بعد العملية الإرهابية الأخيرة التي هزّت العاصمة تونس، عاد الحديث من جديد، في الساحة السياسية وعبر المنابر الإعلامية، حول ضرورة تبنّي استراتيجية وطنية لمواجهة الإرهاب وعقد مؤتمر وطني للغرض. حيث كان من المنتظر، ووفق ما تم تحديده بداية السنة الحالية، عقد المؤتمر الوطني لمكافحة الإرهاب في خريف 2015، وتم تشكيل لجنة للإعداد، لكن تم تأجيله من قبل رئاسة الحكومة تحت عنوان "المزيد من التنسيق الوطني والدولي".
تم تأجيل المؤتمر الوطني لمكافحة الإرهاب في تونس من قبل رئاسة الحكومة بحجة "المزيد من التنسيق الوطني والدولي"
وفي ظلّ ذلك، يتواصل الجدل إثر كل عملية إرهابية حول ضرورة ضبط الخيارات الأساسية في استراتيجية مكافحة الإرهاب، خاصة مع اقتراح تنسيقية المعارضة مؤخرًا عقد المؤتمر المذكور بتاريخ السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول الجاري في ذكرى اندلاع الثورة.
في انتظار المؤتمر الموعود
بقدر ما يختلف الفاعلون السياسيون والمدنيون في تونس حول خيارات وسبل مكافحة الإرهاب وهو ما يتجلى عبر مواقفهم المُعلنة إثر العمليات الإرهابية، فإنهم يتفقون على ضرورة عقد مؤتمر يضبط استراتيجية وطنية لمكافحة هذه الظاهرة.
وعن أهميّة تبنّي هذه الاستراتيجية، يقول طارق الكحلاوي، المدير السابق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية لـ"الترا صوت" إن "إزاء المقاربة المشتتة وغير المنسجمة التي يمكن فيها أن تتضارب سياسات الدولة وأيضًا تقاليد المقاربة الأمنية، تتجلّى الحاجة بجديّة لاعتماد حزمة سياسات تخص مختلف المستويات وعلى أكثر من مدى زمني تتميز بالانسجام فيما بينها". ويؤكد هذا القول ما يذهب إليه غالبية الباحثين، خاصة بالنظر للتجارب المقارنة، حول محدودية الخيار الأمني في مواجهة الظاهرة وعدم نجاعته، وبالتالي ضرورة اعتماد مقاربة شاملة.
وقد سبق وأن أعدّت الحكومة السابقة، التي ترأسها مهدي جمعة، استراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب، تم إعدادها في الفترة بين فبراير/شباط ونوفمبر/تشرين الثاني 2014. وقد سلّمها جمعة لرئيس الحكومة الحالي الحبيب الصيد في حفل تسليم المهام وهو ما يعكس أهميتها. وشارك في إعدادها ثلة من الباحثين والمتخصّصين، في مجالات أكاديمية مختلفة. وقد راج جدل قبل أشهر، إثر تصريح لمسؤول حكومي، حول اختفاء وثيقة هذه الاستراتيجية من مكاتب قصر الحكومة، قبل أن يتدخّل المستشار الإعلامي لرئيس الحكومة ليؤكد وجودها.
وتوجّه الباحث سامي براهم، وهو أحد المساهمين في إعداد هذه الاستراتيجية، برسالة مفتوحة، في وقت سابق من هذه السنة، إلى رئيس الحكومة الحالي للتساؤل حول أسباب عدم تفعيلها وتنفيذ توصياتها. من جهة أخرى وحول تأخر انعقاد المؤتمر الوطني لمكافحة الإرهاب، أرجع براهم خلال حديثه لـ"الترا صوت" ذلك إلى "الخوف من فشل المؤتمر بسبب الشروط المسبقة لجزء من الطبقة السياسية في علاقة بما شهدته فترة حكم الترويكا من عمليات إرهابية مع عدم وجود أرضيّة أوليّة مشتركة لعقد المؤتمر".
هكذا، يبدو أن الأمر يتجاوز الاختلافات بين الحكومة والمعارضة، على مستوى الفاعلين السياسين على الأقل، إلى الائتلاف الرباعي الحاكم. حيث تتجلى المفارقة أن عددًا من قيادات حزب نداء تونس الحاكم سبق وأن اتهموا حركة النهضة، زعيمة حكومة الترويكا سابقًا والمشاركة في الحكومة الحالية، بالتواطؤ في محاربة الإرهاب، بل وجه عدد منهم اتهامات مباشرة لها في هذا الجانب. وهو ما يجعل مهمة تعزيز الثقة من جهة، وتوحيد التوجهات والرؤى من جهة أخرى، أمرًا صعبًا.
وأمام تواصل مطالبة المعارضة والمجتمع المدني بضرورة عقد المؤتمر الوطني للإرهاب في أقرب وقت ممكن، لم تحدد الحكومة بعد تاريخًا لعقده، ولم تعلن عن منهجيته وآليات تسييره، وذلك موازاة مع تزايد الخطر الإرهابي، خاصة وأن جزءًا هامًّا من المتخصّصين يرون أن تحديد استراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب تحظى بإجماع وطني، يمثّل أمرًا محوريًا ومفصليًا في حرب تونس ضد الإرهاب.
