06-يونيو-2019

وقعت الثورة التونسية فريسة الخطاب المتوتر لـ"حجرة سقراط" بين الإسلاميين واليساريين (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

مقال رأي

 

سارت "بنت السبعطاش" حاملة مشعل الحريّة والكرامة، قاصدة مجلس البرلمان في بهاء ووسامة، وما إن همّت بالدخول حتّى انهال عليها من اليمين ومن اليسار وابل من الحجارة أدمى رأسها وسائر جسدها، سارع بعض المخلصين إلى إيقاف النّزيف، وأقبل البقيّة يتفحّصون بأعين اللصوص والرقباء جسدًا متّقدًا شهوة ونهدًا أفلت من قيده محدثًا في غرائز الحاضرين ثورة النّهمين الطّامعين.

قصّ "سالم" هذا الكابوس على أخيه "صالح" المولع بتفسير الأحلام، فأجابه في هدوء الحكماء وثقة أهل اليقين أن "بنت السبعطاش" هي الثورة التونسية التي اندلعت شرارتها يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، وأمّا الحجارة التي أصابتها فتلك مُهاترات النوّاب والسّياسين الذين أعرضوا عن هموم الحاضر ومشاغله، وأقبلوا على مناظرات وسجالات أشبه في أساليبها ومضامينها ومقاصدها بخطابات وتلاوات احتضنتها "حجرة سقراط" وغيرها من المنصات والساحات في جلّ الجامعات والكلّيات، أمّا الناظرون إلى "بنت السبعطاش" نظرة التذاذ واستمناء فهم "أشبه بمن يتلهّى عن حريق يداهمه بملاعبة خِصيتيه".

اقرأ/ي أيضًا: طلاب قارعوا النظام لتغييره وانتهوا حراسًا لإدارته!

قراءة "صالح" لحلم "سالم" رغم ما فيها من تشبيهات وكنايات تبدو واضحة لا تحتاج إلى التفسير و"التّفهيم الثّقيل" على حدّ تعبير محمود المسعدي الأديب التونسي، غير أنّها تدعونا صَونًا لرأينا من التهافت والتعسّف إلى مراجعة عدد من الدقائق والأمثلة والتّفاصيل، وذلك بغية التحقّق من بعض هنات الخطاب السياسي المشدود إلى ثمانينيّات القرن الماضي وتسعينيّاته ودوره في تعطيل أهداف الثورة ومساراتها.

ثمّ قَست قلوبهم من بعد ذلك...

"أنا ابن حجرة سقراط العظيمة" هكذا حدّد عبد النّاصر العويني هويّته النّضاليّة في حوار أذيع يوم 9 جانفي/كانون الثاني 2016، وهوالمحامي الناشط ضمن تحالف الجبهة الشعبية وصاحب صرخة "بن علي هرب" لا يُخفي شأنه شأن العديد من السياسيين اليساريين والإسلاميين حنينه النّرجسي إلى تسعينيّات القرن الماضي.

حجرة سقراط مجرّد منصّة هيّنة على حافّة مدرج بكليّة الحقوق بالمركّب الجامعيّ بجهة المنار من ولاية تونس، تبدو "هذه الحَجرة" للنّاظرين خالية من كلّ علامات الإثارة والجمال والتّميّز، فهي وضيعة في معمارها وشكلها وارتفاعها وموقعها، غير أنّها تعدّ شامخة جليلة دلاليًا وإيحائيًا ورمزيًا ذلك أنّها تختزن عمقا تاريخيًا وإيديولوجيًا وفكريًا في غاية الأهميّة. هذه المفارقة تتأكّد من خلال التسمية، فقد أضيفت كلمة "حَجرَة" الدالة على البساطة والالتصاق بالأرض إلى سقراط الفيلسوف اليوناني الذي عرف بشجاعته ونزعته الثوريّة فضلًا عن إسهاماته في المعرفة والمنطق والأخلاق.

حجرة سقراط كانت تحتضن خطابات وثيقة الصلة بالأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة وبهموم الطلبة خاصة في الثلث الأخير من القرن العشرين ولقد جمعت المداخلات آنذاك بين البعد الإخباري والأسلوب التثقيفي والأداء الحماسي والمقصد التعبوي

حجرة سقراط كانت تحتضن خطابات وثيقة الصلة بالأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة وبهموم الطلبة خاصة في الثلث الأخير من القرن العشرين، ولقد جمعت المداخلات آنذاك حسب بعض الشهادات بين البعد الإخباري والأسلوب التثقيفي والأداء الحماسي والمقصد التعبوي سواء ضدّ النّظام أو في مواجهة خصم فكريّ أو في تقريع طرف من نفس الرّحم الإيديولوجي.

يُدعى الطلبة إلى هذه الاجتماعات العامّة عبر المناشير والمعلّقات الحائطيّة أو من خلال التنسيق السّري في المبيتات والمقاهي والبيوت وغيرها من الملتقيات، كما دأب المنظّمون على توخّي النّداء والتصفيق سبيلًا إلى الدعوة المباشرة، فيقبل على حجرة سقراط الأنصار والخصوم وحتّى المتطفّلون والوشاة، ويتوافدون من المشرب أو الساحة أو القاعات أم من أطراف الكليّة وزواياها.

