18-أكتوبر-2019

موجة وعي آخذة في التصاعد في صفوف الشباب على وقع زخم الانتخابات الرئاسية (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

مقال رأي

 

حقق رئيس الجمهورية المنتخب قيس سعيّد، الذي اُعتبر مروه إلى الدور الثاني مفاجأة، فوزًا ساحقًا في الانتخابات الرئاسية بفارق عريض عن منافسه، وذلك بفضل حشد أنصاره من مختلف التوجهات والحساسيات الأيديولوجية والسياسية، بيد أن اللافت أن أكثر من 30 في المائة ممن انتخبوا سعيّد في الدور الثاني كانت من شريحة المقاطعين التي لم تشارك في الانتخابات التشريعية.

ومنذ الثورة وإلى وقت قريب، كانت الحياة السياسية في تونس تعاني حالة من العزوف الرهيب لدى الشباب التونسي الذي تتراوح أعمارهم بين 18 و 39 سنة، وهو عزوف يُفسر بحالة الترذيل التي تستهدف الحياة السياسية إضافة إلى تقليدية العمل السياسي، وما ظهر انحصارًا للمنافسة أساسًا بين عائلتين سياستين/ماكينتين، الأولى تسمى نفسها أنها بورقيبة وسطية تقدمية تضم عددًا من الأحزاب، وأخرى إسلامية في مقدمتها حركة النهضة.

ومنذ الاستقلال، عاشت تونس على مدى أكثر من 30 سنة تحت الحكم البورقيبي، هو حكم الحزب الواحد بأفكار شخص واحد ولا مكان للمعارضة ولا لاختلاف الرأي، لكن هذا الشخص الواحد على الأقل كان يمتلك رؤية تقوم على الاستثمار في الصحة والتعليم باعتبارهما عماد تقدم الدول. وقد نجحت هذه الرؤية إلى حد بعيد في المسير بتونس على الأقل خارج السرب العربي في تحقيق نسب عالية من التمدرس ومكافحة الأمية، وذلك قبل أن يبدأ هذا النظام بالتداعي ليأخذ مكانه نظام بن علي الذي يُعتبره كثيرون صورة مشوهة جدًا من نظام بورقيبة.

منذ الثورة وإلى وقت قريب، كانت الحياة السياسية في تونس تعاني حالة من العزوف الرهيب لدى الشباب التونسي تُفسّر بحالة الترذيل التي تستهدف الحياة السياسية إضافة إلى تقليدية العمل السياسي

وعمل نظام بن علي على استهداف المعارضين وانتهاك احقوقهم وقمع حرية الرأي، لكن يُعتبر أنه نجح بمستوى معين في الحفاظ على توجه الدولة القاضي بإيلاء الأهمية للتعليم والصحة. ولكن هذا التوجه الذي تسير عليه الدولة منذ 50 سنة على الرغم من أنه أنتج أجيالًا متعلمة وجعل تونس تتصدر المراتب الأولى في التعليم ونسب التمدرس، فقد أنتج أيضًا جيلًا من العازفين عن ممارسة السياسة.

وتعلقت الآمال إبان الثورة التونسية عام 2011 بهدف إعادة الشباب إلى الحياة السياسية غير أن عدم تحقيق الوعود الانتخابية وتدهور الوضع الاقتصادي وعدم حل قضايا الشباب وبالخصوص قضية التشغيل هي أسباب أعادت الجميع إلى النقطة صفر.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا يصوّت الشباب بكثافة لقيس سعيّد؟

وتتعدّد أسباب العزوف أهمها عجز الأفكار التي تنادي بها الأحزاب المعروفة عن استدراج الشباب إلى الحياة السياسية. واليوم بعد سنوات طويلة من التغيير الذي أحدثه الشباب التونسي، وجدت هذه الشريحة من المجتمع نفسها منحصرة بين قوتين، الأولى عبارة عن مجموعة من الأحزاب التي تنتمي إلى العائلة الوسطية التي تؤمن بأفكار الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة و التي تثمن منجزاته منذ الاستقلال ووجوب المسير في نفس طريق التأسيس، و القوة الثانية هي التي تعتبر نفسها ثورية ذات مرجعية إسلامية ممثلة في حركة النهضة التي تؤمن بالتغيير  الحذر مراعاة لخصوصية المجتمع المحافظ وبضرورة تغيير سياسات الدولة منذ الاستقلال، ويعتبر البعض أن هذ التيار حاول المس من النمط المجتمعي في البلاد.

