26-يوليو-2022
استفتاء تونس فرز الأصوات

لا يمثّل الاستفتاء سوى محطّة جديدة لجولات من الصراع بين الاستبداد والديمقراطية (ياسين القايدي/ الأناضول)

مقال رأي

 

لم يمض على الاستفتاء الذي دعا إليه قيس سعيّد سوى ساعات معدودة. وفيه عُرض على "الشعب" ما صار يُعرف بـ"دستور قيس سعيّد" وهو نصّ كتبه بنفسه ولا يمكن أن يرتقي إلى أن يكون عقدًا جامعًا يضبط علاقة الدولة بالمجتمع وبما يُقِيم كليهما من مؤسسات ومصالح وسياسات. وهو في حقيقته توسيع للأمر الانقلابي عدد 117 الذي كان قيس سعيّد أصدره يوم 22 سبتمبر/أيلول 2021 بعد أن أعلن انقلابه يوم 25 جويلية/يوليو 2021، وجعل بموجبه السلطات الثلاثة بيده إلى جانب السلطة الرقابية على الإدارة. وتشير نتائج الاستفتاء الأولية غير الرسمية إلى نسبة مشاركة في حدود 27% وتعدّ أقل نسبة مشاركة مقارنة بكلّ الاستحقاقات الانتخابية التي عرفتها البلاد منذ 2011. مثلما أنّه لم تتوفّر فيها شروط الشفافية الدنيا التي عرفتها كل الانتخابات السابقة.   

ويمثّل الانقلاب على مسار بناء الديمقراطية عند أنصار الديمقراطية والمدافعين عن دستور 2014 ثأرًا من المسار التأسيسي الذي انطلق مع انتخابات 23 أكتوبر/أيلول 2011، وقد كانت أول انتخابات ديمقراطية في تاريخ الدولة التونسية الحديثة أتاحتها الثورة بعد نجاحها في كسر نظام بن علي الاستبدادي.

  • مجال هذا الثأر

يقوم الاجتماع السياسي الحديث على علاقة بين الدولة والمجتمع. وهذا النظام السياسي وليد الحداثة التي عرفها الغرب نتيجة للإصلاحين الديني والفلسفي مع القرن السابع عشر. وتعمّم نموذجها في السياسة والمجتمع مع الظاهرة الاستعمارية وما رافقها من سجال حضاري ليصبح النموذج السياسي المهيمن أمام تراجع هويات انتظام تقليدية لم تصمد أمام تحولات العالم العميقة في السياسة والقوة ورأس المال والعلاقات الدولية.

كانت غاية الثورة كسر بنية الاستبداد الثلاثية في المجال العربي وتوفير شروط الاختيار الحر لكن بعد صمود تاريخي دام 10 سنوات من محاولة ترسيخ بنية النظام الديمقراطي الثنائية تلاشى ذلك

ومثّل النظام الديمقراطي مرحلة متطورة في علاقة الدولة بالمجتمع. وهو نظام يقوم على توازن بين الدولة وما صار يعرف بالمجتمع المدني. وهو نتيجة لاتجاه المجتمع إلى التنظّم في مؤسسات سياسية (الأحزاب) واقتصادية (أنشطة اقتصادية حرّة) واجتماعية (النقابات، جمعيات خيرية..) وحقوقية (هيئات الدفاع عن حقوق الإنسان).

والخلاصة أنّ بنية النظام الديمقراطي ثنائية تقوم على علاقة توازن بين الدولة والمجتمع، في حين أنّ بنية نظام الاستبداد ثلاثية ومنه نظام الاستبداد العربي، إذ تقوم فيه سلطة ثالثة فوق الدولة والمجتمع، ومن ثم فوق القانون لتتحكم بالدولة والمجتمع. وهذه السلطة قد تتمثّل في الزعيم أو في العائلة (الأنظمة الوراثية) أو في مؤسسة من مؤسسات الدولة (الجيش والأمن) لتكون هي السلطة الفعلية وتمنع كل اختيار شعبي حر لا ينفع معها ما يُصنع من "ديكور ديمقراطي" عند الأنظمة المنتحلة للحداثة، وعادة ما تكون مدعومة من نخب حداثية وحقوقية لا حظّ لها في النظام الديمقراطي.

