25-نوفمبر-2019

عادات وتقاليد متوارثة في موسم جني الزيتون في تونس (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

لازالت شجرة الزيتون، منذ قديم الزمن، مصدرًا للخير وغصنها رمزًا للسلام وثمرها عزّة وزيتها رزقًا وإضاءة. اُستجلبت هذه الشجرة المباركة قبل 4 آلاف سنة قبل الميلاد إلى فلسطين من بلاد الأرمن ثم نقلها الفينيقيون إلى اليونان ثم لاحقًا إلى شمال إفريقية. وكان بنو كنعان هم أوّل من أدخل هذه الشجرة إلى البلاد التونسية حسب الأبحاث التاريخية، وهي غُرست قبل تأسيس قرطاج سنة 814 قبل الميلاد على يد الملكة عليسة المعروفة بالملكة ديدون.

تشكلت عبر العصور المتعاقبة ثقافة "الزيت والزيتون " في مجتمعنا واقتصاد "الزيت" باعتباره يشكل حلقة جوهرية في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في البلاد إنتاجًا وتصنيعًا وتصديرًا

واحتل زيت الزيتون مكانة بالغة الأهمية في عهد الامبراطورية الرومانية حتى اُطلق على الأقاليم الجنوبية للإمبراطورية "ولايات الزيتون"، واستمر الرومان في نشر غراسة شجرة الزيتون وكانوا يستخدمون أساليب فلاحتها لعقد معاهدات سلم مع الشعوب التي يخضعونها لسلطانهم وتبعهم في ذلك العرب مع تشكيلهم لطرق فلاحتهم الخاصة بشجرة الزيتون.

لوحة فسيفسائية في متحف باردو لعامل من الشابة في عهد الامبراطورية الرومانية يجمع حبات الزيتون (Getty)

 

وتشكلت عبر العصور المتعاقبة ثقافة "الزيت والزيتون " في مجتمعنا واقتصاد "الزيت" باعتباره يشكل حلقة جوهرية في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في البلاد إنتاجًا وتصنيعًا وتصديرًا.

نحاول في هذا العرض تجميع ما أمكن من تشكلات التقاليد التونسية "الزيتونية" في الساحل التونسي وتفكيك بعض المواريث التراثية التي آلت إلى التلاشي والاندثار بمرور العصر.

اقرأ/ي أيضًا: قصص الزيتون في تونس.. قدم التاريخ وبركة الجغرافيا

أسواق مرتبطة بشجرة الزيتون

انتشرت، في بداية القرون الماضية، أسواق تقليدية لبيع الزيت والزيتون، ومنتجات الشجرة عمومًا، وأدوات الجني والمستلزمات الفلاحية على غرار "سوق القايد" في سوسة. وكانت تعرض الحبوب مجمّعة في الأكياس وتوزن بالمكاييل، إذ يضع الشاري الزيتون في "القلبة"، وهي أداة كيل توضع في حوض كبير يسمّى "العلاّفية" لتقدير المحصول فتتجمع حبات الزيتون المنحدرة من "القلبة" في "العلافية" .

وكانت تنتشر أيضًا دكاكين لبيع المنتجات المصنوعة من خشب الزيتون بفضل صلابته وخصائصه المتعددة من بينها طيب الرائحة والمناعة ضد حشرة "السوس"، ومن هذه المنتجات الأشغال الحرفية من التحف والأدوات المنزلية والأواني الخاصة بالمطبخ.

انتشرت، في بداية القرون الماضية، أسواق تقليدية لبيع الزيت والزيتون، ومنتجات الشجرة عمومًا على غرار "سوق القايد" في سوسة

وانتشرت في كافة أنحاء الساحل التونسي، على غرار المناطق التي تنتشر فيها شجرة الزيتون، أسواق تسمى "سوق الجبوس"، و"الجبوس" فصيلة من الزياتين لا تعطي ثمارًا بل يُستغل خشبها خاصة في صنع الأدوات الفلاحية وإصلاحها لذلك اتخذ السوق المخصّص لذلك اسم "الجبوس".

