25-مارس-2021

تضاربت الآراء والتحاليل حول أسباب الفصام المرضي أو الانفصام في الشخصية أو "السكيزوفرينيا" وهي كلمة يونانية تعبّر عن انحلال أو اندثار البنية السليمة للشخصية (Getty)

 

"لم نكن خائفين. لقد انتظرنا هذا الوقت الطويل لنخبر الجميع بما فعله بنا بالضبط، والآن لم يستطع أن يجعلنا نصمت" هكذا تحدّثت جيني هاينز أثناء مثولها أمام المحكمة للحديث عن الاعتداءات المتكرّرة التي تعرّضت لها من قبل والدها. وحديثها بصيغة الجمع يحيلنا إلى أكثر القضايا تعقيدًا يقع فيها لأوّل مرّة أخذ شهادة شخصيات مختلفة لمريض مصاب باضطراب الشخصية الانفصامية لتقتنع بها المحكمة وتدين الشخص المتهم.

قد يبدو الحديث في هذا الموضوع غريبًا أو على شاكلة الأفلام الهوليودية التي تناولت في عديد المرّات قضايا مشابهة حلّلت فيها ظاهرة انفصام الشخصّية. فأن يتقمّص الممثّل أدوارًا مختلفة وشخصيّات متناقضة في نفس الفيلم هو شيء طبيعي يعكس مدى تمرّس الممثّل. وأن ينجح المخرج في بلورة كل هذه الشخصيات في عمل فنيّ فهذا دليل على خبرة عميقة لديه. ولكن أن ترى شخصًا متناقض الشخصيات ومركّب البنية فهذا ما يجعل الأمر غريبًا وغير مقبول في أذهان البعض.

فماهو التفسير العلمي لحالة انفصام الشخصيّة؟ وماهي الأسباب التي تؤدّي إليه؟ ولماذا يعمد عديد الأفراد لإنكار هذا المرض أو تجاهله؟ أسئلة يجيب عنها "الترا تونس" في هذا التقرير.

انفصام في الشخصيّة أنقذ حياة جيني هاينز

في مارس/ آذار 2019 شهدت محكمة سيدني قضية تاريخية، تكاد تكون الأولى من نوعها حسب ما نقله موقع "بي بي سي نيوز"، إذ سُمح لجيني بالإدلاء بشهادتها في المحكمة باسم "سيمفوني" وخمس شخصيات أخرى ساعدتها في الحفاظ على الذكريات التي ربما تكون قد فقدتها بسبب الصدمة.

يعتبر انفصام الشخصيّة من أكثر الأمراض العقلية انتشارًا حول العالم، وتونس ليست بمنأى عنه فآخر إحصائيات تقديريّة أثبتت أنّ حوالي 60 ألف تونسي مصاب بداء الفصام

تفاصيل القضية عاشتها جيني هاينز التي تعرّضت في طفولتها، للاغتصاب والتعذيب بشكل متكرر من والدها ريتشارد هاينز. وللتخلّص من الشعور بالألم استخدم عقلها تكتيكًا غير عادي، من خلال ابتكار شخصيات جديدة.

تقول جيني في حوارها مع "بي بي سي" إن مرض اضطراب الشخصية الانفصامية أنقذ حياتها. ووجهت المحكمة للأب حكمًا بالسجن لمدة 45 عامًا لتهم مختلفة من بينها الاغتصاب والسرقة والاعتداء غير اللائق والإيذاء الجسدي لطفلة دون سن العاشرة.

ووجّهت جيني رسالة من خلال "بي بي سي" قالت فيها: " إذا كان لديك اضطراب في الشخصية نتيجة للإساءة ، فقد أصبحت العدالة ممكنة الآن. يمكنك الذهاب إلى الشرطة وإخبارهم بقصتك. لم يعد تشخيص مرضك عائقًا أمام العدالة".

الخطاب الموجه للطفل يساهم في ظهور الفصام

يعتبر انفصام الشخصيّة من أكثر الأمراض العقلية انتشارًا حول العالم حيث تبلغ عدد الإصابة به عالميًا 23.6 مليون حالة.  وتونس ليست بمنأى عن هذا المرض فآخر إحصائيات تقديريّة أثبتت أنّ حوالي 60 ألف تونسي مصاب بداء الفصام، وفق ما كشفه الطبيب في الأمراض النفسية أنور الجراية خلال مؤتمر توعوي نظمته مدينة العلوم بتونس منتصف مارس/آذار الجاري تحت عنوان "الفصام.. من أجل معرفة الأفضل ".

