لم يكن مساء 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 يومًا عاديًا في تونس عقب إعلان فوز المترشح المستقل قيس سعيّد في الانتخابات الرئاسية، فوز اهتزت له شوارع البلاد ورُفرفت أعلام تونس وفلسطين عاليًا وصدحت الحناجر بأغاني الثورة وأهازيجها. وتناقلت الشاشات العربية والعالمية فرحة عارمة للجماهير فيما اُعتبر استكمالًا حماسيًا لمسار الثورة التونسية.
وغزت مواقع التواصل الاجتماعي واستأثرت بالتحليلات قراءات مختلفة لفرحة الإعلان عن فوز قيس سعيّد بالتزامن مع مبادرات مواطنية كحملات لمقاطعة المواد الاستهلاكية مرتفعة الأسعار وحملات نظافة عمّت مختلف مدن البلاد، وأخرى تطالب بإلغاء الحصانة البرلمانية، فيما بدت عودة للنفس الثوري بين التونسيين لتُشبّه أيام ما بعد 13 أكتوبر 2019 بأيام ما بعد 14 جانفي 2011.
"ألترا تونس" تحادث مع محلّلين وباحثين حول العلاقة بين الفوز الساحق لقيس سعيّد بما بدت عودة للروح الثورية بين التونسيين الذي أكدوا على قدرتهم على تغيير موازين القوى بعيدًا عن الماكينة الانتخابية والدعاية الحزبية.
اقرأ/ي أيضًا: انتخابات 2019.. حتّى يبلغ الفرز مداه
صلاح الدين الجورشي (محلّل سياسي): استعادة لروح الثورة
يرى المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي احتفاء المواطنين التونسيين بفوز قيس سعيد بأنها "ليست استكمالًا لمسار الثورة بقدر ما هي استعادة لروح وشعارات الثورة" مضيفًا أن المبادرات الشعبية التي بدأت تبرز شيئًا فشيئًا هي تعبير أن جزءًا هامًا من التونسيين يبحثون عن القدوة الصالحة وعن الشخص الذي يطمئنون إلى سلوكه ويعتقدون بأن أهدافه لا تتناقض مع مصالحهم الحيوية، وهو ما خلق ديناميكية جديدة قائمة على التطوّع وعلى الرغبة في خدمة تونس، وفق قوله.
صلاح الدين الجورشي: لو يتم التفاعل الجدي والايجابي والمتواصل بين القيادة السياسية ممثلة في رئاسة الجمهورية وبين المواطنين يمكن التغلب على حسابات الأحزاب السياسية
ودعا محدثنا، في تصريحه لـ"ألترا تونس"، إلى ضرورة تنمية هذه الروح والعناية بها والاستفادة من التجربة الأولى أي الثورة، مؤكدًا أن هذه الروح "كانت موجودة قبل أن يتم ضربها بسرعة وتصطدم بالواقع وبالمناورات وبحسابات سياسية ثم اصطدمت بالخصوص باللوبيات الجديدة القوية التي صعدت فوق السطح".
ويقدّر الجورشي أنه "لو يتم التفاعل الجدي والايجابي والمتواصل بين القيادة السياسية ممثلة في رئاسة الجمهورية وبين هؤلاء المواطنين يمكن التغلب على حسابات الأحزاب السياسية".
فيما اعتبر أن الاحتفاء بفوز قيس سعيًد "لم يكن احتفاءً باختيار شعبي قائم على عبقرية الشخص أو عن برنامج فريد وإنما دلالة على أن الشعب قادر على تغيير موازين القوى واحتفاء بقدرة هذا الشعب على التغيير جعل البعض من التونسيين يقرّون بأنه لأول مرة يغيّر ويّقرر ما يريد، ولا تتم اللعبة خارج الصندوق".
وأفاد المحلّل السياسي أن انعكاسات نتيجة الانتخابات الرئاسية على الحياة السياسية "تتمثل في تقديم الأخلاق والقيم على التكتيك السياسي والحسابات الضيقة" معتبرًا أنه ستكون مستقبلًا "نوع من المعركة بين الأخلاق والسياسة" متسائلًا إن كان سيحل الانسجام بينهما في المرحلة القادمة أو ستتواصل الخصومة لأن التجربة التونسية سقطت بسرعة في خلق التناقض بين الأخلاق والسياسة وأصبحت هذه الأخيرة بدون أخلاق، وفق تأكيده.
عادل بن عبد الله (باحث): قيس سعيّد جمّع بين الأضداد
من جهته، قال الباحث عادل بن عبد الله، في حديثه لـ"ألترا تونس" إن ما شهدته تونس منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة "هو وجه من وجوه موجة ثورية جديدة" معتبرًا أن نبيل القروي كان الورقة الأخيرة للمنظومة على المستوى السياسي كي تبقى مسيطرة على مقاليد السّلطة ولكنه فشل في أن يكون الكتلة الأولى في البرلمان وفشل في أن يصل للرئاسة وهو ما يستحضر اللحظة الثورية، وفق تعبيره.
وأضاف أن "قيس سعيًد يعبّر تقريبًا على روح الثورة" لأنه لأول مرة في تونس توجد شخصية قادرة على تجميع الأضداد سواء على المستوى الحزبي أو الأيديولوجي، بأن يجمع أقصى اليمين وأقصى اليسار وهو ما لم يقدر على فعله أي شخص في مشروع وطني جامع، حسب تأكيده.
عادل بن عبد الله: ما شهدته تونس منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة هو وجه من وجوه موجة ثورية جديدة وسعيّد يعبّر تقريبًا عن روح الثورة
واعتبر أن رئيس تونس الجديد قادر على أن يكون قاطرة وركيزة لما أسماها بالكتلة التاريخية مبينًا أن الأطراف السياسية والأيديولوجية وجدت جزءًا من هويتها في قيس سعيد، ولكن قال إن ذلك يتوقف على ما سينجزه وعلى طبيعة مشاريع القوانين التي سيقدّمها، وعلى طبيعة علاقته بالسلطة التنفيذية في القصبة والتشريعية في باردو، وفق تقديره.
وتحدث بن عبد الله عن "نوع من التفاؤل والنظرة التي ابتعدت عن التشاؤم الذي يشيعه الإعلام بالأخصّ"، مشيرًا إلى أن "تونس يوم فوز سعيّد حملت وجهين، وجه احتفالي يمثله عامة الشعب ووجه بؤس أو نقمة على النتائج تمثله عدة قنوات إعلامية ذات نسبة مشاهدة عالية لم تقبل النتائج بل حاولت تتفيه الانتصار وتجعله نوعًا من الهزيمة للمدنية وللحداثة، وكأن تونس افتكّت من أجانب بالرغم من أن من انتصر انتخب من حوالي 3 ملايين تونسي أي 72.7 بالمائة من الناخبين".
اقرأ/ي أيضًا: لقاء حصري مع "رضا لينين" وسنية الشربطي.. من يقف وراء حملة قيس سعيّد؟
وواصل أن المترشح الفائز هو "مستقل لكنه شخصية اكتسبت مصداقية من خلال الحضور الإعلامي في فترة طويلة وكان يمثل الخبير الدستوري الذي كسب ثقة كل الموطنين تقريبًا، وكانت أغلب مواقفه تمثل التوجهات الكبرى للرأي العام". وأضاف أن قيس سعيّد "كان يمثل دور الخبير الحقيقي عكس بعض أشباه الخبراء الذين كانت مهمتهم خدمة بعض الأجندات السياسية أو الحزبية المعروفة في تونس تنتمي أساسًا لمنظومة الحكم القديمة –الشيوتجمعية- أو غيرها".
وأضاف الباحث لـ"ألترا تونس" أن "صعود قيس سعيّد على عكس ما يتصور الكثيرون لم يكن صدفة لأنه كان يعمل ميدانيًا من فترة طويلة على امتداد سنوات وكان يتصل فيها بصفة مباشرة بعدد من الجمعيات ويجري اتصالات كبيرة اكتسب من خلالها شبكة علاقات كبيرة في هذه الفترة، رغم إنه قبل الثورة كان معروفًا فقط في مستوى تخصص الحقوق وطلبة هذا الاختصاص".
عادل بن عبد الله: قيس سعيّد كان يمثل دور الخبير الحقيقي عكس بعض أشباه الخبراء الذين كانت مهمتهم خدمة بعض الأجندات السياسية
وقال إن وصول سعيّد كمستقل يبيّن أن "الأحزاب ليست هي المقياس للوصول إلى السلطة خاصة إذا كان الشخص قادرًا على النشاط الميداني، ولديه مصداقية لدى الشعب ويجد منابر تعبر عليه حتى لو لم تكن منابر تقليدية، لأن نجاحه ليس مرتبط أساسًا بدوره كخبير في القانون بل مرتبط بثقة الشباب فيه، والذي قام بحملته الانتخابية".
وعن مدى اعتبار التصويت في الرئاسيات هو تصويت من التونسيين ضد الفساد، قال البحث إنه يجب تنسيب هذا الحكم "لأن صعود كتلة قلب تونس الثانية في التشريعيات، خاصة وأن الشعب يعرف شبهات الفساد التي تحوم حول رئيس الحزب ووجوه كثيرة من نوابه مثل سفيان طوبال ورضا شرف الدين المشهورين بالسياحة الحزبية والجمع بين الفساد السياسي والفساد المالي، وهو ما يعني أن مسألة عقاب الفاسدين صحيحة ولكن بصفة جزئية".
وأضاف عادل بن عبد الله، في ختام حديثه معنا، أن قيس سعيّد الذي لم يعرف عليه فساد مالي أو سياسي لم يتم انتخابه لأنه وعد بمقاومة الفساد باعتبارها وظيفة الحكومة بل لأنه ليس فاسدًا وفق قوله، مؤكدًا أنه لا يجب حصر الفساد في جانبه المالي أو الاقتصادي لأنه هناك خطابات سياسية وإعلامية فاسدة، وفق تعبيره.
زهير إسماعيل (جامعي وباحث): انتخاب قيس سعيّد هو شبه اطمئنان على المسار الديمقراطي
من جانبه، اعتبر الجامعي والباحث زهير إسماعيل أن نتيجة الانتخابات الرئاسية "تأتي ضمن سياق مرتبط بالثورة وبشعاراتها واستكمال أهدافها سواء كان في علاقة بالمرشّح أو بالجماهير" مشيرًا إلى أن البعض يعتمد النتيجة "نوعًا من استعادة التأسيس الذي لم يشمل محاسبة النظام القديم على قاعدة العدالة الانتقالية".
وأضاف، في حديثه لـ"ألترا تونس"، أن المرحلة الجديدة من الانتخابات الرئاسية هي "نوع من عملية إنقاذ للمسار الديمقراطي لأن منظور أهل الثورة يعتبرون صعود قلب تونس انقلابًا خطيرًا، اذا كان تحصل على الأغلبية وشكل الحكومة وهذا ربما مهد له حتى في الرئاسية، لكن انتخاب قيس سعيّد مثل نوعًا من العبور وشبه اطمئنان على المسار الديمقراطي".
وعن اعتبار هذا التصويت بمثابة التصويت العقابي لخذلان الثورة وأهدافها طيلة سنوات مضت، قال محدّثنا إنه لابد من التأني في قراءة هذه الظاهرة "التي لا تحتمل قراءة واحدة ولا قراءة بمناويل تقليدية على غرار قراءة الثورة التونسية" مشيرًا إلى أنه رغم أن ما حصل يجري أمام أعيننا إلا أنه توجد صعوبة في تفسيره، وفق قوله.
زهير اسماعيل: نجاح الانتخابات يرسّخ المنظومة الديمقراطيّة وينبّه إلى أن الثورة تتمّ تحت سقف الدستور وداخل المنظومة الديمقراطية
واعتبر الباحث ثورة الألفية الثالثة تطرح أزمة الدولة الحديثة بالمعنى الأوروبي مشيرًا إلى وجود انقسام حقيقي في المجتمع التونسي كان سببًا للثورة وكان يرجى منها أن تصلح هذا الانقسام.
وأكد أنّ نجاح الانتخابات يرسّخ المنظومة الديمقراطيّة من ناحية وينبّه إلى أن الثورة تتمّ تحت سقف الدستور وداخل المنظومة الديمقراطية، مشيًرا إن ذلك معنى جديد تضيفه الثورة التونسية إلى تقاليد الانتقال الديمقراطي، وفق تعبيره.
وأوضح زهير إسماعيل أن "الثورة التونسية بالمراحل التي قطعتها ومن خلال انتخاب قيس سعيد والمشروع الذي يتقدم به يطرح في حقيقة الأمر أزمتين مترابطتين، تتمثل في أزمة الديمقراطية التمثيلية وأزمة الدولة الحديثة في أوروبا وضرورة البحث عن انتظام أكثر عدلًا ونجاعة وأكثر احترام لإنسانية الإنسان" مضيفًا "وهو ما يعني أن الدولة ليست سدرة المنتهى التي يحطّ عندها التاريخ رحاله، وإنما هناك إمكانيات للانتظام قد تتجاوزها ما وجد المكان والزمان والإنسان" وفق تقدير محدثنا.
وأكد أن المبادرات المواطنية بين التونسيين بعد فوز سعيّد "ظاهرة وظواهر قد يصعب وصفها بدقة لكنها تبقى مبعثًا اجتماعيًا وسياسيًا، لكنها على أرض الواقع لا يمكن إلا أن تكون أسلوب عيش جديد في مشهد فريد يتقاطع فيه الاجتماعي بالسياسي هو أشبه بفوران مجتمعي كذلك الذي لحق الثورة مفاده أن لا شيء يعلو فوق إرادة الشعب".
اقرأ/ي أيضًا:
بعد نتائج الانتخابات التونسية، هل انتهى عهد الأحزاب التقليدية؟