27-يوليو-2023
الاصطياف في تونس

الاصطياف بات بالنّسبة للكثيرين مجرّد حلم صعب المنال (مصدر الصورة: Getty)

مقال رأي 

 

كانت أبرز تحدّيات دولة الاستقلال في تونس تكوين طبقة متوسّطة ينبني عليها الاقتصاد التونسي في جزء مهمّ منه. ولعلّ أبرز نجاح لبناة تونس المستقلّة حديثًا في هذه المهمّة هو إدخال العديد من العادات الاستهلاكيّة الموسميّة التي لم تكن معمّمة على جميع الشرائح المجتمعيّة.

ساهمت الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها البلد منذ سنوات في تغيّر علاقة التونسي بالمناسبات عموماً وبالممارسات الموسميّة التي تتطلّب إمكانيّات ماديّة لم يعد المواطن قادراً على توفيرها

كما يمكن للمتمعّن في تطوّر التركيبة المجتمعيّة التونسيّة أن يلاحظ ممارسات ترتبط بفترات محدّدة من السنة من ذلك مثلًا التّأقلم مع حرّ فصل الصيف ومحاولة تغيير نمط الحياة ونسق العيش لأيّام وفي بعض الأحيان لأسابيع عديدة. لكنّ اللافت أنّ الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها البلد منذ سنوات، ساهمت في تغيّر علاقة التونسي بالمناسبات عموماً وبالممارسات الموسميّة التي تتطلّب إمكانيّات ماديّة لم يعد المواطن قادراً على توفيرها. 

لكن ماهي أسباب هذا التغيّر؟ وكيف يمكن أن يراوح التونسيّون بين الضروريات الحياتيّة والجانب الترفيهي في الموسم الصيفي؟ وماهي أهمّ انعكاسات هذا النمط، المفروض بسبب الأزمة الاقتصاديّة، على الصحية النفسيّة للمواطن؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن تكون هذه الوضعيّة سبباً فِي تدهور العلاقات الاجتماعيّة؟ 

 

 

  • نظام الحصّة الواحدة: يوم صيفي بين العمل والاصطياف

تفطّن نظام الحبيب بورقيبة إلى أنّ خلق طبقة متوسّطة قد يعزّز جانباً مهمّا من الاقتصاد التونسي ويساهم في تحريك عجلة الاستهلاك. وهو أمر جعل ترسانة القوانين المتعلّقة بظروف العمل مكرّسة لتعزيز هذه الرؤية الشّاملة للوظيفة بشكل عام. والحقيقة أنّ أبرز ملامح هذه الاستراتيجية هو نظام الحصّة الواحدة خلال فصل الصّيف. وهي منظومة موجودة في تونس منذ عقود طويلة جعلت الموظّف التونسي يستبطن ضرورة الترويح عن النّفس خلال فصل الصيف من خلال فكّ كلّ ارتباط مع الوظيفة خلال الفترة المسائيّة. 

تفطّن نظام بورقيبة إلى أنّ خلق طبقة متوسّطة قد يعزّز جانباً مهمّا من الاقتصاد التونسي ويساهم في تحريك عجلة الاستهلاك. وهو أمر جعل ترسانة القوانين المتعلّقة بظروف العمل مكرّسة لتعزيز هذه الرؤية ومن ذلك نظام الحصّة الواحدة خلال فصل الصيف

ورغم أنّ نظام الحصّة الواحدة يثير استهجان العديد من المواطنين، إلاّ أنّنا إذا قاربنا المسألة في سياقها التاريخي نستشفّ أنّ هذا الأمر ساهم في ترسيخ ثقافة الاصطياف لدى الموظّف التونسي، الذي يشرع في الادّخار سنةً كاملة لمحاولة الترويح عن النّفس إمّا بعد انتهاء الفترة الصباحيّة لمتساكني الأماكن القريبة من البحر، أو من خلال كراء منزل لمدّة محدّدة في مدينة ساحليّة لمتساكني المدن الداخليّة. 

