاب في تونس منذ 2011.

حكيم بن حمودة (وزير مالية سابق) لـ"ألترا تونس": توجد لوبيات في تونس تضغط على الدولة من أجل المواصلة في نهج التوريد الحر

كما بلغت واردات الأقمشة سنة 2017 ما يقارب 2700 مليون دينار فيما وصلت قيمة واردات لعب الأطفال 129 مليون دينار مع بلوغ واردات السجائر 297 مليون دينار.

وعلى مستوى المبادلات مع البلدان، بلغ العجز التجاري مع الصين عام 2018 ما يقارب 5 مليار دينار، فيما حلت إيطاليا في المرتبة الثانية بقيمة 2.5 مليار دينار متقدمة على تركيا التي بلغ العجز التجاري معها 2 مليار دينار.

ارتفاع قيمة توريد السيارات في تونس بين 2013 و2017

يعتبر فتحي الشامخي، في ختام حديثنا معه، أن مشكلة العجز التجاري هي أكبر من التوريد العشوائي فتونس، حسب رأيه، دخلت في رحى التبادل الحر في ظرفية اقتصادية صعبة يعيشها الاقتصاد التونسي. يقول: "نحن نعيش مرحلة خطيرة، الحكومة متجهة نحو التحرير الكامل للمبادلات وفتح السوق التونسية، هناك تسريع في نسق تحرير المبادلات وأعتقد أنه بعد إمضاء اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي ستزداد الأمور سوءًا".

ويظل السؤال، بنهاية المطاف، حول قدرة الحكومة التونسية، أو جديّتها، في فرض التحكم في الواردات العشوائية التي تستنزف رصيد تونس من العملة الصعبة من جهة أولى، وتفاقم العجز التجاري من جهة ثانية. وترتبط هذه القدرة أو الجديّة بمدى صرامة الحكومة في الوقوف أمام لوبيات متنفذة تقوم مصالحها على التوريد الحرّ دون أي رقيب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل تصبح تونس قطبًا إقليميًا للنقل الجوي والبحري في اتجاه إفريقيا؟

"استهلك تونسي 619".. هل تنجح حملة إنقاذ الدينار التونسي؟