يَحسب الطالب نفسه من أبناء حجرة سقراط متى كان خطيبًا أو منسّقًا أو متابعًا منتظمًا، وقد مثّلت هذه "المحطّة النّضاليّة" مصدر فخر واعتزاز بالنسبة إلى العديد من السياسيين النّاشطين حاليًا في بعض الأحزاب لاسيما اليساريين، ويعدّ الشهيد شكري بلعيد أحد أكبر رموز هذه المنصّة.

لا شكّ أنّ لحجرة سقراط وغيرها من ساحات الاجتماعات العامّة في الجامعات التونسيّة دورًا نضاليًا محمودًا، غير أنّ المتمعّن في بعض الملفّات واجد أنّ هذه الفضاءات قد حامت حولها العديد من الاحترازات التي شكّلت بعد سقوط نظام بن علي مصدر توتّر أدخل على الثورة ألوانًا شتّى من الشكّ والغموض.

كانت تشوب الأنشطة النّقابيّة والسياسيّة في الجامعة التونسيّة الكثير من الخيانات والوشايات كما تحولت بعض المنصّات الخطابيّة في العديد من المناسبات إلى مركز من مراكز التّحريض على العنف وتبريره

لقد كانت تشوب الأنشطة النّقابيّة والسياسيّة في الجامعة التونسيّة الكثير من الخيانات والوشايات، كما تحولت بعض المنصّات الخطابيّة في العديد من المناسبات إلى مركز من مراكز التّحريض على العنف وتبريره، فلا عجب أن يتمسّك يساريو تلك الفترة بتصوّرهم النّمطي للإسلاميين الموسومين في ظنّهم بالرجعية والتشدّد والتطلع إلى التغيير باعتماد الفكر الجهاديّ وأساليبه.

من جهة أخرى، يصعب أن تمحو من أذهان أنصار حركة النهضة تصوّرًا لفئة من اليساريين هم في ظنّهم دعاة عنف وإقصاء تُحركهم مقولة "التواطؤ مع الرجعيّة السياسيّة في سبيل القضاء على الرجعيّة الدينيّة"، وهذا العداء المتبادل يجد له أصحابه مبررّات واقعيّة تاريخيّة، فهؤلاء اليساريّون لحقهم من مناوئيهم سعير "المولوتوف" وأصابتهم نبال التّشويه الأخلاقي ومحاولات التصفية الجسديّة، وأولئك الإسلاميّون اُستبيحت دماؤهم في موقعة يسمّونها "مجزرة منّوبة" سنة 1982، ولم ينكر "الوطنيون الديمقراطيون" (فصيل يساري) مسؤوليّتهم عن هذا الاعتداء، بل اعتبروه تباهيًا واعتزازًا " مفخرة منوبة"، وبررّوا موقفهم آنذاك في نصّ نشر سنة 1990 بكونه "عنفًا ثوريًا في مواجهة العنف الرجعي الإسلاميّ".

هكذا " قست قلوب" جلّ الإسلاميين واليساريين بعضهم على بعض، فهي الآن "كَالحِجَارَة أو أَشَدّ"، فلم تقو المصالح الثوريّة المشتركة على تليينها، ولم تكْفِ عطور الحريّة لتلطيفها، ولم تقدر خطب الاعتراف والمصالحة على أن تنبت عشبًا وزهرًا بين مفاصل صخرة الحقد التي حوّلت وجهة "بنت السبعطاش" لينال منها أبناء "سبعة حداش" (7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987 وهو تاريخ تولّي بن علي السلطة بعد انقلابه على بورقيبة).

تحويل وجهة

لا يحقّ لنا بعد حوالي أربعة عقود أن نقيّم بمعاول الحاضر وآلياته صراع الإسلاميين واليساريين في الجامعات إلّا إذا أخذنا بعين الاعتبار كلّ تفاصيله وحيثيّاته ودوافعه، فأغلب الملابسات التي حفّت بعنف التّسعينيات مازالت غامضة تشوبها الكثير من الالتباسات خاصّة ما تعلّق بدور النظّام في صناعة الفتنة الإيديولوجيّة واستثمارها.

لا يحقّ لنا أن نقيّم بمعاول الحاضر وآلياته صراع الإسلاميين واليساريين في الجامعات إلّا إذا أخذنا بعين الاعتبار كلّ تفاصيله وحيثيّاته ودوافعه

اقرأ/ي أيضًا: عفوًا انتهى رصيدكم النضاليّ

لكن رغم ذلك يجوز لنا الإقرار بنتيجتين أثرهما بيّن في صلة بالثورة ومساراتها: الأولى مفادها أنّ "أبناء حجرة سقراط" تحكمهم الأحقاد والضغائن وأغلبهم لم يشف من جراح الماضي، وهو ما يجعلهم يبيحون لأنفسهم بدافع انفعاليّ انتقاميّ التواطؤ مع المنظومة القديمة ضدّ بعض أنصار الثورة وداعميها والمستفيدين منها.

