28-أغسطس-2020

تجربة مهنية واجتماعية فريدة في مركز المصابين بفيروس كورونا (صورة توضيحية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

منذ انطلاق انتشار جائحة كورونا في تونس، نُسجت أقاصيص وروايات وبطولات حول التصدي لهذا الوباء، حديث عن حرب شرسة لتطويق الفيروس في الوسط الاجتماعي والقضاء على بوره، وعن تضحيات رجال الدولة والمجتمع المدني والقطاع الطبي بجميع مرافقه. في المركز الوطني لإيواء المصابين بالفيروس بالمنستير، كانت تصلنا الأنباء عن جموع الوافدين والمغادرين، وتتناهى إلى مسامعنا من حين إلى آخر أخبار ظروف الإقامة التي تشهد مدًا وجزرًا من الإشادة والتنويه أو النقد حول الخدمات المقدّمة.

كانت المعلومات التي تأتينا من داخل هذا المركز شحيحة نظرًا لطبيعة الإقامة التي تفرض العزل وعدم الانفتاح على مكوّنات المجتمع الخارجي وخاصة الاتصال المباشر. والمركز يضمّ مصابين وإطار طبي يشرف على العلاج، وأعوان في مصالح التنظيف والإعاشة والأمن، وقد ساهم هذا المركز في حصر انتشار الجائحة في موجتها الأولى، وهو يواصل اليوم دوره في العناية بمصابي الموجة الثانية من الوباء.

التقى "ألترا تونس" الممرضة آمال عتيق لتروي تجربتها في العمل داخل مركز إيواء المصابين بفيروس كورونا بالمنستير 

لم يكن تخصيص هذا المركز في إحدى نزل ولاية المنستير البعيدة عن مناطق العمران ليحظى بالقبول أول وهلة، وهو بمثابة المنتجع الصحي الذي يكتسي مواصفات لا ترتقي إلى درجة مصحّة استشفائية بل أشبه إلى إقامة تحت رقابة طبيّة بإشراف من رئيس قسم الأمراض السارية بالمستشفى الجامعي فطومة بورقيبة بالمنستير الدكتور شوقي الوصيّف وثلة من الإطارات الطبية وشبه الطبية محدودة العدد.

اقرأ/ي أيضًا: بدرجة مشرّف جدًا.. "ألترا تونس" يحاور طالبة نالت الدكتوراه من مركز للحجر الصحي

أربعة أشهر منذ افتتاح هذا المركز وإيواء أوّل دفعات المصابين بفيروس كورونا كفيلة بنشر العديد من القصص عن المقيمين فيه والمشرفين عليه، حكايات عن العزل، والحجز، والمعالجة والإعاشة مع خليط من الخوف والرهبة والضغط من مخاطر العدوى.

آمال عتيق (40 سنة) ممرضة رئيس للصحة التحقت بمركز الإيواء بالمنستير في الثامن والعشرين من شهر أفريل/نيسان الماضي متطوّعة ضمن فريق الدكتور الوصيف للتكفل بمهام التمريض في المركز، فكان لها مع "الكورونا" حكاية ومع المصابين قصص تخلدها مسيرتها المهنية. وهي تقيم منذ 4 أشهر في مركز الايواء ولا تلتحق بأسرتها إلا نادرًا بعد التأكد التام من عدم إصابتها لمخالطتها اليومية مع المصابين.

"ألترا تونس" التقى الممرضة لتروي لنا تجربتها داخل المركز، فالمدة التي قضتها ولا تزال داخله قد تمكننا من نسج مشهد عنه، وتروي لنا جانب من قصة مقاومة الكورونا في تونس.

"تجربة لا يمكن نسيانها"

كانت آمال حريصة، في أول الحوار، على إبراز الجانب الفني في عملها الذي تنوّع منذ بداية ظهور الجائحة بين أخذ عينات التحاليل من المصابين إلى مراجعة النتائج وأخذ التقييدات اللازمة، فكانت تتداول على مراكز الحجر الصحي الإجباري بالنزل المخصصة لذلك والتنقل إلى المنازل لأخذ عينات من مخالطين للمصابين وجدولة الإصابات وتحيين حلقات العدوى تحت إشراف أستاذها رئيس قسم الأمراض السارية بالمنستير الدكتور شوقي الوصيّف.

