06-مارس-2021

الباحث في علم الاجتماع جهاد الحاج سالم

 

تعيش تونس منذ اندلاع الثورة تحوّلات كثيرة وعلى عدّة مستويات وصاحبت هذه التحوّلات احتجاجات اجتماعيّة وتحرّكات شعبيّة كالتي حدثت مؤخّرًا في جانفي/ يناير 2021، بالإضافة إلى ظهور عدّة تيّارات وحركات إيديولوجيّة كالظّاهرة السلفيّة الجهادية وما نتج عنها من أحداث عنف هزّت الجسم الاجتماعي التونسي وأثّرت على المشهد السياسي في أكثر من مناسبة. 

لقراءة وفهم هذه الأحداث والظواهر بعيدًا عن الخطاب السطحي السائد والكليشيهات المعلّبة، يستضيف "ألترا تونس" في هذا الحوار الباحث في علم الاجتماع جهاد الحاج سالم، وهو باحث في علم الاجتماع الحضري، ومختص في دراسة الحركات الاجتماعية وتجلّيات ممارساتها السياسية، تحديدًا أشكال الانتظام الجديدة في فضاءات الإقصاء والنبذ الحضري أو ما يسمّى "الأحياء الشعبية" وقد صدرت له عدّة ورقات بحثيّة.


  • تناولت أغلب ورقاتكم المنشورة التيّار الجهادي في تونس بصفة عامة، وبعد الثورة بصفة خاصة، كيف كان ذلك؟

تناولت التيّار الجهادي عبر العمل الإثنوغرافي (الملاحظة، التقمّص، المقابلات...) أي عبر الانغراس في المجال الحضري لهذا التيّار. في البداية كان تركيزي على منطقة دوّار هيشر كمنطقة نبذ حضري، أين تركّز شكل من أشكال  النّشاط، كما تركّز في مناطق أخرى، وهو النّشاط السلفي الجهادي. بمعنى لم أدرس التيّار الجهادي في المطلق أي تناول خصائصه البنيويّة أو الإيديولوجيّة. لكن حاولت البحث في عوامل نشأة هذا التيّار في مجال ما، مع مراعاة خصوصيّات هذا المجال.

  • هل هناك جذور تاريخيّة للتيار الجهادي في تونس كما روّج بعض المنتسبين له قبل حضره؟

البحث عن الجذور هو عمل أساسي لكلّ إيديولوجيا تبحث عن التموقع. أي أنّ محاولة البحث عن تيّارات/حركات سابقة قد تكون شبيهة بالتيّار الجهادي الحالي لا يستقيم. البحث عن الجذور هو عمليّة تخيليّة لإعادة اختراع التقاليد كما يسمّيه الأمريكي إريك هوبزباوم، وهي غاية كلّ عمليّة تنظير إيديولوجيّة. مثلاً فكرة "التيّار الإصلاحي في تونس"، كما تناولته بياتريس هيبو في مقال لها سنة 2009، حيث أنكرت وجود حركة إصلاحيّة بالمعني الفعلي في تونس، يعني وجود حركة متجانسة وممتدّة في مجال زمني متواصل، ولكنّها فقط سرديّة سياسيّة من سرديّات التيّارات السياسيّة في محاولة للتموقع التاريخي. هدف كلّ إيديولوجيا هو تصوير/تخيّل مستقبل وحشد أتباع حول هذا المتخيّل. وهذا ما فعله التيّار الجهادي عند بحثه عن حركات تاريخيّة شبيهة به. 

بداية تشكّل نواة التيّار الجهادي التونسي بالشكل الذي عرفناه ترجع إلى أواخر الثمانينيات عندما شارك عدّة تونسيّين في الجهاد الأفغاني ضد السّوفيات، وكذلك لاحقاً في ألبانيا وحرب كوسوفو

اقرأ/ي أيضًا: "أبناؤكم في خدمتكم - دعاة تونس إلى الجهاد".. حفر في انتشار "الجهادية" بعد 2011

  • هل تعدّ نشأة التيّار الجهادي من طفرات الثورة أم أنّ له مسار تاريخي يمكن تتبعه قبل بروزه بعد الثورة؟

بالنسبة للتيّار الجهادي في تونس، هو ظاهرة حديثة تاريخيًّا. لا يمكن الحديث عن التيّار الجهادي بالمعنى المتعارف عليه حاليًا قبل عبد الله عزّام ومكتب خدمات المجاهدين في أفغانستان سنة 1984. هناك محاولات من باحثين، ومن الجهاديين أيضًا مثل أبو هاجر الحضرمي، لربط هذا التيّار بحركة جهيمان في السعودية، لكن هذه الحركة لها خصوصيّات مرتبطة بالظرفيّة المكانيّة/الزمنيّة والسّياسيّة/الاجتماعيّة التي نشأت فيها.

