24-سبتمبر-2022
التسفير إلى بؤر التوتر

"يجب تحمل المسؤولية السياسية من قبل كل الأطراف التي حكمت والاعتذار على التراخي الذي تم وعلى الانخراط في مقاربة جيوسياسية" (صورة توضيحية/أ.ف.ب)

مقال رأي

 

تقييم العشرية الماضية (2011-2021) موضوع استقطاب سياسي حاد في تونس ولا يخضع للأسف لمقاربة عامة للجرد الموضوعي الجدي. هو عمليًا حجة إما لتبرير المنظومة التي يقوم الرئيس قيس سعيّد بتثبيتها أو بتبرير أخطاء وخطايا صانعي القرار الرئيسيين خلال العشرية نفسها. وهي في الحقيقة ليست بلون واحد، هي لا "سوداء" كما يصر أنصار الرئيس ولا "وردية" كما يصر عدد من معارضيه. من ضمن أهم محاور العشرية مسألة الإرهاب وفرعها من المسائل، ومن بينها "التسفير إلى بؤر التوتر" الذي أصبح في قلب الصراع السياسي ضمن إطار المحاكم.

لا نعلم بالضبط محتويات الملفات المعروضة على القضاء التونسي ومدى دقتها لكن حتى الآن ما يلاحظ هو إيداع عدد من الأمنيين وتقديم في حالة سراح لعدد من السياسيين خاصة من قياديي حركة النهضة. الاستماعات ستتواصل إلى آخر نوفمبر/تشرين الثاني، أي مباشرة في سياق بدء الحملة الانتخابية لانتخابات 17 ديسمبر 2022، ومن الواضح أن الملف سيستمر كمحور "نشط" يؤثث السياق السياسي.

 

 

سأحاول هنا أن أقدم شهادة وتحليلًا من موقع الباحث والمشرف على أبحاث في هذا الموضوع ضمن مسؤوليتي في إطار الدولة في تلك الفترة الحساسة. يمكن أن أدعي أننا عملنا على الموضوع علمياً وبعيدًا عن العاطفة في المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية بين سنتي 2012 و2014.

وقد كانت أول وحدة بحث شكلتها في المعهد هي دراسة التيار السلفي والتحدي الأمني الذي يمثله مباشرة بعد تقلدي في ماي/أيار 2012 مهام إدارة المعهد، الذي يتبع رئاسة الجمهورية، وذلك زمن الرئيس محمد المنصف المرزوقي. تواصلنا مباشرة مع قيادات سياسية وتقنية في الدولة وقدمنا تقاريرًا لمختلف الأطراف الرسمية المعنية بالملف وتواصلنا مع المجتمع المدني وأيضًا الإعلام لتقديم أهم مخرجات أبحاثنا. بالمناسبة قام المعهد لأول مرة في تاريخه بنشر مؤلفات للعموم عبر موقع رسمي بما في ذلك ملخص أبحاثنا عن التيار السلفي وموضوع الإرهاب عمومًا.

نعني بـ"التسفير" الجهد التنظيمي وأيضًا العفوي لدفع تونسيين وتونسيات للالتحاق بما يسمى "بؤر التوتر" والتسفير موجود بدعم شبكات الإرهابيين أنفسهم وليسوا ضحية غسيل دماغ

يمكن تكثيف أهم المخرجات حول موضوع "التسفير" كأحد فروع محور الإرهاب عمومًا في النقاط التالية:

