07-أبريل-2019

لا تزال الأحمرة إلى اليوم وسيلة نقل للتلاميذ في بعض المناطق الريفية (حاتم الصالحي/أ.ف.ب)

 

قال الله تعالى في محكم تنزيله "وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً"، والبغال والحمير هي زينة حقًا في المناطق الريفية والقرى التي تعتبر تلك الدواب أحد أهم مرتكزات الحياة، إذ يستخدمها السكان لنقل البضائع وجلب المياه، أو حرث الأرض وحمل الحطب والأعلاف وغيرها. وتحتل مرتبة الشرف في حياة هؤلاء المواطنين كونها الوسيلة الأولى لقضاء حوائجهم ولأنّ جغرافيا الريف القاسية وتضاريسها الشاقة المعقدة التي تقطع الأنفاس تحتاج إلى الحمير حاملة المشقة عنهم في سفوح المناطق العالية وتضاريسها الوعرة.

"كنّا نزيّن الحمار بأبهى ما لدينا من خيوط وأقمشة قديمة بل ونتباهى بزينة "سرجه" أو "البردعة" واللبدة. هو رفيقنا حتى في رحلة الذهاب إلى المدرسة ولا يخلو بيت في ذلك الزمان من حمار"، هو حديث يكرره أغلب سكان المناطق الريفية أو حتى بعض القرى والمدن، حين كانت الحمير وسيلة النقل الأولى في العقود الماضية.

لا يزال يكابد تلاميذ عديد الأرياف المشقة أمام تضاريس منطقتهم التي لا تتحمّلها أي وسيلة نقل أخرى غير الدواب للذهاب إلى المدرسة

وخلنا أنّ الأمر ولى وانتهى، لكن على ما يبدو لا يزال يكابد اليوم تلاميذ، في عديد الأرياف التونسية، المشقة أمام تضاريس منطقتهم التي لا تتحمّلها أي وسيلة نقل أخرى غير الدواب. فبينما يقطع تلميذ في إحدى المدن مجرّد طريق معبّد للوصول إلى المدرسة أو تقلّه حافلة عمومية لبلوغ مقاعد الدراسة، يوجد في الجهة المقابلة من هذه البلاد تلميذ آخر من الريف وخصوصًا في جهة الشمال الغربي يشق عباب المسالك الوعرة ليمشي أكثر من ثلاثة كيلومترات على أقل للوصول إلى إحدى المدارس النائية أو يمتطي "صهوة" أحد الأحمرة التي تقطع به الأودية أو تصعد به الربى بسبب التضاريس الوعرة التي غالبًا لا يمكن الوصول إليها أو التنقل فيها سوى سيرًا على الأقدام أو على ظهور الدواب.

في مأساة تلك المناطق لاسيما في فصل الشتاء، لا تزال الحمير تسجل حضورًا لافتًا في المشهد البائس تعويلًا عليها لمرور المسالك الملتوية والجبلية بعد أن تخلى البعض عن تربيتها. وتتحول جل الطرقات والمسالك في الشتاء إلى أوحال فتعزل عديد المناطق وتتعطل مصالح المتساكنين وبالخصوص التلاميذ.

اقرأ/ي أيضًا: في تونس.. أطفال لا يعرفون البحر

في تخوم جبال عين دراهم ومسالكها الوعرة يصادفك في أولى ساعات الفجر بعض التلاميذ وهم يمتطون ظهور الحمير منذ الساعة السادسة للالتحاق بمقاعد الدراسة، وهو مشهد يتكرر في جلّ الأرياف التونسية حتى اليوم وتتناقله وسائل التواصل الاجتماعي. تبدو الرحلة شاقة ومتعبة في أرض زلقة أو صخرية، بل إنها رحلة عذاب يومية لما قد تخفيه الطريق من مفاجآت. هي صورة لا تختلف كثيرًا عما كان يعيشه تلاميذ الأرياف طيلة العقود الماضية ليبقى الأمر متعلقًا بـ"المعذبين" في الريف.

أطفال في عمر الزهور ترتعش أجسادهم النحيلة المدثرة ببعض ما يقيهم البرد، يضطرون إلى الخروج من منازلهم قبل ثلاث ساعات من موعد الدراسة لقطع الكيلومترات ذهابًا وإيابًا عبر مسالك فلاحية رديئة دون أن نتحدث عن فيضانات الأودية عند نزول الأمطار وما تسببه من أخطار تهدد حياتهم. فقد تواترت عدّة أخبار خلال الموسم الشتوي الأخير عن فقدان تلميذ جرفته إحدى الأودية أو عزل تلاميذ في منطقة ريفية بسبب فيضان الأودية أو اضطرارهم المبيت في المدارس. فالرحلة من البيت إلى المدرسة أقرب إلى المغامرة غير المحسوبة العواقب في فصل الشتاء.