تحديدًا بداية تشكّل نواة التيّار الجهادي التونسي بالشكل الذي عرفناه ترجع إلى أواخر الثمانينيات عندما شارك عدّة تونسيّين في الجهاد الأفغاني ضد السّوفيات، وكذلك لاحقاً في ألبانيا وحرب كوسوفو. حينها فقط يمكننا الحديث عن اتساق إيديولوجي ولحمة جنينيّة، لكنها لم تكن كافية لتشكيل تيّار جهادي، على غرار المجموعة المقاتلة الليبيّة (1996) أو الجماعة الإسلاميّة المصريّة، وذلك لوجود اختلافات إيديولوجيّة معقّدة بين الجهاديين التونسيين آنذاك والّتي حالت أيضاً دون تشكيل بيت ضيافة تونسي في أفغانستان كبقيّة المجموعات.

حاول أبو عياض تشكيل بيت ضيافة في أفغانستان سنة 2001، والّذي أفرز المجموعة المقاتلة التونسيّة، ومن بين أفرادها طارق معروفي الّذي حوكم مرّات عديدة. لم يستمرّ هذا التنظيم لكن تكوّنت الشبكة الأولى للتيّار الجهادي. يمكن اعتبار عمليّة الغريبة، سنة 2002، أولى الإشارات عن تمخّضات ولادة هذا التيّار، لكنّها لم تزد عن عمليّة فرديّة لا جماعيّة منظمة بالمعنى السّياسي. 

بداية التجلّيات، أو العمليّات المنظّمة، للتيّار الجهادي هي عملية سليمان سنة 2006. في هذا المستوى يمكن الحديث عن شبكة علاقات لا عن تيّار. مجموعة سليمان، يبلغ عددهم 48، أغلبهم طلبة وهواة متأثّرين ببلاد القاعدة في بلاد الرافدين، عمليّات الزرقاوي في العراق، وكذلك بداية تأثير الأنترنت في تونس.

عمليّة سليمان الإرهابية هي إشارة قويّة لوجود تحرّكات وتمخّضات لم تلتقطها السلطة واكتفت بالحل الأمني بسجن أكثر من 2000 شخص لشبهات متفاوتة. والسّجن هنا سهّل التقاء عناصر هذا التيّار التّي كانت متناثرة جغرافيًّا. عندها بدأ ما يسمّى في بحوث الحركات الاجتماعيّة "الالتحام"، والذي أدّى إلى تقارب وتشكيل علاقات وتشارك رؤى، قيم، حوافز.. لذلك فور خروج هذه العناصر من السّجن إثر الثورة، شكّلت تنظيم أنصار الشريعة بسرعة (ماي/ أيار 2011). هذه تقريبًا ما يمكن تسميته العناوين الكبيرة للروّاية التاريخيّة لمراحل تشكّل السلفيّة الجهاديّة في تونس. 

عمليّة سليمان الإرهابية 2006 هي إشارة قويّة لوجود تحرّكات وتمخّضات لم تلتقطها السلطة حينها واكتفت بالحل الأمني والسّجن هنا سهّل التقاء عناصر هذا التيّار

  • ذكرتم سابقًا أن هذا التيّار وجد أتباعًا أوفر وجاهزين للتعبئة في مناطق الإقصاء الاجتماعي أي في الأحياء الشعبيّة، لماذا لم يختاروا تشكيلات سياسيّة أخرى حزبيّة مثلاً أو مدنيّة مثل الجمعيات؟ 

يمكن اعتبار تفسيرين لهذا. يوجد الوضع الاقتصادي/المادي المتردّي في هذه الأحياء يعني الإقصاء في وجوه متعدّدة: إقصاء اقتصادي، ثقافي، اجتماعي كالانقطاع عن التعليم وتصدّع العلاقة بالدولة. هذا يولّد الإحساس بالمظلوميّة والضيم يسهل استثماره. كما أنّ هناك المعطى الإيديولوجي لدعاة التيّار الجهادي عبر استغلال الموروث الإسلامي.