  • أولاً من حيث التعريف نعني بـ"التسفير" الجهد التنظيمي وأيضًا العفوي لدفع تونسيين وتونسيات (لأنه هناك أيضًا مكون أنثوي بعيدًا عن أسطورة "جهاد النكاح") للالتحاق بما يسمى "بؤر التوتر". لا تعني الكلمة أننا إزاء قطيع يقاتل ولا يشارك في رغبة التسفير لأن مصطلح "التسفير" يمكن أن يكون مضللاً ودالاً على سلبية المعنيين بالتسفير. فالتسفير أولاً موجود بدعم شبكات الإرهابيين أنفسهم وليسوا ضحية غسيل دماغ.
  • لم ينطلق التسفير في فترة "الترويكا". انطلق التسفير بعد الثورة من 2011 منذ حكومة الباجي قائد السبسي إلى "بؤرة التوتر" الأولى أي ليبيا والتي ستصبح منصة أساسية في التدريب و"التسفير" إلى بؤرة التوتر الرئيسية فيما بعد أي سوريا. هذه نقطة أساسية لفهم أن "التسفير" لم يكن حكرًا على مرحلة حكم طرف حصري بل كان ضمن سياق عام.

لم ينطلق التسفير في فترة "الترويكا"، انطلق بعد الثورة من 2011 منذ حكومة الباجي قائد السبسي إلى "بؤرة التوتر" الأولى أي ليبيا

للتذكير فإن تنظيم أنصار الشريعة، الفاعل الرئيسي في التسفير الى ليبيا ثم سوريا آنذاك، تأسس قبل انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011 تحت أنظار الحكومة المؤقتة التي قادها جزئيًا رموز من أنظمة ما قبل الثورة، وبوجود قيادات أمنية وعسكرية قديمة.

وللتدقيق فإن "التسفير" عمومًا لم ينطلق بعد الثورة بل كان موجودًا قبلها خاصة موجة 2003 إثر غزو العراق، وأغمضت السلطات التونسية عينها على ذهاب عديد الشباب إلى سوريا آنذاك ومنها إلى العراق للالتحاق في البداية بالمقاومة العراقية قبل التحول إلى التنظيمات "الجهادية" القريبة من القاعدة بشكل تدريجي. كانت تلك الموجة مهمة جدًا لأنها سترسي تقاليد تواجد تونسي في العراق ثم سوريا ضمن تنظيمات الإرهاب. ومن المهم التأكيد أيضًا أن النظام السوري سهل لسنوات (حتى سنة 2006 على الأقل) وبإشراف أعلى الأجهزة الأمنية عمليات تنقل المقاتلين التونسيين من مطار دمشق إلى الحدود العراقية. ومن الصعب ألا نتصور أنه كان هناك آنذاك حد أدنى من التنسيق بين دمشق وتونس في هذه المسألة.

"التسفير" عمومًا لم ينطلق بعد الثورة بل كان موجودًا قبلها خاصة موجة 2003 إثر غزو العراق، وأغمضت السلطات التونسية عينها على ذهاب عديد الشباب إلى سوريا آنذاك ومنها إلى العراق

  • التسفير لم ينطلق بل تصاعد خلال بداية حكم الترويكا، لا شك في ذلك. والعامل الأساسي لذلك هو تصاعد الحرب في سوريا أواخر سنة 2011 وسنة 2012 إذ انتقلت الوضعية هناك من حراك احتجاجي سياسي مدني إلى حركات مسلحة. البداية كانت بسبب القمع الرهيب للتحركات الميدانية ثم انشقاقات داخل الأجهزة العسكرية والأمنية السورية (مثلما حدث في ليبيا)، يضاف إلى ذلك انضمام قيادات سلفية أطلق سراحها النظام السوري سنة 2011 وهي التي قامت بتأسيس اللبنات الأولى للشق السلفي للعمل المسلح، والذي سيتحول حاضناً للتنظيمات الإرهابية فيما بعد القريبة من القاعدة (جبهة النصرة) ثم داعش.

 

 

  • في المقابل في نفس الفترة تزايدت قوة تنظيم أنصار الشريعة في تونس وأصبح قادرًا على التعبئة بشكل واسع مع توفر قواعد تدريب في ليبيا بعد تمكن أنصار الشريعة الليبي من التمركز هناك بعد سقوط نظام القذافي وتواصل حالة الفوضى وضعف الدولة الجديدة، والتي كان يقود بعد مكوناتها قيادات سابقة في "الجماعة الليبية المقاتلة".
  •  في الأثناء، التنظيم التونسي كان يعلن شعاره المضلل "تونس أرض دعوة وليست أرض جهاد" لتبرير دعم أعمال مسلحة خارج تونس، وتبين فيما بعد أن قيادات أنصار الشريعة كانت تكذب وكانت "تعد العدة" منذ البداية.

