10-أغسطس-2018

ينتشر استغلال الأطفال في قطاع بيع الياسمين في تونس (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

تصدير: "إنّا نحب الورد لكنّنا نحبّ الخبز أكثر.. ونحبّ عطر الورد لكنّ السّنابل منه أطهر".

هذا المقطع الشعري لمحمود درويش دائمًا ما أشعر أنه نشيد ملحمي تفانى الشاعر في نظمه بعفوية نادرة إعلاءً للإنسان الساكن فينا وتكريمًا له. كم يمجّد هذا المقطع رمزية الخبز كعنوان للمسارات النضالية للبشرية ضد الفقر والبؤس والتجويع والتهميش والاعتداء على كرامة الانسان.

ومن النضالات التي تتواءم مع عميق شعر درويش تجارة الياسمين في تونس. هذا العالم الزاهي، والناصع، والفوّاح الذي يستقرّ عادة على رقاب النساء ويقترب من أنوف الجميلات لتتسرّب رائحته الزكية إلى مسامّ الروح. ويمسك به جلاّس المقاهي من الرجال ليزيد من أبّهة الجلسة ويضفي عليها طابعًا من الفخامة، لكنه في حقيقته يبدو غير ذلك فعالم الياسمين في تونس يسكن الهامش بل يسكن هامش الهامش. فمن هم قاطفوا الياسمين؟ ومن هم باعته؟ ومن هم مشتريه؟

 يبدأ رجال الياسمين عملهم باكرًا إذ يكون القطف بعد طلوع الشمس بقليل فيجمعون أزهار الياسمين لتتحول إلى مشامم في القيلولة وتباع مساءً 

حاول "الترا تونس" الاقتراب أكثر من هذا العالم الصغير والوقوف على بعض تفاصيله الملحمية. إذ يبدأ رجال الياسمين عملهم باكرًا، يكون القطف بعد طلوع الشمس بقليل فينتشرون في أحياء المدن يجمعون أزهار الياسمين لتتحول إلى مشامم في القيلولة وتباع مساءً قبل أن تبدأ في التفتح وضوع أريجها.

رجال الياسمين: "رائحة الرغيف أزكى وأطيب من زهر الياسمين"

العم صالح رجل على مشارف الستين من عمره، يوقف دراجته المهترئة من نوع "650 كلاسيك" قرب إحدى أشجار الياسمين المطلة من سور إحدى الفيلاّت الفاخرة بجهة باردو، لتتسارع يداه لقطف الزهرات ليضعها بعناية في آنية من البلاستيك. اقتربنا منه وسألناه عن شغل الياسمين وبدون انزعاج ردّ بأنه يشتغل في هذا القطاع منذ أكثر من عشرين سنة وأضاف: "ناكل منّو في الخبز وربّيت منّو وليداتي".

اقرأ/ي أيضًا: بائع الورد الصغير.. طفل يبيع الحب ويشتري "الموت"

أوضح لنا العم الصالح أنه يأتي بدراجته الهوائية من جهة المنيهلة على اعتبار أن ياسمين باردو يتميّز بنوعية جيدة لأن على حدّ قوله: "الفرنسيس هوما إللى زرعوه" مضيفًا أن السكان هنا لا يمانعون من قطف ياسمينهم بل بالعكس ثمة منهم من يرحب بي في حديقته. وأفاد العم صالح أن الياسمين موسمه لا يتجاوز الستة أشهر ولكي يوفر رزقه لباقي أشهر السنة يتحول إلى أجير عند أحد باعة خضر بسوق حي التضامن.

وبسؤالنا عن مراحل ما بعد القطف، بيّن محدّثنا أن زوجته وابنته الكبرى تشمّمانه خلال القيلولة، فيما يتولّى ابنه، الذي مازال تلميذًا في الثانوي، بيعه مساءً في مقاهي المنيهلة وحي التضامن والعمران الأعلى وحي بن خلدون مستعملًا في تنقله نفس هذه الدراجة ليعود مساء بقوت العائلة. وختم عم صالح حديثه لـ"الترا تونس" أن حرفة الياسمين تعلمها من شقيقه الذي يشتغل سائق سيارة أجرة بمدينة نابل إحدى أشهر مدن الياسمين في تونس.