لكن حقيقة الأمر أنّ الواقع معقّد ولا يمكن الفصل بين العوامل الاقتصاديّة/الاجتماعيّة والتأثير/الاستقطاب الإيديولوجي. يبقى السّؤال الجوهري هو ما الذي يدفع هؤلاء الشباب للانخراط في تنظيم سياسي إيديولوجي دون آخر؟ للإجابة عن هذا حاولت البحث في مظاهر التحوّلات نحو تبنّي الفكر السلفي عبر التحوّل عبر الجسد، الالتزام الروحي، التذويت كما تحدّث عنه بورديو.. أي البحث عن الوسيط بين الحركة وأطرها الكبرى وبين تجذّرها على مستوى الأفراد في خصوصيّات جغرافيّة وتاريخيّة.

اقرأ/ي أيضًا: الأحياء الشعبية التونسية: على هامش الدولة (1/2)

  • لكن قد يتهمك البعض بالتبريري أو التفهّمي، إذ هناك أمثلة لشباب بصفة عامة يتوفّر لهم رأسمال رمزي مرتفع نسبيًّا ورغم ذلك ينجذبون نحو التيّار الجهادي وينخرطون فيه؟ 

يهتم علم الاجتماع عادة بالتواترات لا الاستثناءات، إذ يمثّل المعطى الكمّي ركنًا أساسيًّا في البحث مثلاً أغلبيّة التّونسيين ممن تحوّلوا نحو السلفيّة الجهادية ينتمون لمنطقة حي التضامن كما ورد في تقرير All Djihad is local والّذي يوضّح التوزيع الجغرافي لمن انتموا للتيّار الجهادي، حيث انتمى أغلبهم لمناطق تعاني من الإقصاء الاجتماعي، النفي للاعتراف، والنبذ الاقتصادي. 

يعاني شباب الأحياء الشعبية من الإقصاء نتيجة للوصم الرمزي المرتبط بأحيائهم. إذ تقلّ فرص حصولهم على عمل فقط بسبب عنوان سكنهم أو انتمائهم الحضاري. كذلك العلاقة المتوتّرة مع مؤسّسات الدولة خاصة الأجهزة التنفيذيّة المباشرة. فهذا يلبسهم مرجعيّة ذاتيّة محقّرة. قد يعتبر هذا تظلّمًا أو مظلوميّة لكنه أمر واقع ومهمّة الباحث في علم الاجتماع هو وصفه وتفكيكه لمعرفة أسبابه وعوامل تشكّله. 

فلنأخذ مثلاً الكيان الصّهيوني، توظيف الصهاينة للمحرقة وترويجهم للمظلوميّة لاستقطاب اليهود، لا يعني أن ننفي حدوث "الهولوكوست" فقط لأنّها كانت عاملًا من عوامل إنشاء كيان عنصري أي أنّ النتيجة لا تنفي السّبب. من ناحية أخرى، نرى أنّ دوائر التوزيع الماّدي والاعترافي ملتحمة. وهنا يكمن تعقيد الواقع. تغييب هذا التعقيد يؤدّي إلى رؤى اختزاليّة للتيّار الجهادي. 

أغلبيّة التّونسيين ممن تحوّلوا نحو السلفيّة الجهادية ينتمون لمنطقة حي التضامن، معظمهم ينتمي لمناطق تعاني من الإقصاء الاجتماعي

في مرحلة ثانية، حاولت دراسة الانتقال من حالة الإحساس من أجل الاعتراف عند هؤلاء الشّباب، إلى الصّراع من أجل الاعتراف. بعد التحليل الأفقي أي الرّبط بين دوائر الاعتراف ودوائر التوزيع المادّي، مررت نحو التحليل العمودي والّذي يتكوّن من ثلاثة مستويات: كبروي، متوسّطي وصغروي. أي أوّلاً الإيديولوجيا وعناوينها الكبرى، ثمّ أشكال الحشد، مثل الخيام الدعويّة، أشكال الخطاب والدّعاية الإيديولوجيّة عبر إعادة ابتداع التقاليد انطلاقًا من اختلاق نموذج متخيّل أسطوري وهو الإسلام الأوّل أو "السلف الصّالح" كما يسمّونه. والمستوى الأخير وهو التحوّل جوهريًّا عبر تقمّص شخصيّة ذات صفات مميّزة من لباس وسلوك. 