ومن ضمن الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بشجرة الزيتون، توجد صناعة وتجارة الفحم الخشبي المستخرج الحطب، والذي يُستعمل وقودًا لطهي الطعام والتدفئة وإيقاد النار في الحمامات التركية العتيقة. كما يُستعمل عجين الزيت المجفف "الفيتورة" كوقود في البيوت، وتُنتج المصانع الصابون الصلب المستخرج من زيت الزيتون الذي ازدهرت صناعته في القرون الوسطى دون اعتماد موادّ كيميائية، عدا عن استعماله في أحواض صباغة ودباغة الأنسجة والجلود بالمياه الساخنة.

أكياس الزيتون أمام معصرة تقليدية (تيري موناس/Getty)

 

وكان يوجد في المدينة العتيقة بسوسة سوقًا يسمّى "سوق اللفّة " تحت إشراف خبير في الأقمشة يسمّى "لمين"، وهو يمثل وجهة للفلاحين حيث تزدهر تجارة الملابس والأغطية الصوفية التقليدية تزامنًا مع موسم جني الزيتون حيث يتم اقتناء البرنس و"الكدرون" واللحفة للرجال والأغطية الصوفية للمرأة.

كما يوجد سوق الحلفاوين بـ"الرحبة" في المدينة العتيقة بسوسة حيث ترى مشاهد جدل الحلفاء للحصول على "الشوامي"، و"الشامية" تتخذ شكلًا دائريًا يتراوح قطرها من 45 إلى نحو 65 صم وتتسع إلى أربع أو خمس كيلوغرامات من عجين الزيتون. ولازالت مدينة هرقلة في الساحل التونسي شهيرة بصنع "الشوامي" إلى يومنا هذا رغم تطوّر المعاصر، ولا زالت تُصنع "الشوامي" أيضًا من نبتة الحلفاء التي تنتشر في الوسط والجنوب التونسي.

شاهد/ي أيضًا: فيديو: الزيتون في تونس.. كنز الأرض وذهبها السائل

المرأة وشجرة الزيتونة

تعدّ المرأة عنصرًا أساسيًا مساهمًا في إذكاء الدورة الاقتصادية القائمة على موسم الزيتون من مرحلة الإعداد للموسم إلى مرحلة انتهائه، وتبدأ مهمتها بإعداد "الفراش" ومخيطه، وهي أقمشة تفترش الأرض فيتساقط عليها حبّ الزيتون، وتنظيف الجرار التي يوضع فيها الزيت، وإعداد المؤونة طيلة موسم الجني ومشاركة أفراد العائلة الاحتفالات بهذا العرس السنوي.

تعدّ المرأة عنصرًا أساسيًا مساهمًا في إذكاء الدورة الاقتصادية القائمة على موسم الزيتون من مرحلة الإعداد للموسم إلى مرحلة انتهائه

ومن مظاهر الاحتفال بموسم جني الزيتون، طهي "العصيدة" في "النحاسة"، وهي عبارة عن قدر نحاسي كبير يوضع على مواقد من خشب الزيتون تكفي لإطعام العشرات من الأشخاص كل صباح. وتطهو النسوة "الخبز الطاجين" لأكله مع "زيت النضوح"، وهو الزيت المُستخلص من عجين الزيتون يدويًا بعد رفسه في القصاع بالأقدام. فيما تتكون مائدة الغداء من أغذية ساخنة تبعث الدفء في الأجسام مثل الكسكسي و"المحمصة" التي يتجمع عليها الشيوخ والكهول والأطفال على حدّ سواء.

 تقوم النسوة خصوصًا بتنقية حبات الزيتون من الأوراق بالغرابيل (Getty)

 

وإضافة إلى المهمات التقليدية، كانت تقوم النشوة خصوصًا بتنقية حبات الزيتون من الأوراق بالغرابيل في حين يقوم أغلب الكهول بعملية الجني بجرّ الأصابع المحميّة بقرون الأغنام على طول الفروع أو بواسطة أمشاط صغيرة.