وهو ما ينطبق على حركة النهضة التي غفرت لجلاديها وأقبلت عليهم تستجديهم الصلح، لكنّها لم تكفّ عن التّشهير بفئة من اليساريين ما تزال تنعتهم بالوشاة والاستئصاليين. وهذه الفئة تُبادل الإسلاميين نفس مشاعر العداء، بل إن بعض المنتمين إليها مستعدون للتواطؤ مع أيّ طرف سياسي مهما كانت وضاعته في سبيل النيل من النهضة الخصم الأبدي.

وفي هذا السياق، قال المنصف المرزوقي رئيس حزب الحراك مخاطبًا من نعتهم باليسار الأيدولوجي "أخطأتهم في تحديد العدوّ.. العدوّ هو الفقر وليس الإسلام والإسلاميين.. وهذا أدّى بكم إلى أن تكونوا خدمًا للمنظومة الفاسدة ضدّ الثوريين الحقيقيين".

 

والنتيجة الثانية تتّصل بما أصاب شباب الثورة بسبب هذا الكابوس الذي أوقعهم فيه كهول وشيوخ أفسدوا عليهم لذّات الحاضر بإمعانهم في استذكار خلافات الماضي واستدعاء أجواء "حجرة سقراط" استدعاءً لا يقلّ رجعيّة بالنسبة إلى جيل "الحداثة السيّالة" عن خصام السُّنيين والشيعة حول مجريات حادثة سقيفة بني ساعدة.

في هذا السياق، ذكرت هدى الكافي، الناشطة السياسيّة والمتفقدة العامّة في مادّة الفلسفة بالمعاهد الثانويّة، لـ"ألترا تونس" أنّ انشغال بعض السياسيين بقضايا "حجرة سقراط" ومشاغل العقود الأخيرة للألفيّة السابقة لا يرجع فقط إلى الرغبة في التموقع السياسيّ، إنّما يعود كذلك على حدّ تعبيرها إلى "عدم القدرة على التّطوّر، فأصحاب هذا التوجّه ظلّوا سجناء تصوّرات إيديولوجيّة عفا عنها الزمن، وليس لهم من المؤهّلات ما يمكّنهم من تجديد فكرهم، لذلك تجدهم يجترّون خصومات قديمة لا تفهمها الأجيال الحاليّة ولا يفهمها المواطن العاديّ الذي تُشكّل السّياسة أولى اهتماماته".

هدى الكافي (ناشطة سياسية): انشغال بعض السياسيين بقضايا "حجرة سقراط" ومشاغل العقود الأخيرة للألفيّة السابقة لا يرجع فقط إلى الرغبة في التموقع السياسيّ إنّما يعود كذلك إلى عدم القدرة على التّطوّر

ظلّت وجهة شباب الثورة جيل التقنيات الحديثة بيّنة ثابتة على امتداد 28 يومًا (من 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 إلى 14 جانفي/كانون الثاني 2011)، وقد تشكّلت من خلال التوافق العفوي التلقائي على شعارات تدعو إلى إسقاط النظام والتّصدّي لمنظومة القمع والفساد، وهو ما أثمر إجماعًا شعبيًا ما انفكّ يتزايد من احتجاج إلى آخر، وظلّت أنشودة الحريّة والكرامة مؤلّفة بين المهجات والقلوب.

لكن وما إن رحل بن علي حتّى بدأت تلوح في شارع الحبيب بورقيبة وفي القصبة (مقر رئاسة الحكومة) وفي الكثير من المعاهد والجامعات والشوارع، شعارات بدت غريبة على فتيان الثورة. فقرأنا على الجدران واللافتات عبارات من قبيل "لائكيّة علمانيّة" و"الشعب مسلم ولا يستسلم" وغيرها من المفردات التي مثّلت الآلة المرجعيّة والفكريّة والخطابيّة المتسبّبة في تحويل وجهة "بنت السبعطاش".

فبعد أن ظلّت شعلة الحريّة والكرامة عالية يهتدي بها كل المنتفضين، تفرّق المحتجون وتباين المتظاهرون، فتغيّرت معايير التّصنيف ومقاييس الاصطفاف من ثنائيّة ثوّار وأزلام إلى ثنائيّات شتّى إسلاميّ ويساريّ، لائكيّ وسلفيّ، تقدّميّ ورجعيّ. وأحدث هذا التّصنيف الجديد ارتباكًا لدى شباب الثورة دفع فئة كبيرة منهم إلى مشاعر وردود أفعال سلبيّة منها الإحباط والاكتئاب أو الإعراض عن الشأن العام والبحث عن الخلاص الفرديّ أو النقمة على النخبة السياسيّة و العمل الحزبي، غير أنّ المتيّمين ببنت "السبعطاش" المخلصين لها إخلاص المحبّ العذريّ ظلّوا حالمين بصلاح البلاد والعباد حاملين مشعل الحريّة والكرامة محصّنين ضدّ كلّ ضروب الفتنة والتّشكيك والاستخفاف.

 

اقرأ/ي أيضًا:

يسار مفاوض حزبيًا و"ثوري" نقابيًا: ما وراء الأكمة؟

نهاية حركة النهضة