هذا هو كما قلت سابقاً تعقيد الواقع الذّي حاولت دراسته من خلال تحليل أفقي وعمودي لبناء مخطّط محايث كما يقول دولوز. ربّما فاتتني عناصر أخرى لم أتفطّن لها، وقد تكون هناك نقائص هذا مؤكّد. لكن تلك حدود البحث والباحث الاجتماعي. ولا يعني ذلك أن توفّر هذه العوامل السّابقة يؤدّي ميكانيكيًّا إلى تبنّي الفكر الجهادي لكن ذلك ما جرى سابقا وكان عملي هو محاولة تفكيكه وتفسيره باستعمال أدوات البحث الاجتماعي. 

اقرأ/ي أيضًا: الأحياء الشعبية التونسية: على هامش الدولة (2/2)

  • الواقع لم يتغيّر كثيرًا، يعني نفس الحالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة منذ 10 سنوات لكن تقريبًا اندثر التيّار الجهادي من المشهد العام، هل يعود ذلك للمعالجة الأمنيّة؟ 

في الحقيقة هناك فهم اختزالي تبسيطي للحركات الاجتماعية والسّياسيّة بصفة عامّة والحركة الجهاديّة بصفة خاصة. أي أنّ محاولة حصرها في معادلة رياضيّة طرديّة كفكرة أنّ مجرّد توفّر عوامل معيّنة يكفي لإنتاج ظاهرة ما. لكن الواقع دوما أعقد وهناك تفاعل بين عوامل مركّبة عموديّاً وأفقيًّا.

لا يوجد سياسة أو حركة اجتماعيّة دون حشد. بمجرّد إلغاء آليات الحشد، كالخيام والدّعاة، والأطر الحركيّة وأدوات الفعل الجماعي ينتهي هذا التيّار ككل تيّار اجتماعي سياسي. وهو ما قامت عليه المعالجة الأمنيّة. لأنّها ليست نتاج ظروف فقط، بل نتاج لظروف وعوامل وفعل ضمن سياق. 

يمكن أن تكون المعالجة الأمنيّة مؤثّرة في اندثار التيّار الجهادي حاليًا. لكن التيّار السلفي الجهادي هو تعبيرة اجتماعية لفشل المنظومة. يعني يمكن أن تنشأ تعبيرات متطرّفة أخرى ضمن إيديولوجيّات مختلفة عن الإيديولوجيا السلفيّة كالتعبيرات المتطرّفة الشيوعيّة في أميركا اللاتينيّة الّتي نشأت في سياق تاريخي محفّز ضمن عوامل اقتصادية واجتماعية خاصة. والتّاريخ مليء بالتيّارات المتطرّفة من كلّ إيديولوجيا. 

التيّار السلفي الجهادي هو تعبيرة اجتماعية لفشل المنظومة ويمكن أن تنشأ تعبيرات متطرّفة أخرى ضمن إيديولوجيّات مختلفة 

  • إذًا وجب الآن معالجة العوامل والظرّوف الاقتصادية والاجتماعية حتّى لا تنشأ تعبيرات أخرى متطرّفة مستقبلاً إذا ما توفّر لها سياق يمكن أن ينتجها؟ ما الفرق بين التيّار الجهادي، كحراك سياسي اجتماعي، وبقيّة الحركات الاجتماعية عموماً، وفي تونس بصفة خاصة؟ 

على عكس الحركة الجهاديّة التّي تسعى لقلب منظومة الاعتراف، الحركات الاجتماعية في تونس هي صراع جزئي من أجل الاعتراف، صراع من داخل المنظومة. بينما الحركة الجهاديّة هي صراع مطلق وضد المنظومة، بل تسعى لتكون هي المنظومة. لذلك لا يمكن لها مثلاً أن تشكّل دولة تعترف بها الأمم المتحدة أو دولًا أخرى. التحرّكات في الأحياء والجهات عادة تكون في شكل احتجاجات وغالبًا عنوانها التنمية، هو صراع لتوسيع دائرة الاعتراف وسعي للحصول على ترتيبات أكثر عدالة في إطار القانون والدستور.

  • في التحرّكات الاحتجاجيّة الأخيرة، غابت أشكال التّنظّم الكلاسيكية وكانت التحرّكات تقريبًا عفويّة وغير منظّمة. هل يمكن اعتبار ذلك من أسباب عدم ترجمة هذه التحرّكات إلى فعل/مبادرة سياسيّة؟

قبل كل شيء، هناك إشكاليّة مفهوميّة يجب حلّها. ما معنى احتجاجات منظّمة؟ أوّلاً الانتظام هو حركة عفويّة، وغير ذلك تكون تنظيمًا. يعني الاحتجاجات كانت منتظمة وليست منظّمة. 