عن عادات العصر والتخزين

ومع انتشار المعاصر التقليدية في بدايات القرن التاسع عشر واستمرارها إلى أواخر القرن العشرين، كانت تكتسي عملية استخراج الزيت أهمية بالغة لكونها المنطلق الحقيقي لبداية استخراج الزيت والحفاظ على جودته العالية بدءًا باتخاذ موعد مسبق مع صاحب المعصرة كي لا تتلف حبات الزيتون والتسريع في عصره. وقد انتشرت آنذاك المعاصر الكبيرة التي تحركها الحيوانات، وبعد عملية الرحي تتم تعبئة العجين يديويًا في "الشوامي"، التي تُغسل دوريًا تفاديًا للعفن، حتى يمكن رصفها في المعصار.

معصرة تقليدية يحرّكها حمار معصوب العينين (تيري موناس/Getty)

 

وتبدأ لاحقًا عملية عصر العجين الذي أفرزته عملية الرحي فيسيل الخليط "زيت ومرجين" في حوض أسفل المعصار، ثم تُستخدم أواني خشبية مستديرة الشكل لوضع الزيت فيها، فيطفو الزيت فوق المرجين وتتم عملية تنقية الزيت وتسمّى "الترقيد". وفي مرحلة موالية، يُخزّن الزيت في براميل وأحواض في شكل مواجل وفي درجات حرارة تحافظ على جودته دون تعريضه للهواء والنور.

استخراج زيت الزيتون بطريقة تقليدية (تيري موناس/Getty)

 

وكانت تخزّن العائلات التونسية زيت الزيتون في "بيت العولة" أو ما كان يسميه أجدادنا "بيت الدهر"، وهو مكان مخصّص لتخزين المؤونة صيفًا وشتاءً، ويختلف حجم الكميات المخزنة في "بيت الخزين" من عائلة إلى أخرى حسب قدرتها واستهلاكها ومنتوج الصابة، وتعدّ الوفرة مؤشر العائلات الميسورة في الساحل التونسي التي تظهر عليها علامات الثراء ورغد العيش وبالتالي القدرة على إعالة أكثر من أسرة في الوقت نفسه. وكانت أوعية الخزن متنوعة من براميل خشبية ضخمة وجرار فخارية بمختلف أحجامها.

في ضرورة حفظ الذاكرة الجماعية

تظل، بالنهاية، مواريثنا المادية واللامادية إحدى أهم مكونات هويتنا الاجتماعية والاقتصادية، وتبقى ثقافة "الزيتونة" الأعمق في كياننا غير أن إحياءها مازال مقتصرًا على بعض المهرجانات الموسمية أو بعض المعارض المناسباتية والحال المطلوب ترسيخ هذه التقاليد في البرامج التعليمية حتى تتناقلها الأجيال أو تهيئة متاحف قطاعية مختصة.

تبقى ثقافة "الزيتونة" الأعمق في كياننا غير أن إحياءها مازال مقتصرًا على بعض المهرجانات الموسمية أو بعض المعارض المناسباتية

وفي هذا الإطار، كان قد أسس علي غديرة، من سكان سوسة، "متحف الزيتونة" سنة 2004 بالكورنيش في فضاء منزل عائلي عتيق، ويضم المتحف أروقة وفضاءات لاستعراض عظمة هذه الشجرة المباركة مرسخًا تراثًا مهدّدًا بالمحو من الذاكرة. غير أن هذا الانجاز لم يكتب له التواصل والديمومة نظرًا للكلفة الباهظة للصيانة وانعدام الدعم من أجهزة الدولة، والحال المطلوب من وزارتي السياحة والثقافة العمل على الترويج للعادات والتقاليد التونسية المتعلقة بشجرة الزيتون وتشجيع المبادرات الخاصة في هذا المجال.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مسابقات زيت الزيتون... نوافذ للزيت التونسي لاقتحام أسواق جديدة

سرقة محاصيل الزيتون.. تحدي سنوي يؤرق الفلاحين في تونس