تعلقت الآمال إبان الثورة التونسية عام 2011 بهدف إعادة الشباب إلى الحياة السياسية غير أن عدم تحقيق الوعود الانتخابية وتدهور الوضع الاقتصادي أسباب أعادت الجميع إلى النقطة صفر

هذا الإستقطاب الثنائي دفع بالبعض إلى إطلاق قاعدة إنتخابية تقول "إذا أردت الفوز في الانتخابات يجب أن تحظى بدعم إحدى القوتين وإلا فالأمر مستحيل"، ولكن، في المقابل، فشلت هاتان القوتان في تحقيق وعودها الانتخابية رغم تحالفهما في إطار ما يسمى بالتوافق منذ سنة 2014. ودفع هذا الفشل الذريع بنسبة مهمة من الشباب إلى الالتفات شيئًا فشيئًا إلى عالم السياسة عبر نوع جديد من التنظم والنشاط بدأ بحملة "مانيش مسامح" التي وصفتها الصحافة الأجنبية بنوع جديد من ممارسة السياسة.

وكانت الانتخابات البلدية عام 2018 مناسبة مهمة لنتأكد من عودة الشباب إلى ممارسة السياسية، إذ أن أكثر من 52 في المائة من المرشحين لم تتجاوز أعمارهم 35 سنة، كما أن أغلبهم من فئة المستقلين، وهنا يعيدنا هذا التفصيل إلى اليتم السياسي الذي يعاني منه الشباب بسبب عدم وجود قوى سياسة تمثله ما دفعه إلى المشاركة في الانتخابات البلدية بكثافة و لكن بقائمات مستقلة.

لم تقتصر موجة الوعي الآخذة في التصاعد على الانتخابات فقط، بل إن الأمر تجاوز ذلك ليشمل حملات مقاطعة للغلاء، وتنظيم حملات نظافة، واقتراح حلول في إطار مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي

ولم تخالف الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرتين توقعات المتابعين، إذ شارك الشباب بالخصوص في الانتخابات التشريعية بنسبة مهمة من خلال القائمات المستقلة التي تجاوز عددها 700 قائمة. كما نزلت هذه الشريحة العمرية بأعداد كبيرة للتصويت في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها. وبغض النظر إلى من آلت أصواتهم، تبين الإحصائيات أن زخم الدور الثاني للانتخابات الرئاسية دفع نسبة مهمة من المقاطعين إلى العودة إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم وهو ما يراه كثيرون صحوة أخذة في التصاعد وكسرًا لقاعدة الانتخابات القديمة.

ولم تقتصر موجة الوعي الآخذة في التصاعد على الانتخابات فقط، بل إن الأمر تجاوز ذلك ليشمل حملات مقاطعة للغلاء، وتنظيم حملات نظافة، واقتراح حلول في إطار مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي. وبغض النظر عمّا إذا كانت الحملات الأخيرة حملة وعي حقيقي أم زخم مجتمعي وقتي سينتهي في قادم الأيام، فإن فعل المشاركة في هذه الحملات هو في حد ذاته تغيير في اهتمامات الشباب التونسي. وحسب المتابعين، سيظل هذا الضيف الجديد على السياسة يتحرك بحرية في إطار الاستقلالية بعيدًا عن الأحزاب والعمل السياسي التقليدي إلى أن يجنح شيئًا فشيئًا إلى التنظم وتكوين قوة جديدة بين ماكينتين تقليديتين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بنت "السبعطاش" أصابتها حجرة سقراط

للثورة صناديق تحميها