ما حدث في الأحياء الشعبيّة مؤخّرًا، هناك من يراه كاحتجاج وهناك من رآه كأعمال شغب. بالنسبة لي أفضّل الاسم المتداول في المشرق وهو "قومة" بمعنى"Emeute"، أو انتفاضة. 

لكن للأسف الخطاب السّياسي السّائد لا يلتقط هذه "القومات" كحدث سياسي أو ديناميكيّة سياسيّة يجب التفكّر فيها. ما حدث من احتجاجات يسمّيه إريك هوبزباوم "الانتفاض البدائي/العفوي/غير المنظّم". مثل حركة قطّاع الطّرق، القراصنة.. أو كتلك الّتي حدثت في الضواحي الفرنسيّة سنة 2005. 

"القومات" لها منطقها، شكلها، خطابها وميكانيزماتها الخاصة. وعادة الفئات الّتي تلجأ لهذه القومات هي الفئات المقصيّة من النّظام السّياسي السّائد/المهيمن وتعجز عن استعمال/التحكّم/ فهم أدواته. وفعلاً الشّباب الّذي خرج في الانتفاضات الليليّة هم شباب غير متحزّب وغير منتظم في حركات سياسيّة وخارج نطاق الفعل السّياسي. في المقابل لا يجد الخطاب السّياسي أي صدى لديهم. 

على عكس الحركة الجهاديّة التّي تسعى لقلب منظومة الاعتراف، الحركات الاجتماعية في تونس هي صراع جزئي من أجل الاعتراف، صراع من داخل المنظومة

لهذه القومات صداها وانعكاسها على أرض الواقع. عرفت الأحياء الفرنسيّة عدّة قومات بين سنتي 1984 و2005، وكان لهذه التحرّكات تأثير عميق أدّى إلى تغييرات كثيرة في السّياسات العموميّة تجاه الضّواحي الفرنسيّة. 

وعاشت تونس قومات مماثلة في تاريخها وكان لها أثرها مثل انتفاضات 78 و84 و2011... ولا تزال، هذه القومات هي انعكاسات لصراعات في أعلى هرم الدّولة. مثلاً سنة 1984، كان هناك صراع أجنحة داخل الحزب الدستوري. وما حصل مؤخّرًا مرتبط بالأزمة السّياسيّة في البلاد. 

"القومة" هي فعل صامت ودائم. فهي تعبير عن الغضب في شكله الجذري، الأوّلي... حيث تستند على الأحاسيس والعواطف أكثر من الشّعارات والخطابات. وهذه الأحاسيس والعواطف هي ما يسمّيه جيل دولوز بـ"التعبيرات غير الدّالة" (expressions insignifiantes) لكنّها تقرأ ويجب أن تقرأ وأن تفهم. عادة تفهم هذه التعبيرات عبر التعاطف. لكنّها تعبيرات غضب، وبالتّالي شعور، والشّعور هو دومًا سياسي. هو إنتاج سياسي. ولذلك فكما انطلقت هذه الاحتجاجات عفويًّا، فقد ترجمت تلقائيّا إلى فعل سياسي. 

  • لكن تخلّلت بعض هذه الاحتجاجات أعمال شغب وتخريب للممتلكات العامّة عدا أنّ بعضها تمّت باللّيل. كيف تفسّرون ذلك؟ 

القومات، أحداث الشّغب، هي كما قلت فعل جماعي خارج مجال الانحراف اليومي، فلا يجب تبخيسه إذا تخلّلته مظاهر عنف. هناك شبكات وعلاقات يجب فهمها أوّلاً. هناك شبكات الأقران، التقارب في الأعمار، والعلاقات الّتي تتكوّن في الفضاء العام كالمدرسة والمقهى... كذلك التعاطف القائم على الانتماء المرجعي "ولاد حومة"، والتّشارك في التجارب الاجتماعيّة.

القومات مختلفة عن الإضراب والاعتصام وغيرها من أشكال التعبير، وهي خارج الأدوات المشروعة للاحتجاج لأنّها غير قادرة على التحكّم فيه. وهناك الجانب المعنوي وهو مهم في هذه "الانتفاضات" إذ هناك مناهضة ضمنية تلقائيّة للشرطة حيث هي الممثّل الوحيد للدولة أمام المحتجّين. علاوة على اختلال التوزيع المادّي، هناك علاقة نفي للاعتراف عبر المواجهة اليوميّة مع الشّرطة. حيث يحسّون أن أحياءهم مسيّجة أمنيًّا فيتولّد لديهم إحساس أنّهم يشكّلون خطرًا يجب تحويطه. 