"السلفية الجهادية في تونس: الواقع والمآلات".. مساهمة بحثية قيّمة
في علاقة بالجهود البحثية، يمثّل كتاب "السلفية الجهادية في تونس: الواقع والمآلات"، أهم المحاصيل العلمية الأكاديمية حول مبحث السلفية الجهادية في تونس. صدر هذا الكتاب نهاية السنة الفارطة، عن المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، ويمثل جزءًا من إنتاجات وحدة البحث الخاصة بمبحث السلفية الجهادية في هذا المعهد التابع لرئاسة الجمهورية.
وحول المبادرة في تركيز وحدة للبحث حول السلفية الجهادية منذ 2012، يقول طارق الكحلاوي: "حدثت في يونيو/حزيران 2012 تحركات كبيرة خاصة في الأحياء الشعبية في علاقة بمعرض فني اعتبره السلفيون مسيئًا للرسول لكن كانت تلك مناسبة لمعاينة حيوية هذا التيار ومدى انغراسه في الأحياء الشعبية ونواياه العدوانية تجاه مؤسسات الدولة ونيته الانقضاض عليها. وهكذا رأينا أنه لا يمكن مشاهدة ذلك في صمت دون محاولة تفكيك هذه الظاهرة".
يؤكد الباحثون في تونس محدودية الخيار الأمني في مواجهة الإرهاب وضرورة اعتماد مقاربة شاملة
ويتكوّن فريق وحدة البحث من أكاديميين ومتخصّصين، مدعّمًا بفريق من الباحثين الشبّان، قاموا بإعداد دراسات ميدانية حول الظاهرة السلفية الجهادية. ويقول الكحلاوي عن محصّلة البحث إنها "مهمة وتؤكد على شيء أساسي وهو أن يقوم التونسيون أساسًا بإعداد رؤاهم واستراتيجياتهم ولا يجب انتظار تعليمات وتوجيهات من الخارج في هذا الخصوص".
وعن المُخرجات والعناوين الأساسية حول هذه الظاهرة، يشير سامي براهم، وهو أحد أعضاء وحدة البحث، أنّ "الظاهرة غير متجانسة وتختلف أسبابها باختلاف مسارات كلّ فئة من فئاتها". ويضيف أنه "يمكن حصر عوامل تشكيلها إلى عوامل اجتماعية وعوامل مرجعيّة، أما العوامل المحدّدة والأساسيّة فهي العوامل المرجعية بينما العوامل الاجتماعيّة هي محفّزة ومهيّئة".
وإضافة إلى الكتاب الذي شارك من خلاله المعهد في صياغة الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب سنة 2014، قدمت وحدة البحث، طيلة فترة نشاطها، تقديرات مواقف وورقات تقييم حالة لرئاسة الجمهورية. وعمومًا، ونتيجة محدودية انتشار الظاهرة الإرهابية في تونس طيلة العقود الأخيرة، مقارنة بالجارتين الجزائر والمغرب، كان مبحث السلفية الجهادية والإرهاب، غير ذي رواج في الأروقة البحثية، موازاة مع انسداد أفق اشتغال الباحثين حول هذه الظاهرة مع غياب تشجيع الهياكل الجامعية، تجلت الحاجة، خاصة في ظل السياق الحالي، لانكباب الباحثين لتمحّص هذه الظاهرة ودراستها.
عن "فوضى الخبراء" في المنابر الإعلامية
تواصلًا مع ما سبق ذكره وفي علاقة بالتناول الإعلامي لملفّ الإرهاب، يُطرح دائمًا الجدل في تونس حول من يتم استدعاؤهم في المنابر الإعلامية ويتم تقديمهم كمتخصّصين وخبراء في مبحث السلفية الجهادية أو الجماعات الإسلامية. حيث لا يُعرف على غالبيتهم تكوين أكاديمي أو مساهمات علمية في المسألة. ويتأكد الجدل خاصة مع تبنّي هؤلاء "المتخصصين" لتوجهات سياسية معلومة وهو ما يزيد في التشكيك في نواياهم.
وإضافة لغياب توجه البحث العلمي في الجامعات لدراسة ظاهرة الإرهاب، يرجع سامي براهم هذه الفوضى إلى "خيارات لوبيات الإعلام والمال التي لا تختار أهل الخبرة الأكاديميّة من الجامعيين وتنتقى من لا خبرة لهم في سياق الإثارة والتوظيف السياسي للإرهاب".
ويبدو أن هذه الفوضى، خاصة بربطها مع مخاوف الاستثمار السياسي، تمثل إحدى عوامل التوجّس لدى مختلف الفاعلين السياسيين والمدنيين، والمهتميّن بدراسة الظاهرة الإرهابية. وهو ما يزيد بالموازاة في تدعيم حالة غياب الثقة قبل تنظيم المؤتمر الوطني لمكافحة الإرهاب.
اقرأ/ي أيضًا: