07-مارس-2020

لا تعلمن الراعيات ما يدور في الردهة الأخرى من حياة الترف في المدن (مريم الناصري/ ألترا تونس)

 

يتلاشى الضباب الصباحي بطيئًا فتتبدى ملامح بعض السهول والمرتفعات، وعلى امتداد البصر في تلك المناطق الريفية بالشمال التونسي، لا يوجد مظهر للحياة المعاصرة، فلا بيوت ولا عمارات ولا شوارع تقسم تلك المراعي التي تحيط بها الجبال.

عائشة (راعية أغنام) لـ"ألترا تونس": بات رعي الأغنام عملًا تقوم به فتيات الريف ونسائه منذ سنوات

تخرج عائشة بقبّعتها المصنوعة من سعف النخيل وفستانها المزوّق برسوم زهرات صغيرة، وحذاء رجالي يحميها من حصى الطريق وكلّ ما قد يؤذي قدميها. زادها بعض الخبز والزيتون، حاملة عصاها الرقيقة لتستند عليها خلال صعود المرتفعات الوعرة. لا يختلف شكلها عن أي امرأة ريفية تعمل في المزارع والأراضي الفلاحية. تتغلغل في السهول والجبال يوميًا، لتمضي نهارها تجوب المنطقة بحثًا عن المراعي حتى تعود قبل مغيب الشمس بقليل.

اقرأ/ي أيضًا: عمل المرأة الريفية في تونس.. بين مطرقة الحاجة وسندان الاستعباد

لا تملك راعيات الغنم من الدنيا غالبًا شهادة أو مالًا (مريم الناصري/ ألترا تونس)

عائشة الغالي امرأة في الخمسين من عمرها، تستيقظ فجر كلّ يوم على صوت الآذان، تصلي، وتتحضّر ليومها في السهول دون أن تحتاج إلى تعليمات أو برنامج يومي هو في العادة يتكرّر بين الكر والفرّ وراء أغنامها، ولا يختلف كثيرًا الطريق اليومي مع تجديد طريق السهل بحثًا عن العشب والقش.

في المروج الأخضر على امتداد البصر في إحدى مرتفعات ولاية سليانة، لا يمكن أن تميّز من بعيد إن كان من يرعى ذلك الغنم رجلًا أو امرأة، إلاّ بالاقتراب أمتارًا منها. تردّ عائشة التحية وعيناها صوب أغنامها لتثنيها عن النزول في منخفض وعر. تقول إنّها "تعمل في رعي الأغنام منذ قرابة 30 سنة. كانت المهنة حكرًا على الرجال، لتقوم النسوة بجمع الحطب أو جلب المياه من الأودية أو الاعتناء بشؤون البيت فقط. لكن بات رعي الأغنام عملًا تقوم به فتيات الريف ونسائه منذ سنوات. لا تثنيهنّ صعوبة المرتفعات، ولا تتعبهنّ المسافات، ولا تخيفهنّ مصاعب الطريق. هو عمل بسيط، يكفي أن تتنقل بحثًا عن المراعي التي يتوفّر فيها ما يمكن أن تأكله الماشية للتخفيف من عبء إطعامها في البيت".

لا تملك راعيات الغنم من الدنيا غالبًا شهادة أو مالًا ولا تعلمن ما يدور في الردهة الأخرى من حياة الترف في المدن

لا تملك راعيات الغنم من الدنيا غالبًا شهادة أو مالًا، ولا تعلمن ما يدور في الردهة الأخرى من حياة الترف في المدن، غير معنيات بقضية اجتماعية بقيت فقط تثار في منابر الجمعيات المدنية، ولا بالمؤشرات الاقتصادية وهبوطها. يتصدّرن فقط أرقامًا في جدول إحصاء عدد النسوة العاملات في القطاع الفلاحي. قد تصادفهنّ في أيّ منطقة فلاحية أو جبلية، يتشابهن في الملامح والشكل، يتقاسمن البساطة والمعاناة ذاتها، طبيعة جغرافية قاسية ومناخ متقلب، برده يثلج العظام ومطره تزيد الطريق صعوبة، وشمسه تلفح أجسادهنّ النحيلة. ولكن تغيّر المناخ هو أيضًا يقود الراعيات والقطيع لمناطق أعلى لم يعتادوها من قبل، وذلك بحثًا عن مراعي أكثر خصوبة من تلك التي عصفت بها أزمة المناخ والجفاف.

اقرأ/ي أيضًا: العاملات في القطاع الفلاحي.. عن نساء يضمنّ الأمن الغذائي بالعرق والدم

عمل الراعيات يستمر على مدار السنة (مريم الناصري/ ألترا تونس)

وتعلو قمم الجبال والسهول هذه الأيام ألوان الربيع الذي يشد الزائرين الباحثين عن الراحة. قد يغبط أولئك الزوار سكان الأرياف على ما يتمتعون به من هواء نظيف وجمال طبيعي أخاذ، دون أن يكون لهم أدنى علم عمّا يعانيه سكان تلك السهول الجميلة من قبح الظروف المعيشية القاسية.

فاطمة (راعية أغنام) لـ"ألترا تونس": لا أفكر حتى بالبحث عن عمل قد تطول الرحلة فيه ويضيع العمر في مطاردة وهم الوظيفة

يبدأ عمل فاطمة منذ الفجر أيضًا، وتستهل عملها بفتح بوابة حظيرة أغنامها لتتسلل الواحدة تلو الأخرى في تدافع متجهة إلى طريقها الذي تعوّدته يوميًا. يتخلّف أحيانًا عن تلك المسيرة اليومية مواليد الماشية حديثي الولادة لعدم قدرتهم على المسير الطويل أو صعود المرتفعات.

فاطمة (29 سنة)، بدأت العمل في رعي الأغنام بعد إنهاء دراستها الجامعية. لا تخجل من عملها، ولا "تفكر حتى بالبحث عن عمل قد تطول الرحلة فيه، ويضيع العمر في مطاردة وهم الوظيفة"، كما تقول. وتضيف أنّ "رعي الأغنام لم يعد أمرًا مخجلًا ولا حكًرا على الرجال فقط. ربّما يبدو عملًا متعبًا نظرًا لصعوبة المنطقة ومناخها القاسي، ولكن أغلبنا تعوّد على قسوته". 

هن لا تعملن في رعي الأغنام كأجيرات بل تكون الماشية على ملك للعائلة (مريم الناصري/ ألترا تونس)

عملهنّ يستمرّ على مدار السنة، بينهنّ حاصلات على شهادات عليا، كسرن بها النمط الذي يصوّر الراعي بأنّه ذلك الشخص الأمي، أو بسيط التفكير، يعملن في تربية الماشية وإخراجها للكلأ في الطبيعة. وكحال العديد من النسوة، تعمل فاطمة نحو 10 ساعات في اليوم وأحيانًا أكثر، بحسب كرم الأرض وضغط الموسم. أنيسها في رحلة الرعي كلب وعصا للهش على أغنامها ومآرب أخرى لإبعاد أي أذى قد يحدق بها. قد تتكئ عليها أحيانًا لتريح جسدها المنهك من صعود المرتفعات لملاحقة الأغنام الباحثة عن الدسم من العشب.

تتغلب راعيات الأغنام على قسوة الحياة التي تعشنها على الرغم من عدم الأمان الذي يلازمهنّ في بعض المناطق

وعندما تميل الشمس للغروب، تبدأ رحلة العودة للديار، فتجمع قطيعها بعد أن تتفقدها، وبكل انتظام، ينطلق القطيع في سيره على شكل قافلة طويلة، لتبدأ الهرولة عند الاقتراب من الحظيرة. 

هنّ لا تعملن في رعي الأغنام كأجيرات عند أصحاب مزارع، بل تكون ماشيتها ملكًا للعائلة ومورد رزقها. تعشن حالة من الرضا والبهجة، على غير ما قد يتوقعه البعض. تتغلبن على قسوة الحياة التي تعشنها على الرغم من عدم الأمان الذي يلازمهنّ في بعض المناطق التي شهدت انتشارًا لبعض العناصر الإرهابية خصوصًا على الحدود الجزائرية.  

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الحاجة أمّ الاختراع"... كفيف تونسي يخترع كاشفًا للحواجز

"الموت يحاوطنا".. من حكايا حرفيات "السعف"