التحركات الاحتجاجية الأخيرة هي "قومات" وهي مختلفة عن الإضراب والاعتصام وغيرها من أشكال التعبير وهي خارج الأدوات المشروعة للاحتجاج لأنّها غير قادرة على التحكّم فيه

من هنا نجد الاحتكاك أو الالتقاء اليومي لمتساكني الأحياء المقصيّة مع الشّرطة: حجز بضائع للتجّار بحجّة "الانتصاب الفوضوي"، التثبّت العشوائي من الهويّات والّذي يتمّ على أساس الفرز المظهري داخل الفضاء العام، كذلك عمليّات تبادل العنف بين الجماهير وقوّات الأمن في الملاعب، من هنا تنشأ هذه العلاقة المضطربة أو المتحفّزة للتصادم. إذًا هي انتفاضة ضدّ الشّعور بالاحتقار. والّذي يتمظهر في العلاقة اليوميّة بين المواطن والشّرطة، وهي تقريبًا العنصر الوحيد والأكثر تمثيلًا للدولة داخل أحياء هؤلاء الشّباب. وهذا ناتج عن السّياسات النيوليبراليّة المنتهجة والّتي أفرغت الدّولة من محتواها الاجتماعي في مقابل تعزيز الجانب الأمني وبالتّالي تلخيص علاج الأزمات الاجتماعيّة في العلاج الأمني. 

  • ما رأيك في التناول الإعلامي للتحركات الاحتجاجية الأخيرة؟

وسائل الإعلام لم تفتح نقاشًا عامًا حقيقيًا وجدّيًا حول مثل هذه القضايا. وهذا الإشكال يعود أوّلاً للأشكال الإعلاميّة المعتمدة وتنظيم الحقل الإعلامي بصفة عامّة، ثانياً ترابطات الإعلام بالسّياسة. إذ يصبغ التناول الإعلامي لهذه القضايا بنواميس وضوابط معيّنة، ومن بينها الضجّة أو "Buzz"، والترتيبات المشهديّة والفرجويّة. هذا ما يمكن أن نعتبره قد قضى على إمكانيّة إجراء حوار جدّي حول القضايا، بل وصار يتحكّم في أولويّات القضايا. مثلاً هناك احتجاجات عديدة على انقطاع وتوفير الماء بعديد المناطق، لكن لا يوجد أي حوار جدّي عميق حول هذا.

وحتّى لو أثير هذا الموضوع، فهو يتحوّل إلى قضيّة فرجويّة، أي عند مواجهة الأفكار، يتمّ ذلك للفرجة والإثارة وليس للنقاش والالتقاء حول حلول وتصوّرات. فالنّقاش والمواجهة لا يجتمعان. المواجهة هي عنصر يستغلّ في الفرجة. أمّا النقّاش فهو منطلق لإيجاد حلول عمليّة للواقع. هذا هو الإشكال في الحقل الإعلامي المرتهن لنواميس تضبطه في سياق محدّد. كذلك طبيعته المؤسّساتيّة، تنظيمه المالي، ارتباطه بالسّياسة... كلّ هذه العوامل تحول دون إنتاج نقاش عمومي جدّي وعميق حول القضايا الأساسيّة الّتي تهم المجتمع. هذا تقريبًا الإشكال بالنسبة للتناول الإعلامي للاحتجاجات الشعبيّة الأخيرة. 

  • مثل هذه التحرّكات صارت مستهلكة وما عادت تؤثّر في السلطة، وفق البعض، هل يعود ذلك لنجاعة ومرونة النظام الديموقراطي في امتصاص مثل هذه الهزّات أو الصدمات؟

ممكن لكن لا أستطيع الجزم بذلك. الّذين شاركوا في القومات، أو الانتفاضات، لم يكن مسعاهم إسقاط النّظام أو تغييره، فهي تحت سقف النّظام. بل كان مسعاهم إيجاد ترتيبات أكثر عدالة بالنسبة لهم. كان هذا الهدف من الحركات الاحتجاجيّة الّتي حدثت مؤخّرًا.

مراسل "ألترا تونس" خلال إجراء الحوار مع الباحث في علم الاجتماع جهاد الحاج سالم

اقرأ/ي أيضًا: 

مدن الحدود الجنوبيّة لتونس: الإقصاء والعقاب (1/2)

مدن الحدود الجنوبيّة لتونس: الإقصاء والعقاب (2/2)