أنصار الشريعة في تونس كان يعلن شعاره المضلل "تونس أرض دعوة وليست أرض جهاد" لتبرير دعم أعمال مسلحة خارج تونس، وتبين فيما بعد أن قياداته كانت تكذب وكانت "تعد العدة"

  • وكان أول تقرير تقدمنا به إلى وزير الداخلية علي العريّض وبحضور قيادات أمنية كبيرة في مقر الوزارة آخر صيف 2012 مخرجات أولية بعد "أحداث العبدلية"، اول تقرير قمنا به في المعهد على الموضوع، وبعد لقاءات لباحثينا مع قيادات ميدانية للتنظيم أنه بصدد العمل على ما أسموه "بديلًا ثوريًا" يعني حركات احتجاجية في الأحياء الشعبية وأنه إن لم تنجح فإنهم سيتوجهون نحو الجبال. تمت الإشارة إلى ذلك بشكل صريح وأيضًا للعمل على جلب السلاح إلى تونس.
  • عند تقديم التقرير، أكدت بشكل مباشر على خطورة الوضع. بعد ذلك بأسابيع كنا إزاء "أحداث السفارة الأمريكية" التي كشفت نوايا التنظيم وأيضاً ارتخاء واهتزاز الحكومة وخاصة وزارة الداخلية في مواجهة الخطر القادم. واضطرت رئاسة الجمهورية للاستنجاد بالأمن الرئاسي للتصدي للهجوم على السفارة رغم وجود ثكنة العوينة بجانب السفارة. وهنا سأتجاوز تفاصيل التهديد الأمريكي بالتدخل العسكري المباشر وسلبية قيادات أساسية في الدولة خاصة من ممثلي حركة النهضة.
  • الخلاصة أن التسفير كان عاملاً مميزًا في مراحل حكم مختلفة وتم التغاضي عنه في فترات محددة، ولفهم هذا التغاضي وأيضًا التشجيع في فترات معينة لا يمكن التعامل مع الملف كملف قضائي بل كملف جيوسياسي. تحديدًا التفاهمات الجيوسياسية الدولية بقيادة واشنطن خاصة بين سنتي 2011-2012 حول تسليح المعارضة في سوريا والذي كان محور مؤتمر أصدقاء سوريا  وحصل حوله خلاف (بين الرئاسة التونسية ووزارة الخارجية التونسية بالمناسبة) أدى لعدم إصدار بيان ختامي يقر بتسليحها.

التسفير كان عاملاً مميزًا في مراحل حكم مختلفة وتم التغاضي عنه في فترات محددة، ولفهم التغاضي والتشجيع لا يمكن التعامل معه كملف قضائي بل كملف جيوسياسي

  • كان يتم نقل نموذج "تسليح الثورة الليبية" إلى سوريا رغم أن الوضع في ليبيا أصبح متدهورًا ورغم أن التنظيمات المتشددة ومن أهمها تنظيم أنصار الشريعة الليبي الذي كان يعلن ولاءه بلا أي ريبة لتنظيم القاعدة. لكن في سوريا تمت إضافة معطى آخر وهو تدخل أطراف إقليمية بشكل واضح ومباشر أكثر جرأة مما كان عليه الوضع في ليبيا. وهكذا وظفت القاعدة ثم داعش كل الوسائل للاستثمار في هذا الوضع وتحولت إلى الطرف الرئيسي الذي يقود العمليات المسلحة إزاء صمت وتغاض من القوى الدولية. لا يمكن الإنكار أنه في صيف 2012، عندما كان هناك ضغط لتسليح "المعارضة السورية" كانت هذه "المعارضة" ميدانيًا وبمنطق موازين القوى تنزاح بشكل واضح لصالح التنظيمات المتشددة.

