22-يناير-2021

الحمار كان عنصرًا أساسيًا في الزراعة التونسية إلا أن دوره تقلّص مع مرور السنوات

..

"الاتّكال على حمارك أفضل من الاتّكال على حصان جارك"

                                                          ــ مثل فرنسيــ

من عادات المزارعين في الشمال الغربي التونسي امتلاك الحمير واعتبارها أحد عناصر العائلة، فهي تسهم في حياتهم اليومية وتذلل أغلب الصعوبات التي يواجهونها في التنقل إلى الأسواق وحمل الاثقال أيام الحصاد والاحتطاب من الغابات المجاورة وجلب الماء من النبع البعيد.

وأذكر أن جدي -وهو فلاح- كان يتفقد دوابه ليلًا كما يتفقد أبناءه، وكان يولي حماره "الأشهب" (نسبة إلى لونه الرمادي) عناية خاصة، فيقدم له وجبة استثنائية من الشعير في مخلاةٍ قُدّت من صوف أبيض، وكانت عينا الحمار الواسعتان تلمعان فرحًا تحت وميض "الفنار" العتيق في ليالي شتاء الكاف القاسية. كان جدي يقول: "لولا الحمار لعصف بنا الجوع".

من ثقافة المزارعين أن لا يبيع الفلاح حماره إلا للضرورة القصوى، ومن بين النبائل التي يتحلى بها المزارع أن يبقي حماره الذي تقدمت به السن بمزرعته إلى آخر أيامه إكرامًا له وللخدمات التي قدمها

فالحمار كان أساسيًا في تلك الأزمنة، رغم الزحف اللافت للمكننة مع بداية ثمانينات القرن الماضي، إذ أن هناك أعمالًا  صعبة لا يستطيع إنجازها غيره ومسالكًا وعرة لا يقدر على عبورها إلاّ هو.

ومن ثقافة المزارعين أن لا يبيع الفلاح حماره إلا للضرورة القصوى، ومن بين النبائل التي يتحلى بها المزارع أن يبقى حماره الذي تقدمت به السن بمزرعته إلى آخر أيامه إكرامًا له وللخدمات التي قدمها.

كما كانت هناك أسواق خاصة للاتجار بالحمير يقصدها الناس من كل فجّ عميق ويقطعون المسافات من أجلها. داخل هذه الأسواق، نجد فصائل الأحمرة والسلالات والألوان، ونجد أيضًا قصص الأحمرة وحكاياتهم من قبيل: عودة الحمير لمرابضها الأصلية بعد أيام من بيعها، وتعرفهم على مالكيهم الأصليين أثناء إعادة البيع. ونجد مروضي الحمير والوسطاء الغشاشين الذي يصبغون الحمير التي تقدمت بهم السن بالحناء والمردومة وإعادة بيعها بأسعار باهضة. كما تشهد أسواق الحمير عقد المزارعين لقاءات لتناسل الحمير في فترات اللقاح.

هذه الأسواق اندثرت تمامًا مع نهاية الثمانينات واقتصر بيع الأحمرة على أسواق المواشي والدواب التي ينظمها قانون 4 مارس/آذار 1960 وتناقص عددها بشكل ملحوظ. وتعود آخر الإحصائيات الخاصة بعدد الحمير في تونس إلى ما قبل الثورة وتحديدًا إلى سنة 2009، ووصل عددها آنذاك إلى 123 ألف حمار، أكثر من نصفها موجود في الخط الغربي للبلاد التونسية.

اقرأ/ي أيضًا: قطاع الدواجن في تونس يواجه التهميش وخطر التوريد "المشبوه"

ومع تناقص أدواره ومهامه في الريف التونسي، أصبح الحمار عرضة للإبادة من أجل لحمه الذي بات يباع في الأسواق بشكل علني وبأسعار لا تتجاوز 14 دينارًا للكيلوغرام الواحد، وتصدير جلده الذي يستخرج منه الجيلاتين الذي يستعمل في بعض المنتوجات الغذائية والمستحضرات الطبية والتجميلية.