كانت غاية ثورة الحرية والكرامة المنطلقة من تونس كسر بنية الاستبداد الثلاثية في المجال العربي وتوفير شروط الاختيار الحر. وقد كان لها ذلك وأمكن إنجاز انتخابات حرّة في بعض الأقطار العربية كمصر وليبيا وتونس، بعد كسر بنية الاستبداد الثلاثية، غير أنّه تم الانقلاب عليها باستعادة بنية الاستبداد بواسطة المؤسسة العسكرية في مصر وباندلاع الحرب الأهلية الليبية بما يعنيه ذلك من هدم الدولة وتوزّع السلطة بين هويّات سياسية سابقة عليها (قبلية ومناطقية).

وفي تونس كان مآل التجربة نفسه تقريبًا ولكن بعد صمود تاريخي دام عشر سنوات من محاولة ترسيخ بنية النظام الديمقراطي الثنائية.

  • مُنجَز الثورة المضادّة

الموتور في اللغة هو طالب الثأر الذي يحاول توفير الشروط التي تمكّنه من الأخذ بثأره. والموتور المباشر في المشهد التونسي هو قيس سعيّد نفسه، وقد كان طالب برحيل الجميع حكمًا ومعارضة، بعد الاغتيالين السياسيين الموجّهين إلى تجربة التأسيس والإصرار على وأدها. وكان خطابه يتخفّى وراء مزايدة شعبوية عنوانها الديمقراطية القاعدية. وهي فكرة، على شعبويتها، تلامس الهامش المفقّر الذي فجّر الثورة، وتشير إلى حقيقة الانقسام الذي لم تتبيّنه الطبقة السياسية التقليدية التي تولت تسيير الأمور بعد هروب بن علي.

انقلاب سعيّد هو استعادة بنية الاستبداد الثلاثية بأن كسر بنية النظام الديمقراطي (دولة/مجتمع) وأقام سلطة الفرد الماسك بكل السلطات خارج كل مساءلة، وهذا هو مضمون دستوره الذي عرضه على الاستفتاء

إنّ ما قامت به الثورة في 2011 هو كسر بنية نظام الاستبداد الثلاثية، ومحاولة إقامة علاقة توازن بين الدولة والمجتمع، وهو ما مكّن من أوّل انتخابات حرة وديمقراطية في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011.

وأما انقلاب قيس سعيّد فهو استعادة بنية الاستبداد الثلاثية بأن كسر بنية النظام الديمقراطي (دولة/مجتمع) واستولى على كل السلطات بما فيها الرقابية والتأسيسية، وأقام سلطة ثالثة فوق الدولة والمجتمع، هي سلطة الفرد الماسك بكل السلطات خارج كل مساءلة. وهذا هو مضمون دستوره الذي عرضه على الاستفتاء.

والمثير في الأمر أنّ قوى من المجتمع هيّأت لهذا الانقلاب وحرّضت عليه، ثم ناصرته بعد تحققه في 25 جويلية/يوليو 2021، وهي في مجملها قوى تنتسب إلى الحداثة السياسية وجوهرها الانتظام الديمقراطي. وقد كانت شاركت في صياغة دستور الثورة الذي يُعتبر خلاصة للحركة الدستورية والديمقراطية ولمسار من التضحيات في مواجهة الاستبداد كان الإسلاميون أكثر من دفع ضريبتها.

تنفضّ جلّ هذه القوى اليوم من حول الانقلاب دون أن تعلن ارتباط موقفها الجديد بالدفاع عن الديمقراطية. فكان موقفها الأول المساند للانقلاب مثل موقفها الجديد من الديمقراطية وشروطها بعد مناهضته سببًا في عجز الشارع الديمقراطي بقيادة مواطنية "ما فوق حزبية"، ثم بقيادة جبهة الخلاص الوطني، عن إسقاط الانقلاب.

وهذا دافع مهم على إعادة النظر في حدود المجتمع وعلاقته بالدولة، ومنبّه إلى حقيقة الانقسام الذي تعرفه البلاد وهو انقسام مضاعف هووي-اجتماعي. وهو الانقسام الذي منع من إقامة علاقة توازن مع الدولة في حالة ضعفها في الأيام الأولى للثورة وفي مرحلة استعادتها لتوازنها.

هذه الحقيقة السوسيو- سياسية تسمح بتمييز "المجتمع المدني" عن سائر المجتمع التونسي ومنه مجتمع الهامش أو المجتمع الأهلي الذي بقي خارج تغطية الدولة المركزية/الجهوية.

  • أدوات الثأر من الديمقراطيّة  

يتبين من خلال سنوات الانتقال العشرة أنّ "المجتمع المدني" كان صنيعة الدولة وأداة نظام الاستبداد البورقيبي والنوفمبري، وصار بعد الثورة أداة السيستام وهدفه في الانقلاب على الثورة وكسر النظام الديمقراطي.

فما قام به المجتمع المدني من مجاميع سياسيّة ومنظماتية (اتحاد الشغل) في تونس بأسلوب لطيف هو ما قامت به المؤسسة العسكرية في مصر بأسلوب عنيف. مع فارق مهم هو أنّ المؤسسة العسكرية أنجزت المهمة كاملة وفي حركة واحدة بينما كان دور المجتمع المدني في تونس على مراحل. وتمثلت المرحلة الأولى في إجهاض عملية التأسيس، وكانت المرحلة الثانية مع انتخابات 2014 بفوز القديم بها بمساعدة بقايا التجمّع واليسار الوظيفي الذي مثّل عمود "جبهة الإنقاذ" الرئيسي بقيادة الباجي في اعتصام الرحيل. غير أنّ حسابات السياسة ونتائج الانتخابات أفضت إلى معادلة "الحكم مقابل الاعتراف بمرجعية المجلس التأسيسي"، ومن ثمّ القبول بالديمقراطية سقفًا لحكم النداء. وكان هذا المضمون السياسي لمفهوم التوافق.

تكفّلت الشعبوية من خلال مؤسسة الرئاسة بخنق المشهد السياسي وتوفير كل شروط تدمير البرلمان وشلّ العمل الحكومي من خلال سياسية التعطيل والرذيل

وكانت المرحلة الثالثة على هامش انتخابات 2019 ونتائجها السياسية، والتي بموجبها صار الصراع بين الديمقراطية والمنظومة القديمة وروافدها الوظيفية في صلب المؤسسات الأولى للدولة، فكان دور الفاشية والقوى الوظيفية شلّ المؤسسة الأصليّة (البرلمان) أسّ النظام السياسي، وبدعت القوى الوظيفية في منع قيام حكومة وطنية على ضوء نتائج الانتخابات برفضها أن يكون رئيس الحكومة من الحزب الأوّل، وطرح فكرة "حكومة الرئيس" وهي الفكرة التي حملت معها بذرة فشل حكومة الفخفاخ ومهّدت لحكومة المشيشي التجمعية بحزام النهضة وحليفيها، وهي صيغة من صيغ التمهيد للانقلاب على الدستور.

ولعل أهمّ نتيجة سياسية حققتها القوى الوظيفية هي أن يحكم طلبة أكاديمية التجمع باسم النهضة. وفي هذا قدرة كبيرة على المناورة السياسية لن ترى نتائجها إلاّ بعد الانقلاب الذي عُدّ عند هذه القوى انقلابًا على منظومة حكم فاسدة بقيادة النهضة، وفرصة لمسار تصحيح لعشرية الانتقال بعد ترسيخ سردية تُحمَّل فيها النهضة كل المسؤولية. النهضة التي حوربت بدايةً بعنوان مقاومة الإرهاب وتحارب نهايةً بعنوان محاربة الفساد.

أمّا الشعبوية فقد تكفّلت من خلال مؤسسة الرئاسة بخنق المشهد السياسي وتوفير كل شروط تدمير البرلمان وشلّ العمل الحكومي من خلال سياسية التعطيل والرذيل.