تقتات عائلة العم صالح من بيع الياسمين فهو يقوم بقطفه فيما تقوم زوجته وابنته الكبرى بـ"تشميمه" ليبيعه الإبن في المساء

التيجاني هو أيضًا قاطف للياسمين بباردو، يقطن الرجل الأربعيني بالضاحية الغربية للعاصمة وتحديدًا بحي الزهور وهو من الأحياء الشعبية المعروفة. ويقول بخصوص علاقته بالياسمين: "كنت صغيرًا أرافق والدي رحمه الله إلى هذه الأنهج الراقية نقطف الياسمين لبيعه لـ"النواورية" (باعة الورد) بشارع الحبيب بورقيبة وهم بدورهم يحولونه إلى "مشموم" ليباع في المقاهي والمطاعم وللسّياح".

ويضيف أن والده كان لا يقطف إلا بعد أن يأذن له أهل الدار أمّا الآن فقد تغير المشهد، فالعملية تتم وكأنها "سرقة" على حد قوله. ويقول إنه لم يعد يحترم المنافسون في القطف بعضهم البعض فمنهم من يجني البراعم الصغيرة التي تتطلب يومًا أو يومين حتى تنضج نكاية في بقية القاطفين. ويختم التيجاني حديثه بأنه يحول "الزهر" قبل الساعة العاشرة صباحًا إلى نفس المحل الذي كان والده يتعامل معه منذ سنين خلت.

كهل يعدّ مشموم الياسمين في تونس العاصمة (ليونال بونفنتير/أ.ف.ب)

فرات اسم جميل ونادر الرواج هو فتى نحيف يحمل "قرعة" في يده مغروس فيها عدد من "المشامم" (جمع مشموم) ناديته لأشتري واحدة وثمة سألته عن مستواه الدراسي، فقال بكل فخر إنه نجح في "النوفيام" (المرحلة الأخيرة في التعليم الأساسي) وارتقى إلى "اللًيسي" (التعليم الثانوي) وهو من حي السيدة المنوبية بتونس العاصمة.

ذكر لنا فرات أن والدته تتقن جيدًا حرفة "التشميم"، فهي تقوم باكرًا لتشتري حصتها من أزهار الياسمين من السوق المركزية ثم تعود بها للمنزل لتنجز حوالي خمسين مشمومًا في اليوم ليتولى بيعها في شوارع العاصمة. ويضيف فرات أن أخاه الأكبر كان هو من يتولى البيع في السنوات الماضية لكنه "حرق" لإيطاليا فخلفه في بيع الياسمين. وعن الربح، أشار بذكاء المراهق: "كل نهار وقسمو.. المهم لمّميمة فرحانة".

مالك (اسم مستعار) يرتدي زيًا تقليديًا تونسيًا مطرزًا، وفي يده محمل من الحلفاء فرشت على أديمه أوراق التوت ونضدت عليه أعراف الياسمين بعناية، وتتدلى على جنبات المحمل قلائد صنعت من أزهار الفل، الزهرة الشقيقة للياسمين. يتجول مالك بخفة تباغتك ابتسامته قبل كلماته التي لا يملّ من تكرارها: "نوّر روحك".

تعللت بالشراء وسألته بعد أن أعلنت عن صفتي، فقال وأخذت تلك الابتسامة في الذبول وعلت وجهه مسحة من الحزن: "أنا صانع عند نواوري كبير نخدم بأجرة النهار، نصنع المشموم في الحانوت ومن بعد نبيعو في شارع بورقيبة والشوارع المحاذية". وأضاف مالك لـ"ألترا تونس" أن بيع المشموم يدر أموالًا طائلة على المحل الذي يشتغل به فحوالي خمسة صناع ينتشرون منذ القيلولة لبيع المشموم وكل واحد يعود بما يقارب المائة دينار وأحيانا أكثر.

مالك بائع مشموم للياسمين: هل يعقل أن أشتغل لعشر ساعات متتالية وأجرتي لا تتعدى العشرين دينارًا؟

وعن مصدر زهر الياسمين، أكد مالك أن أغلبه يأتي من ولاية نابل، فثمة تجار مختصون يبيعون الزهر وأدوات الصنع وحتى المشموم الجاهز بأنواعه وقلائد الفلّ. وأكد مالك أن أسعار المشموم في ارتفاع متزايد لأن هذا القطاع غير مراقب من قبل الدولة في حين يهيمن عليه الاستغلال والظلم بتعبيره متسائلًا: "هل يعقل أن أشتغل لعشر ساعات متتالية وأجرتي لا تتعدي العشرين دينارًا".