التفاهمات الجيوسياسية الدولية بقيادة واشنطن خاصة بين سنتي 2011-2012 دارت حول تسليح المعارضة في سوريا وكان ذلك محور مؤتمر أصدقاء سوريا وحصل خلاف تونسي بين الرئاسة والخارجية أدى لعدم إصدار بيان ختامي يقر بالتسليح

  • أكثر أطراف التزمت بهذه التفاهمات الدولية والإقليمية هي القوى الإسلامية عمومًا ومنها النهضة وانخرطت فيها بالضبط مثلما حصل في أفغانستان منتصف الثمانينيات والتقاطع حينها بين التيار الإخواني و"الجهادي".
  • المفارقة التي حصلت أن حركة النهضة التي كانت تشهد منافسة قوية من قبل أنصار الشريعة خاصة في السيطرة على المساجد في تونس، أصبحت في وضعية معقدة، إذ أنها تحكم لكن غير قادرة على ضبط المساجد التي سيطر عليها التيار السلفي، وكانت أيضا تتعامل مع أنصار الشريعة من موقع وزاوية عدم "إثارة المشاكل" و"تجنب الصدام". وما من شك أن تصاعد جهد أنصار الشريعة العلني في "التسفير" تزامن في مرحلة أولى مع تشجيع سياسي علني من قيادات نهضوية لذلك تحت عنوان "دعم الثورة السورية"، في الوقت الذي انحرفت فيه الثورة السورية وأصبحت أساسًا صراع بين النظام وإرهاب "جبهة النصرة" الذي سيطر بدءًا من صيف 2012 وخاصة النصف الثاني من ذلك العام على الميدان وأقصت "الجيش الحر" تدريجيًا.

تصاعد جهد أنصار الشريعة العلني في "التسفير" تزامن في مرحلة أولى مع تشجيع سياسي علني من قيادات نهضوية لذلك تحت عنوان "دعم الثورة السورية"

  • أول إجراء واضح يواجه عمليًا التسفير كان إعادة إجراء s17 الحدودي والذي تم زمن الترويكا وليس قبلها أو بعدها. لكن السؤال لماذا تم التباطؤ في إيقاف موجات التسفير رغم المؤشرات الواضحة على تحول ميداني لصالح تنظيمات إرهابية صريحة لا يمكن أن تمثل ثورة تطالب بالحريات؟ الالتزام الجيوسياسي هو الجواب. يجب إذاً تحمل المسؤولية السياسية من قبل كل الأطراف التي حكمت والاعتذار على التراخي الذي تم، وعلى الانخراط في مقاربة جيوسياسية أهدت سوريا للقاعدة ثم داعش وساهمت في تخريب بلد شقيق، وفي نهاية الأمر دفعنا في تونس ثمن كل ذلك إذ أن الخبرات التونسية الإرهابية التي تشكلت في ساحات التدريب والمعارك في ليبيا وسوريا عادت إلينا في شكل تفجيرات وعمليات إرهابية.

السؤال لماذا تم التباطؤ في إيقاف موجات التسفير رغم المؤشرات الواضحة على تحول ميداني لصالح تنظيمات إرهابية.. والالتزام الجيوسياسي هو الجواب

  • أخيرًا، قضائياً الملفات في ملف "التسفير" تبدو ضعيفة وما يحدث هو تقديم في حالة سراح للسياسيين وإيداع في خصوص الأمنيين وذلك على الأرجح بسبب وجود إثباتات أوضح على التراخي في المستويات الأمنية. في المقابل قيادات حركة النهضة تتحدث الآن على استقلالية القضاء بعد تقديمها في حالة سراح.. هل ستغير رأيها إذا تم تقديمها في حالة إيداع آخر شهر نوفمبر؟

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"