مع تناقص أدواره في الريف التونسي، أصبح الحمار عرضة للإبادة من أجل لحمه الذي بات يباع في الأسواق بشكل علني وبأسعار لا تتجاوز 14 دينارًا للكيلوغرام الواحد، وتصدير جلده الذي يستخرج منه الجيلاتين

"ألترا تونس" حاول تسليط الضوء على وضعية الحمار في تونس فكان الريبورتاج التالي:

شكري بن خليفة (فلاح): اندثار أسواق الحمير جعلت الفلاحة في العراء

التقينا شكري بن خليفة، وهو حاصل على الماجستير في القانون  من كلية الحقوق بتونس منذ تسعينات القرن الماضي وينتمي إلى عائلة تشتغل بالفلاحة منذ عقود، أورثته حب الأرض والزراعة وتربية الماشية، وهو حاليًا يدير ضيعة العائلة بجهة منوبة.

حدثنا شكري أن الضيعة متاخمة لأحد جبال الجهة ومسالكها وعرة بعض الشيء، مما دفع عائلته إلى اتخاذ الحمار أهم مساعد لها للقيام بالأعمال الفلاحية الصعبة في الضيعة، منذ القدم.

ويضيف أنه نشأ على وجود أحمرة حوله في محيط منزل عائلته الفلاحي، فأصبحت علاقته بهم علاقة وجدانية فيها الكثير من الرأفة والمحبة عمقتها دراسة القانون.

ولفت إلى أن الحمار الجيد بات نادرًا اليوم في تونس، وقد يصل ثمنه إلى ألف دينار. وأكد أن والده كان يشتري سابقًا الأحمرة من سوق الدهماني بالكاف، حيث تمتهن عائلات ريفية تربية الحمير، لكن الآن تغير كل شيء فأصبحت الفلاحة التي تتطلب أحمرة في العراء ومهملة، فلم تعد هناك أسواق مختصة ولم يعد هناك من يبيع الحمير.

اقرأ/ي أيضًا: وثائقي "عطاشى تونس".. عن المواطن والدولة وكذبة العدالة

وذكر بن خليفة أن هناك بعض اللصوص الذين يلقّبون بـ"سرّاق البهايم" زادوا من تعقيد الوضع لأنهم يسرقون الحمير من المزارع  والضيعات ويبيعونها بأثمان بخسة لجزاري الخيول والحمير بالمدن الكبرى وخاصة بالعاصمة.

كما يهرّب نصيب من المسروق إلى ليبيا عبر مسالك الرعي ثم تمرر إلى مصر أين يواجه الحمار أكبر أزمة منذ الوجود وهي الذبح وتصدير الجلد الذي تستخرج منه مادة الجيلاتين الرائجة في العالم الآن والتي يفوق سعر الكيلوغرام الواحد منها 600 دولارًا.

الأزهر المخزومي (فلاح): الدولة التونسية مطالبة بضرورة بعث ديوان لتربية الحمير والبغال والخيول من أجل تدارك النقص الفادح في هذه القطعان

وفي هذا الخصوص أثبتت أرقام منظمة الزراعة والأغذية الدولية (الفاو) أن حوالي 10 ملايين حمار يدفعون بجلودهم سنويًا من أجل توفير هذه المادة .

وأوضح محدثنا أن الدولة التونسية ممثلة في وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري لا تدرج هذه المسائل ضمن أولوياتها فقطاع الحمير والبغال والخيول في تراجع شديد ويعيش عدة مشاكل وهي لا تبالي ولا تتدخل للتعديل.

محمد الأزهر المخزومي، وهو فلاح من ولاية سليانة ويشتغل منذ ما يقارب الثلاثة عقود بالزراعات الكبرى والأشجار المثمرة وتربية الماشية، ذكر لـ"الترا تونس" أن فلاحته تتطلب استعمال الحمير في العديد من الأعمال. فدوره ضروري رغم وجود الجرار والآلة الحاصدة والسيارات رباعية الدفع، إذ أن هناك أشغالًا يختص بإنجازها الحمار وحده.

وأضاف أن هذا الحيوان الأليف الذي عاشر الفلاح التونسي لقرون  بات عملة نادرة فهو يغيب عن أسواق الدواب وحتى إن وجد فهو يكون إمّا طاعنًا في السن أو مصابًا بمرض ما.

وأوضح المخزومي أن الدولة التونسية مطالبة الآن بإعادة النظر في هذه المسائل، بضرورة  بعث ديوان لتربية الحمير والبغال والخيول من أجل تدارك النقص الفادح في هذه القطعان.