رئيس الجمعية التونسية لفنون الياسمين: القطاع مهمل وعلى الدولة التحرك لإنقاذه

عبد القادر بن عثمان هو رئيس الجمعية التونسية لفنون الياسمين ومدير سابق لعدة دورات لـ"مهرجان فنون الياسمين بالصقالبة" بمنزل تميم من ولاية نابل، التقاه "الترا تونس" في إطار هذا التحقيق، فأوضح في البداية أن حقيقة الياسمين في تونس تشوبها العديد من الشوائب وبعض الغموض حسب قوله. إذ يعتبر أن قطاع الياسمين هو "قطاع هش رغم أن ظاهره يشي بكثير من الجمال خاصة في ظلّ انخراطه في السياحة بما هي مجال تنموي حيوي"، ويضيف أن قطاع الياسمين "مهمل إلى أبعد الحدود إذ ليس ثمة إستراتيجيا واضحة ودائمة للياسمين في تونس سواء في مستوى زراعته والاشتغال على شتلات جديدة أو التكوين الحرفي في فنون التشميم" متسائلًا "لم لا البحث عن الابتكار في مجال التشميم؟".

اقرأ/ي أيضًا: الاستغلال الاقتصادي.. آفة الطفولة في تونس

يقول بن عثمان إنه توجه لوزارة السياحة لأكثر من مرة لطرح مشاغل ومشاكل قطاع الياسمين في تونس لكن الوزارة صمتت ولم تكن محاورًا جيدًا من أجل إنقاذ القطاع وتطويره باعتباره رمزًا من رموز السياحة التونسية على حد قوله.

وأفادنا أنه من بين مقترحات الجمعية التونسية لفنون الياسمين هي حماية طرق "التشميم" القديمة المتوارثة عن الأجداد بمدن تستور ونابل ومنزل تميم والحمامات وصفاقس وجربة، وهي "طرق بديعة وفنية لكنها في طريقها للاندثار جراء الإهمال وعدم تشجيع الأجيال الجديدة على تعاطي هذه المهنة النبيلة" كما يقول بن عثمان. ومن المقترحات أيضًا التكوين المهني في حرف الياسمين وسن قوانين واضحة تحمي القطاع والعاملين فيه من مزارعين وقاطفين ووسطاء و"مشاممية".

دعوة لسن قوانين تحمي العاملين في قطاع بيع الياسمين  (ليونال بونفنتير/أ.ف.ب)

واعتبر عبد القادر بن عثمان أن قطاع الياسمين من القطاعات الفنية التي طغى عليها الجانب التجاري والاحتكار في حين أن الفعل الجمالي الحقيقي للياسمين يكون في أبعاده الاجتماعية على حد تعبيره، وقال إن حتى محاولات تصدير الياسمين وترويجه بالسوق الأوروبية لم تكن مدروسة بالشكل المطلوب وقد سيطرت عليها بعض الشركات التجارية.

وطالب رئيس الجمعية بضرورة التدخل العاجل للدولة من أجل حماية الناشطين في قطاع الياسمين حتى يستمروا في عملهم وخاصة أولئك الذي يعملون في منازلهم ويرتزقون من الرائحة الزكية لأزهار الياسمين، كما دعا أيضًا لتأهيل الباعة في المقاهي والمطاعم والنزل والاماكن العامة حتى يعطوا صورة جيدة عن تونس وشعبها.

رئيس الجمعية التونسية لفنون الياسمين: قطاع الياسمين من القطاعات الفنية التي طغى عليها الجانب التجاري ويجب على الدولة التدخل لإنقاذه

تتطلب قصص الياسمين والعاملين فيه وخاصة آلاف القاطفين و"المشامّية" والباعة من الأطفال والنساء البسطاء، وذلك بمختلف المدن والقرى والضواحي التي تتخذ من هذا المجال مصدرُا للرزق غير الملوث للبيئة والداعم للسياحة، تتطلب المزيد من الغوص في عوالمها التي تتجاوز رائحة الياسمين إلى رائحة الخبز.

ومع غياب المعطيات والمؤشرات الرسمية عن قطاع الياسمين في تونس سواء من قبل وزارة الفلاحة أو وزارة السياحة أو الجمعيات ذات العلاقة بالياسمين، يبقى هذا القطاع ينعم في هشاشته إلى أجل غير معلوم. وشخصيًا كلّما نظرت إلى "عرّيشة" الياسمين على شرفة منزلي، تذكّرت القصّة وخاصة وجهها الدرامي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"باندية" المآوي العشوائية.. وجه من وجوه استغلال الناس

عمالة الأطفال في تونس: تصاعد الظاهرة وقصور القوانين