تعمل الممرضة آمال عتيق بمركز الإيواء بالمنستير منذ شهر أفريل 2020

 

تقول آمال: "كان يتركز عملي اليومي منذ التحاقي بالمركز على أخذ التقييدات الطبية وإعداد جذاذة البيانات عن المرضى وتحديد مواعيد إجراء التحاليل انطلاقًا من أول تحليل ايجابي، مع متابعة حالة المصابين خاصة منهم من يعاني من أمراض مزمنة مثل السكري وضغط الدم والسرطان، وأيضًا مرافقة النساء الحوامل ومتابعة حالاتهن الصحية ووضعية الحمل. وقد قمت إلى حد الآن من إجراء 460 تحليلًا إضافة إلى 60 من صنف "التحليل السريع"، كما ساهمت في تأثيث بعض الأعمال البحثية العلمية التي يشرف عليها أساتذتنا".

 آمال عتيق: ما عايشته في المركز من مخالطة المصابين تجاوز المهام الطبية لأجد نفسي داخل دائرة اجتماعية ضيقة لا يمكن نسيانها

وتبيّن محدثتنا أن المركز اليوم لازال يأوي إلى حد اليوم 287 نزيلًا من مجموع 1112 استقبلهم المركز منذ إحداثه، تعافى منهم 814 مريضًا عادوا إلى ديارهم سالمين، مشيرة إلى أن أعلى طاقة استيعاب بلغت 380 مريضًا، أما أدنى عدد من المقيمين بلغ 66 مصابًا بالفيروس.

تضيف الممرضة: "ما عايشته في المركز من مخالطة المصابين تجاوز المهام الطبية لأجد نفسي داخل دائرة اجتماعية ضيقة ذات خصوصية لا يمكن نسيانها في مسيرتي المهنية كممرضة وفي تجربتي الاجتماعية التي أثثت شخصيتي. فمنذ التحاقي بالمركز، اكتشفت العديد من الحالات الاجتماعية، واكتشفت مجتمعًا صغيرًا متنوعًا. فقد استقبلنا وافدين من كافة ولايات الجمهورية، كما استقبلنا كذلك العديد من الأجانب خاصة من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، و في الآن نفسه استقبل المركز مجرمين خطيرين".

الإشراف على اختبارات تلاميذ في المناظرات الوطنية

حدثتنا أن أكثر ما ترسخ في ذاكرتها، هو تأمين مناظرات وطنية مثل الباكلوريا والنوفيام، مبينة أن تلميذين اثنين، فتاة تونسية وشاب جزائري، اجتازا امتحان الباكالوريا. "بعد إعلامنا من طرف الإدارة الجهوية للتربية بالمنستير بإجراء الامتحان في إحدى غرف النزل، تم تهيئة مكان الاختبار بكاميرا مراقبة. وأمام مخاوف الأساتذة المراقبين، قمت بالتنسيق بين التلاميذ والإطار التربوي والإداري وذلك بالجلوس أمام غرفة الاختبار، والتواصل مع التلميذ لإعلامه بالوقت".

أكدت الممرضة أنها عاشت تجارب اجتماعية خاصة في مركز الإيواء

 

تواصل الممرضة حديثها "كنت مثبتة في لباسي الأبيض طيلة ساعات على كرسي حتى يكمل التلميذ أشغاله لأقوم بأخذ أوراق الامتحان وتعقيمها وطبعها بآلة سكانير وإرسالها إلى مركز تجميع الامتحانات، ثم وضع أوراق الامتحان في أكياس لنقلها يدويًا مع تأمين سلامتها من فيروس كورونا".

وأضافت أن نفس الإجراءات تكررت في اختيار "النوفيام" (شهادة ختم التعليم الأساسي)، مؤكدة التواصل الجيّد، طيلة مراحل الاختبارات، مع المندوب الجهوي للتربية بالمنستير. ولفتت أن النجاح كان حليف التلميذة التونسية في امتحان الباكالوريا وكذلك تلميذة النوفيام، في حين مرّ الطالب الجزائري إلى دورة المراقبة، مبينة أن التلميذتين أصرتا على الاتصال بها هاتفيًا بعد مغادرتهما مركز الإيواء وهما في حالة صحية جيّدة.