علي الفرشيشي (مهندس فلاحي): حان الوقت لتأسيس جمعية تونسية تعنى بالحمار

علي الفرشيشي، مهندس فلاحي متخرج حديثًا من الجامعة التونسية، أفادنا في بداية تدخله بأن البشرية كانت تعتقد إلى حد قريب أن الحمير هي فصيلة منحطة من الخيول فأمعنت في استغلال صبرها وقوتها إلى حد الإذلال وممارسة العنف بكل أشكاله تجاهها، لكن هذه الصورة تغيرت شيئًا فشيئًا، إذ عدّل الإنسان من نظرته تجاهها، خاصة في سبعينات القرن العشرين بأوروبا مع ظهور موجة ما عرف بـ"الرفق بالحيوان" وما تولّد عن ذلك من ظهور لعديد الجمعيات المدنية المستقلة التي تدافع عن هذا الحيوان، حتى أنه في فرنسا تم بعث "متحف الحمار".

اقرأ/ي أيضًا: أزمة الأسمدة تهدد الزراعات الكبرى هذا العام

وأوضح الفرشيشي أنّ صورة الحمار في تونس مرتبطة بالفقر في حين أنها تعتبر في صميم الحياة الزراعية في جميع جوانبها وخاصة الاجتماعية منها، وبالتالي وجبت العناية بهذا الحيوان الفذ الذي قدم للبشرية جليل الخدمات ولا يزال يقدّم، وذلك بالمحافظة على السلالات بطرق علمية تمامًا، مثلما تمّ اعتماده مع الجِمال.

علي الفرشيشي (مهندس فلاحي): حان الوقت في تونس لتأسيس جمعية تعنى بوضعية هذا الحيوان المتجه إلى الانقراض من بلادنا

وختم المهندس الشاب بالتشديد على أنه قد حان الوقت في تونس لتأسيس جمعية تعنى بوضعية هذا الحيوان المتجه إلى الانقراض من بلادنا.  

فريد العكروتي (مختص في علم الاجتماع): الحمار أسهم في التاريخ الاجتماعي للشعوب وكان الحيوان الأقرب للحكمة والفلسفة

فريد العكروتي، باحث شاب بالجامعة التونسية مختص في علم اجتماع الريف، أوضح، في تصريح لـ"الترا تونس"، أنّ الريفيين بكامل البلاد التونسية كانوا يتنقلون لقضاء شؤونهم بواسطة الأحمرة، وكانت القرية الواحدة تميز بين حميرها باللون والشكل وحتى بالنهيق أحيانًا.

وأضاف: "رافق الحمار الإنسان في كل المراحل التاريخية التي مرّت بها البشرية لآلاف السنوات، في أيام الحرب كما في أيام السلم، ويذكر لنا التاريخ المشاركات الهامة للحمار في جيش الإسكندر المقدوني في حربه مع الفرس بين 323 و336 قبل الميلاد"، مشيرًا إلى أنه قد "استعملت في تلك الحرب  مئات الأحمرة في رفع العدة والعتاد والأثقال بأنواعها مثبتة  قدرتها على التحمّل والصّلابة في السير لآلاف الأميال".

وتابع الباحث الاجتماعي القول: "أنه كانت للحمير مشاركة هامة في  جيش القائد القرطاجني حنّبعل في حربه السّجالية  الطويلة مع روما، فكان للأحمرة الإفريقية بنّية اللّون مهام لوجستية أكثر منها قتالية ساعدت على الانتصار وأثبت مرة أخرى أن الحمار من الحيوانات التي يعول عليها الإنسان".

وأردف، في ذات السياق، أن "الوثائق المصورة للحربين العالميتين تبرز أدوارًا لا يستهان بها قام بها الحمار، خاصة في المناطق الوعرة التي لا تصلها العربات العسكرية".

فريد العكروتي (مختص في علم الاجتماع): كان الحمار الحيوان الأقرب للإنسان وهو ما دعا الفكر البشري إلى جعله رمزًا للصبر ووسّمه بسمات التواضع والحكمة والطاعة، فكان شخصية مثيرة في الأدب والفلسفة

وسلّط محدّث "الترا تونس" الضوء على "الدور الكبير الذي قام به الحمار، على مرّ التاريخ الاجتماعي لكل الحضارات المتعاقبة، من إسهام في توفير الغذاء وحسن البقاء للإنسان عبر الزراعة والتجارة وكل مظاهر الحياة اليومية".