وتضاربت الآراء والتحاليل حول أسباب الفصام المرضي أو الانفصام في الشخصية أو "السكيزوفرينيا". وهي كلمة يونانية، تعبّر عن انحلال أو اندثار البنية السليمة للشخصية حسب ما أكّده الأخصائي النفسي كريم اليعقوبي لـ"الترا تونس"، مضيفًا أنّ "الانفصام لا يعني تواجد شخصيتيْن أو أكثر بنفس الجسد وإنّما هو تعبير عن مراوحة الفرد بين عالمين، عالم يتشارك فيه مع البقية وعالم يغيب فيه مبدأ الواقع من خلال تمثلات متغيرة بحسب وضعية آليات إدراك الواقع"، على حدّ تعبيره.

ويحلّل اليعقوبي بعض الأطروحات النفسية التي قدّمت تفاسير لأسباب المرض النفسي، من منظور علم النفس وخاصة من الجانب الديناميكي، ويعتبر أنّ "السكيزوفرينيا مرحلة ضرورية لتطوّر الفرد في مرحلة الطفولة فهي تعبّر عن شكلٍ من الوعي بالجسد وبالمحيط وذلك انطلاقًا من سنّ الستة أشهر إلى حدود 12 شهرًا. فخلال تلك الفترة لا يمكن أن يتمثل للطفل جسده كوحدة مكتملة وإنما هو، بالنسبة إليه، عبارة عن مجموعة أجزاء تمتد لتشمل المحيط بما في ذلك الأم التي يعتبرها مكمّلًا له وليست مستقلة عنه"، على حدّ قوله، مضيفًا أنّ "الطفل يتخلى عن نوعية هذا الوعي بداية من نهاية السنة الأولى من عمره ولا يعود إليه".

كريم اليعقوبي (أخصائي نفسي) لـ"الترا تونس": الانفصام لا يعني تواجد شخصيتيْن أو أكثر بنفس الجسد وإنّما هو تعبير عن مراوحة الفرد بين عالمين، عالم يتشارك فيه مع البقية وعالم يغيب فيه مبدأ الواقع من خلال تمثلات متغيرة

ومن منظور ديناميكية علم النفس المرضي، يفسّر اليعقوبي أنّ عودة الوعي الفصامي في فترات لاحقة بعد السنة يعتبر حالة مرضية وعادة ما يصاب الأشخاص بالانفصام في الشخصية عند نهايات فترة المراهقة نظرًا لأهمية المرحلة وما تتطلبه من مراجعة لإعادة بناء الشخصية في شكل أكثر ملائمة للواقع وكذلك في المراحل الأخرى المتقدمة بعد فترة المراهقة.

"تعتبر فترة الطفولة المرجع الأساسي لتفسير ظهور الانفصام في الشخصية ومدى انخراط المحيط العائلي في ترك آثار سلبية على بناء الشخصية (fixation) في فترة  ما بين 6 أشهر إلى 12 شهرًا أو حتى في المراحل التطورية  التي تليها إلى حدود سن الخامسة (fragilisation)" هكذا بيّن محدّثنا دور العائلة في تعزيز حالة الانفصام من منظور علم النفس التحليلي، مضيفًا أنّ "الانفصام في الشخصية في صفوف الشبان والكهول هو تراجع نفسي (régression) إلى مرحلة الطفولة.

اقرأ/ي أيضًا: التأتأة.. ألفاظ عالقة تواجه السخرية

ويعدّد كريم اليعقوبي الأسباب التي تساهم في هذا التراجع النفسي قائلًا إن:"الضغط النفسي العالي والصدمات العاطفية والإرهاق الجسدي والذهني وحالات الفراق المفاجئة أو حالات الفشل المروعة والإدمان بكل أنواعه من أهمّ روافد هذا التراجع".