لقد تطوّر مفهوم "الخلاعة" عند التونسي من مختلف الطبقات الاجتماعيّة حتّى بات عادةً موسميّة ألفها التونسيون من مختلف توجّهاتهم وأصبحت جزءًا من برامجهم كلّ حسب لإمكانيّاته الماديّة. وقد خلق هذا نوعاً من الحركيّة الظرفيّة خلال فصل الصّيف لمجموعة من المناطق التي ارتبط اقتصادها بموسم الاصطياف الذي يشهد حركيّة من المناطق الداخليّة في اتّجاه المدن السّاحليّة. لكن هذه الديناميكيّة أخذت في التراجع تدريجيّا مع تفاقم الأزمة الاقتصاديّة. فماهي أهمّ تمظهرات هذا التراجع؟ 

 

 

  • بين التضّخم وسلّم الأولويّات.. صيف كلّ المخاطر 

تشهد تونس تراجعاً متواصلًا على المستوى الاقتصادي وقد أدّت هذه الأزمة إلى تراجع مستوى الدينار وتآكل الطبقة المتوسّطة وتوسّع في الطبقات المهمّشة. وهي وضعيّة، يقرّ العديد من المختصّين في الاقتصاد، أنّها تأثّر على نمط عيش التونسيّين. والحقيقة أنّ الاصطياف، كموعد سنويّ للترفيه عن النّفس، بات بالنّسبة للكثيرين مجرّد حلم صعب المنال. ذلك أنّ سلّم الأولويّات تغيّر ليصبح توفير المواد الأساسيّة والتحضير للعودة المدرسية - التي تلي فصل الصيف مباشرة وترتفع كلفتها سنويّاً - أمورًا أهمّ من الترفيه. 

الاصطياف، كموعد سنويّ للترفيه عن النّفس، بات بالنّسبة للكثيرين مجرّد حلم صعب المنال ذلك أنّ سلّم الأولويّات تغيّر لتصبح الأولوية لتوفير المواد الأساسيّة والتحضير للعودة المدرسّيّة التي تلي فصل الصيف مباشرة وترتفع كلفتها سنويّاً

لقد أحدثت الأزمة الاقتصاديّة المتفاقمة تغيّرًا كبيراً على الطبقة الوسطى انعكس على طريقة تمثّل التونسي "للخلاعة". فأمام ارتفاع درجات الحرارة وضعف الإمكانيّات الماديّة أصبح عدد هام من المواطنين يكتفي بالذهاب إلى الشاطئ آخر الأسبوع. وهو ما كان سبباً في اكتظاظ العديد من الشواطئ والذي أثار الاستغراب. 

يجد التونسيّون أنفسهم مرغمين على تحديد سلّم الأولويّات ويكون ذلك على حساب الاصطياف إمّا بالإلغاء أو تغيير العادات لتوفير جزء من المدخّرات لمصاريف أخرى. لكنّ هذا التغيّر التدريجيّ الذي يتسارع من سنة إلى أخرى قد تكون له انعكاسات على مجالات أخرى. 

 

 

  • الضغط اليومي.. لا وقت للتّرفيه والاصطيَاف

للأزمة الاقتصاديّة مجموعة من الانعكاسات على جميع المستويات كتدهور القدرة الشرائيّة وتراجع عجلة الاستهلاك. لكنّ المتمعّن في الجانب النفسيّ أيضاً، يلاحظ أنّ غياب الإمكانيّات أو تفضيل الأولويّات على الاصطياف قد يكون سبباً في ارتفاع الضغط المسلّط على التونسيّين. وهو ضغط قد يؤدّي إلى نوع من الإحباط الذي يفسّر الخمول الذي يسجل في الإدارة التونسيّة

غياب الإمكانيّات أو تفضيل الأولويّات على الاصطياف قد يكون سبباً في ارتفاع الضغط المسلّط على التونسيّين وهو ضغط قد يؤدّي إلى نوع من الإحباط

لا تُولي الدولة التونسيّة الجانب النفسي أهميّة كبيرة. كما يفضّل التونسي أن يوفّر قوت يومه بدلاً من الإنفاق على الكماليّات. ههنا، يمكن أن نلاحظ تغيّرًا جذريًّا على مستوى المفاهيم التي تحولّت مع غياب الإمكانيّات الماديّة. فالعادات الموسميّة التي دأب عليها التونسي منذ عقود تلاشت بسبب الأزمة الاقتصاديّة. 

وعلى عكس ما يتصوّره الكثيرون، فإنّ التراجع عن النسق الحياتي الذي ثُبِّت على مدى عقودٍ طويلة قد يؤدّي إلى تغيّرات على النسيج المجتمعي. فالتونسيّون المنتمون إلى الطبقة الوسطى والطبقة الضعيفة هم في جميع الحالات أولى ضحايا هذا التقهقر. فالمسألة لا ترتبط بمجرّد التنازل عن عادة الاصطياف، بل تتجاوزها إلى نمط حياة مهدّد بالاختفاء وقد يُعوَّض بمجموعة من الإشكاليّات النفسيّة والاجتماعيّة التي لا يقتصر حلّها على الجانب الاقتصادي فقط بل تتطلّب مجموعة من الرؤى والاستراتيجيّاتِ الغائبة عن الدولة التونسيّة منذ سنوات.  

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"