وأردف، في هذا السياق، إلى أنه "كان الحيوان الأقرب للإنسان وهو ما دعا الفكر البشري إلى جعل الحمار رمزًا للصبر ووسّمه بسمات التواضع والحكمة والطاعة، فكان شخصية مثيرة في الأدب والفلسفة ساعدت على فهم الحياة والوجود.

اقرأ/ي أيضًا: قانون الاقتصاد الاجتماعي التضامني يفتح ملف واحات جمنة من جديد

ونوّه، في ذات الصدد، بأنّه قد سال حبر كثير متناولًا الحمار في الأدب والفكر وقد عدت  رواية "الحمار الذهبي" للكاتب الروماني "لوكيوس أبولوس" أقدم رواية في التاريخ  تروي حكاية رجل تحول إلى حمار جراء سحر تعرض له.

كما أشار إلى أن الكاتب الهندي "بيدبا" قد تناول في القرن الثاني ميلادي في كتابه "كليلة ودمنة" الحمار في حكاية الأسد وابن آوى والحمار حيث يظهر هذا الأخير أحمقًا ومظلومًا.

"أمّا الشاعر الفرنسي جون دي لافنتين فقد انتقد أحوال المجتمع الفرنسي على لسان حمار. وفي السجال الفكري الذي حصل بين الكاتب فكتور هيغو والفيلسوف إيماويل كانط بخصوص الحيوان الأقرب مسافة من الفلسفة كتب هيغو قصيدة مطولة دافع فيها عن الحمار واعتبر موقف هيغو بمثابة المرافعة القوية لصالح هذا الحيوان المسالم والخدوم الذي يوحي شكله بالحكمة، لكنه عُومل مقابل ذلك بغلظة وخشونة وعنف وصلت بشاعته أحيانًا إلى حدّ الإبادة للاتجار بجلده واستهلاك لحمه خلال الأزمات الغذائية التي تمر بها بعض المجتمعات" يضيف الباحث الجامعي.

فريد العكروتي: سيظل الحمار الحيوان الأقرب للإنسان وسيبقى مشاركًا أساسيًا في تاريخه الاجتماعي ومسهمًا في بناء الحضارات الإنسانية

كما أشار محدث "الترا تونس" إلى أنه حسب آخر تقرير لمنظمة الزراعة والأغذية الدولية فإن عدد حمير العالم يناهز اليوم 44 مليون رأس بما في ذلك عدد البغال.

وتتصدر الصين القائمة بـ11 مليون رأس من الحمير تليها دول القرن الإفريقي، فالمكسيك، ثم دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

ويفيد نفس التقرير بأن 95 بالمائة من حمير العالم لا تزال تستخدم في المهام نفسها التي أنيطت بها منذ 6000 آلاف سنة أي النقل الريفي والفلاحي وجر العربات الزراعية وتوليد البغال.

وحسب العكروتي فإن المعطيات المذكورة آنفًا تفيد بأن الحمار مازال ينهض بأدواره وأن الشعوب لم تتخلَّ عنه، وهو عكس ما يحصل في بلادنا التي تخلت حياتُها الريفية عن الحمار مما سبب اختلالًا لا مرئيًا، وهو ما يستوجب انتباهًا من قبل الدولة.

كما تطرق العكروتي إلى سوء المعاملة التي يتعرض لها الحمار في ريفنا التونسي مشيرًا إلى أن معدل عمر الحمار في تونس لا يتعدى السبع سنوات مقابل عيشه لما يقارب الأربعين سنة في فرنسا وأوعز ذلك لسوء التغذية وسوء المعاملة.

وختم المختص في علم الاجتماع حديثه بالقول إن الحمار سيظل الحيوان الأقرب للإنسان وسيبقى مشاركًا أساسيًا في تاريخه الاجتماعي ومسهمًا في بناء الحضارات الإنسانية، وفق تقديره.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نجاح على "صهوة" الحمير..

راعيات الأغنام ورحلة البحث عمّا تجود به الطبيعة من الكلأ