الأخصائي النفسي كريم اليعقوبي: الضغط النفسي العالي والصدمات العاطفية من أبرز أسباب التراجع النفسي

ويقول محدّثنا إن الخطاب الموجه للطفل يساهم بدرجة كبيرة في ظهور الانفصام في الشخصية وذلك من خلال دراسات المدرسة التفاعلية مدرسة بالو ألتو (palo alto)، مضيفًا: "إذا ما اتسمت المحتويات بالتضاد وغياب المنطق كأن تسمح لنفسك بأشياء ولا تسمح بها لطفلك، على غرار أن تكون مدخنًا وتمنع طفلك من التدخين أو أن تكون دائمًا في حالة هيجان وغضب وتعبّر عن حبك له في نفس الوقت أو أن تقول إنك تريده أن يكون مستقلًّا ثم تنهره عندما يأخذ قرارات دون العودة إليك... كلّ هذه الخطابات المتضادة إذا ما تواجدت بكثرة طوال اليوم تساهم في ظهور الانفصام في الشخصية أو حتى أمراض نفسية أخرى في المستقبل".

تفشّي "انفصام الشخصيّة" ظاهرة شبه طبيعيّة

من جهته، تساءل الأستاذ في علم الاجتماع سامي نصر: "هل يمكن اعتبار الانفصام مرضًا عند ربطه بالوضع الحالي الذي تعيشه البلاد أم أنه أصبح ظاهرة طبيعية؟".

سامي نصر (أستاذ في علم الاجتماع) لـ"الترا تونس": تفشي "انفصام الشخصية" في تونس ظاهرة شبه طبيعية فالدول تشهد ما بعد الثورات جملة من الأزمات (الأخلاقية، الاجتماعية، السياسية..) وتفقد خلالها الشعوب مناعتها وتصبح عرضة لأشدّ الظواهر فتكًا

وأكّد نصر، في حديثه لـ"الترا تونس"، أنّ هذه الظاهرة "شبه طبيعيّة". فمن خلال علم الاجتماع السياسي ودراسة المجتمعات التي عاشت ثورات، فإنّ الدول تشهد ما بعد الثورات جملة من الأزمات (الأخلاقية، الاجتماعية، السياسية..) وتفقد خلالها الشعوب مناعتها وتصبح عرضة لأشدّ الظواهر فتكًا. وهذا ما عاشه المجتمع التونسي الذي فقد مناعته إبّان الثورة،  ومع تعرّضه لجملة من المعلومات المتناقضة والمواقف المتضاربة فإنّ حدوث الانفصام أمر حتمي، على حدّ تعبيره.

الأستاذ في علم الاجتماع سامي نصر: هناك العديد من العناصر المغذية للانفصام في تونس أبرزها أزمة القيم

ويضيف سامي نصر أنّ "السكيزوفرينيا" يمكن تحليلها من خلال علم اجتماع الصورة الذي يفسّر أن داخل كلّ إنسان أربع صور نمطيّة تتفاعل فيما بينها: صورة يريد الظهور عليها، وأخرى يريد إخفاءها. ويوجد أيضًا حقيقته التي تظهر في مناسبات معيّنة التي يفقد فيها الفرد آليات الدفاع (فرح شديد، غضب شديد...)، وآخر الصور هي التي تنطبع لدى الآخر. ويتمظهر التناقض الكبير بين الصورة التي يريد الفرد الظهور عليها وتلك التي يريد إخفاءها ومن هنا يبدأ الحديث عن الانفصام.

ويؤّكد محدّثنا أن "هناك العديد من العناصر المغذية للانفصام في تونس وأهمّها أزمة القيم سواء كانت تقبّلًا للآخر، التعايش، نبذ العنف، التلقائية، الصراحة..."، معتبرًا أنّ القيم هي التي تعطي للمجتمعات حصانة كي لا تتفشى الظواهر السلبية.

وختم الأستاذ في علم الاجتماع حديثه قائلًا إن: "أكثر المشاكل التي نعاني منها هي إفراز من إفرازات أزمة القيم بالإضافة إلى انفصام المواقف. ومواقع التواصل الاجتماعي خير مخبر لهذا التحليل فقد تتناقض تدوينات الفرد الواحد لدرجة أن يقول متابعوه إنّ صاحب الحساب يعاني من الانفصام أو ازدواجية الشخصيّة".

التطبيع مع مرض الفصام فيه تجنّبٌ للوصم الاجتماعي

إنّ البحث في ظاهرة الانفصام في الشخصية هو بحث متعددّ الأبعاد والأوجه من حيث كونه بحثًا في ظاهرة مركبّة تحتمل في تفسيرها أكثر من اختصاص علمي أو بحثي وأيضًا لكونها قابلة لعدة تفسيرات. وهذا ما أقرّه الباحث في علم الاجتماع محمّد القطبي الذي أكّد لـ"الترا تونس" أنّ هذه الظاهرة متطوّرة ومتنامية وذلك بالعودة إلى الدراسات الرسميّة وغير الرسمية التي تنبئ بمزيد انتشارها.