التدخل للصلح بين الأزواج وفض الخصومات

واصلت الممرضة، متحدثة عن عملها وأهم ذكرياتها في مركز إيواء المصابين بكورونا في المنستير، أن من التجارب الراسخة لديها هو استقبال عدد من النساء الحوامل واللاتي بلغ عددهن 26 امرأة ما يزال منهن 9 مقيمات بالمركز، "وهو ما يحتاج منا الكثير من العناية بهن وبوضعية حملهن لأنقاذهن من هذا الوباء"، وفق تعبيرها.

اقرأ/ي أيضًا: تونسية مقيمة بإيطاليا تروي لـ"ألترا تونس" قصة انتصارها على "كورونا"

تتحدث آمال، لـ"ألترا تونس"، أن العلاج النفسي للمصابين كان أحد ركائز اهتمامات القائمين على المركز الذي وصفته بـ"المجتمع الصغير"، مؤكدة أنه مختلف عن طبيعة المؤسسات الاستشفائية. تواصل "نلتجئ أحيانًا إلى التدخل للمصالحة بين زوجين متخاصمين أو فض نزاع بين مقيمين متشنجين. كما نسعى إلى تهدئة الأشخاص الذين لا يطيقون الحصر في مكان مغلق. كنا نستعين بتقارير الطبيب النفسي لمعالجة بعض الظواهر، وأحيانًا نرافق المريض إلى جولة خارجية في فضاء مسبح النزل".

 تبقى زغاريد النسوة عند الإعلان عن سلبية التحاليل من أهم علامات النصر على الوباء

 

وفي سياق متصل، بيّنت أن عدد المقيمين من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء بلغ 36 شخصًا مبينة أن أغلبهم لا يملكون نقودًا ملاحظة أن العاملين في المركز كانوا يجمعون المال لاقتناء بعض الاحتياجات الضرورية لهؤلاء المقيمين. وأكدت، في هذا الجانب، التدخل الإيجابي لمكونات المجتمع المدني من كافة أنحاء الجمهورية في اقتناء مواد تنظيف وأغطية ومستلزمات غذائية وحليب أطفال (لا يزال 28 طفلًا مقيمًا بالمركز)، ومحاولة التخفيف نفسيًا وماديًا على المرضى الوافدين. "لا ننكر الصعوبات التي تعرضنا إليها خاصة في الفترة الأولى وهذا يقرّه الجميع نظرًا لحداثة التجربة وخصوصيتها" تؤكد محدثنا.

آمال عتيق (ممرضة): نسعى إلى تهدئة الأشخاص الذين لا يطيقون الحصر في مكان مغلق ونستعين بتقارير الطبيب النفسي لمعالجة بعض الظواهر

"فترات صعبة مررنا بها في المركز خاصة إثر حالات تشنج شديدة لبعض المصابين نتيجة الضغط العصبي، فالإنسان بطبعه لا يطيق الحصر داخل جدران أربعة إضافة إلى عامل الخوف من مآلات الإصابة. كما أن التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية على المصابين جراء خسائر مادية أو إلغاء التزامات سببت عواقب وخيمة ما صعّب من مهامنا في توفير أجواء ملائمة للعلاج. فمن بين المصابين من أجل زواجه، ومنهم من ألغيت عقود عملهم".

تجربة الممرضة آمال عتيق مع المصابين بفيروس كورونا في المركز الوطني للإيواء بالمنستير هي تجربة مهنية واجتماعية نوعيّة فريدة لا يمكن أن تحجب حجم التحديات التي يواجهها المركز، وما يتعرّض له من انتقادات على مستوى الأداء ولكن تبقى صدى زغاريد النسوة عند الإعلان عن سلبية التحاليل وخروجهم من المركز، إحدى أهم علامات النصر على هذه الجائحة وعنوانًا لنجاح المركز في القيام بدوره للحد من انتشار الوباء.

الممرضة آمال عتيق في صورة مع مسؤولين من بينهم وزير الصحة بالنيابة

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوارات | كيف يفهم كبار أساتذة الفلسفة في تونس أزمة كورونا؟

ناجيان من شبح كورونا يتحدثان لـ"ألترا تونس" عن تجربتهما