الرحلة من البيت إلى المدرسة أقرب إلى المغامرة غير المحسوبة العواقب (دافيد هارفي/جيتي)

اقرأ/ي أيضًا: كيف بات يفهم التونسيون كلمة "جبل" في السنوات الأخيرة؟

يقول رابح (52 سنة) من منطقة نفزة من ولاية باجة لـ"ألترا تونس" إن جلّ أبناء تلك المنطقة الريفية يذهبون سيرًا على الأقدام وأن وحدهم فقط المحظوظون من يملكون حميرًا تقلّهم إلى المدارس التي تبعد قرابة ثلاثة كيلومترات عن بيوتهم. ويشير إلى أن التلاميذ في منطقته يصارعون التضاريس الجغرافية الصعبة وقسوة الطقس أملًا في اللحاق بطابور الصباحي المدرسي، وينتقلون عبر الغابات أو يجتازون الجداول والأنهار أو حتى يتسلقون بعض المناطق الجبلية الأكثر قسوة لاختصار الطريق أو تفادي مجاري الأودية الخطرة.

في تمام السادسة صباحًا أيضًا، تنطلق رحلة أبناء الطرايدة وعيشون في منطقة سجنان من ولاية بنزرت في اتجاه مدارسهم الابتدائية التي تبعد عن قراهم نحو أربعة كيلومترات، مسافة يقطعها أطفال أكبرهم لم يتجاوز سنّه 12 سنة.

رابح (مواطن من نفزة): جلّ أبناء المنطقة يذهبون سيرًا على الأقدام والمحظوظون فقط يملكون حميرًا تقلّهم إلى المدارس التي تبعد قرابة ثلاثة كيلومترات عن بيوتهم

يرتدي صباحًا رفيق بن نجمة، أحد هؤلاء التلاميذ، ميدعة ذهب الزمن بلونها ويدثر ببعض الملابس الصوفية، ثمّ يمتطي صهوة حماره الرمادي يحثّ الخطى في رحلة الذهاب إلى المدرسة وقد يصطحب معه رفيقي دراسته. رغم أنّه يبلغ من العمر عشر سنوات فقط إلا أنّه يمتطى ذاك الحمار منذ سنتين، فلا سبيل للوصل إلى مدرسته دون تلك المشقة.

حدثتنا والدته لطيفة أنّ بعض الآباء يضطرون إلى إيصال أبنائهم والعودة بهم لكن البعض الآخر يعولّ على ذاته للوصول إلى المدرسة، فيما يضطر بعض التلاميذ إلى ترك كتبهم في المدرسة حتى لا تتلف نتيجة الأمطار سواء في رحلة الذهاب أو رحلة العودة.

وواقعًا أن المحظوظين هم من يقصدون مدارسهم على ظهور الدواب، على اعتبار أن غير المحظوظ هو ذلك التلميذ المهدد بالحيوانات المفترسة في بعض المناطق الغابية خاصة في فرنانة وعين دراهم وبعض المناطق الحدودية الأخرى. ولكن في كلتا الحالتين، يصل هؤلاء بعد السير لساعات وقد امتصت ملابسهم بعض ما سقى الله به الأرض من غيث، ولا شك أن هذه الظروف القاسية كانت سببًا في توديع مئات التلاميذ لمقاعد الدراسة مبكرًا، خاصة وأن وزارة التربية أكدت انقطاع قرابة 100 ألف تلميذ سنويًا عن الدراسة معظمهم من الأرياف.

يضطر بعض التلاميذ في المناطق الريفية إلى ترك كتبهم في المدرسة حتى لا تتلف نتيجة الأمطار سواء في رحلة الذهاب أو رحلة العودة

وكثيرًا ما أثار النقل المدرسي في الأوساط الريفية انتقادات كبيرة نظرًا لمعاناة التلاميذ لاسيما وقد يضطر البعض إلى المجازفة أيضًا بركوب شاحنة تقل أكثر من 15 تلميذًا إذ ما توفرت طبعًا بعض المسالك المعبدة التي يمكن عبرها مرور الشاحنات.

هي ظروف تزيدها سوء البنى التحتية للمدارس قسوة في وضع يجعلك تستوعب التفاوت الكبير بين نتائج المدارس الابتدائية بين مختلف ولايات الجمهورية التونسية، أو اختلاف مستوى التلاميذ بين الريف والمدينة، أو تلك الفجوة بين الجهات نتيجة التفاوت الشاسع بينها. هي ظروف قاسية تقابلها في كلّ موسم دراسي وعود مسؤولين بتحسين ظروف النقل المدرسي في الأرياف والحال أنّ أغلب تلك المناطق تفتقر أصلًا لطرقات يمكن معها توفير النقل، لكنّ رغم بساطة تلك النتائج الدراسية إلا أنّه يبقى نجاحًا على "صهوة الحمير".

 

اقرأ/ي أيضًا:

"تشليط"، كي وممارسات أخرى.. رعب أطفال تونس

"بدون تونس".. محرومون من المشاركة في الانتخابات