محمد القطبي (باحث في علم الاجتماع) لـ"الترا تونس": الحالة المتواصلة من التدافع الاجتماعي تجعل الفرد يقرّ حالة التضارب القيمي والمعياري التي قد تتطوّر إلى حالة من الانفصام في الشخصية

 وعن أسبابها الاجتماعية، يوضّح القطبي أنّ عدم وضوح المعيار الاجتماعي العام ينجرّ عنه تضارب في المواقف والآراء لدرجة التقابل والتناقض الاجتماعي ما يضع الفرد في حالة من "الضياع" خاصة مع التحركات والتغيّرات الاجتماعية التي عرفتها البلاد التونسية منذ أحداث 14 جانفي/يناير 2011 إلى حدّ اليوم، على حدّ تعبيره.

 ويوضّح الباحث في علم الاجتماع أن الثورة التونسية حملت معها الكثير من التقلّب في المواقف والتمثّلات وفي إعادة إنتاج السرديات العامة وبنائها بأشكال غير محايدة أو غير جامعة لكل الاتجاهات والمواقف، ليبدو اليومي التونسي في هذه المرحلة كحالة متواصلة من التغيّر الذي يغيب عنه عنصر الثبات والوضوح والاستمرارية، وبالتالي يتشكل لدينا كمجتمع وأفراد وعي اجتماعي عام بأننّا نعيش حالة من اللاإستقرار على جميع المستويات.

ويضيف محمد القطبي أن: "هذه الحالة المتواصلة من التدافع الاجتماعي تجعل الفرد يقرّ حالة التضارب القيمي والمعياري التي قد تتطوّر إلى حالة من الانفصام في الشخصية وقد يكون سببها في حالات عدّة محاولة فردية للتوفيق بين كل الاتجاهات بهدف تحصيل التكيّف الفردي مع المجتمع المعيش".

ويؤكّد محدّثنا أنّه في حالة ثبوت الانفصام ورصده عند شخص ما، فإنّ الجماعة المحيطة بالمريض (وهي عادة ما تكون جماعة مرتبطة بعلاقة قرابة أو علاقة خاصّة بذلك الشخص) تعمد في حالات عدّة إلى إعمال استراتيجية التطبيع مع المرض وإبداء التسامح والتوافق تجاه صاحبه.

الباحث في علم الاجتماع محمد القطبي: الثورة حملت معها الكثير من التقلّب في المواقف والتمثّلات وفي إعادة إنتاج السرديات العامة

ويفسّر هذه النقطة قائلًا: "في أغلب الحالات تقوم الجماعة بالاعتماد على  ميكانيزم الإنكار ما ينجرّ عنه تغييب أعراض المرض أو محاولة تجاهلها من خلال إيجاد تفسيرات بديلة تحدّ من خطورة التقييم الموجّه للشخص المتفق على كونه منفصم الشخصية".

"وإنكار المرض وعدم تفعيل عمليات التقييم الواقعي يكون عادة لتحاشي الوصم الاجتماعي، وتكمن خطورته في كونه وصمًا معدًّا مسبقًا وبأساليب نمطيّة قد تصوّر المريض كمعتوه أو فاقد للعقل، وأيضًا لتلافي التمثّلات الاجتماعية المحيطة بذلك المرض وهو ما يضمن للشخص المعني وحتى لجماعته تلك توازنًا اجتماعيًا وقتيًا قد يمكّنهم من الحفاظ على مكانتهم الاجتماعية والإبقاء على وضعية قبولهم الاجتماعي"، وفق الباحث في علم الاجتماع.

ويختم القطبي قائلًا: "قد يكون هذا الميكانيزم (ميكانيزم الإنكار) سببًا آخرًا في تعقيد حالة المريض من حيث أنّه قد يغيّب عن المريض نفسه أو المحيطين به درجة خطورة وضعيته الصحيّة والنفسية فيقع تجاهلها وهو ما يؤخر دافعية البحث عن علاج وبالتالي مزيد تعقّد حالته النفسية ومزيد شذوذه عن المجتمع وعن نواميسه العامّة"، وفق تقديره.

 

اقرأ/ي أيضًا:

التونسيون يعانون نفسيًا!؟

"حكايا مستشفى الرازي": بوح هاربة من العلاج إلى الحياة