  • حرب السنوات العشرة على الديمقراطية 

انطلقت هذه الحرب على الديمقراطية مع لحظة هروب بن علي، وهو ما يسمح باعتبار تاريخ الانتقال الديمقراطي في تونس هو في حقيقته تاريخ محاولات الانقلاب على هذا الانتقال.

ومحاولات الانقلاب هذه لم تكن بمعزل عن محيط تونس ودور الثورة المضادة إقليميًا ودوليًا، فقد كانت بعض قوى الثورة المضادة لا تتورّع عن التدخل المباشر في الشأن التونسي لإسقاط التجربة الديمقراطية من خلال تصريحات قياداتها الأمنية والعسكرية ودعمها الإعلامي واللوجستي لأدواتها في المشهد السياسي التونسي. فكانت عبير تنقل إلى قنواتها على المباشر ما يدور في مجلس نواب الشعب.

يمثل نجاحُ الانقلاب نجاح السيستام ولوبيات المصالح الدائمة بمساعدة القوى الوظيفيّة في كسر بنية النظام الديمقراطي وذلك بهدم المؤسسات الديمقراطية المنتخبة وترويض الأجهزة

غير أنّ ما انضاف في الحرب على الديمقراطية في تونس، إلى جانب شلّ المؤسسات، هو محاولة جرّ الأجهزة الصلبة إلى معترك السياسة. وكان سعيّد بتحرّشه بالمؤسستين الأمنية والعسكرية واضحًا. وقبله لعبت جلّ النقابات الأمنية دورًا سياسيًا علنيًا تحت عنوان التحذير من الإرهاب ومن غرف أمن موازية، رغم أنّ ما مارسته على مدى سنوات الانتقال العشرة في حربها على شروط الديمقراطية لا يخرج عن حقيقة الأمن الموازي.

يمثل نجاحُ الانقلاب نجاح السيستام ولوبيات المصالح الدائمة بمساعدة القوى الوظيفيّة في كسر بنية النظام الديمقراطي وذلك بهدم المؤسسات الديمقراطية المنتخبة وترويض الأجهزة. وكان هذا العامل الأخير سببًا في استمرار انقلاب لا تاريخ له ولا مشروعية ولا أخلاق.

وبلا مواربة كانت الحرب على الديمقراطية هرسلة متواصلة على مدى عشرية الانتقال لشرطها السياسي الأول وهو حركة النهضة. نقول هذا بمعزل عن الأخطاء تحت سقف الديمقراطية ومنها ما كان جسيمًا بحساب السياسة وشروط بناء الديمقراطية ولكنه لا يحجب عنا مثلما أنّه لا يبرّر خطيئة هدم الديمقراطية واستعادة سلطة استبداد متخلفة كانت سببًا في قيام الثورة والانتفاض المواطني.

ثم إنّ منهج الهرسلة هذا وجوهره شيطنةٌ وسبابٌ وترسيخ لسرديات الترذيل والإقصاء والتقسيم لا علاقة له بالنقد المطلوب الموجه للقوى السياسية المشاركة وللعشرية برمتها، وفي مقدّمتها حركة النهضة. وهو نقد مارسته قوى مواطنية هي التي قادت مقاومة الانقلاب والدفاع عن الدستور والديمقراطية، وهي قوى جمعت بين اليساري والعروبي والإسلامي والدستوري والمستقل. قوى يجمعها مشترك وطنيّ كان غيابه أحد الأسباب العميقة في تعثّر الانتقال إلى الديمقراطيّة.  

  • أفق الاستفتاء

بهذه التفصيل يتأكّد أمران، الأول هو أنّ الانقلاب ثأر لنظام بن علي الآفل من الثورة والديمقراطية. والثاني هو توضّح الحقيقة النوفمبريّة لطالب الثأر هذا. وما رأس الانقلاب، إلاّ واجهة مؤقتة في خطة استعادة نظام الاستبداد النوفمبري بمساعدة روافده الوظيفية من بوليس سياسي وشبيحة. وهي روافد رافقته في نهاية العهد البورقيبي وفي كل مراحل العهد النوفمبري المافيوزي.

والاستفتاء ليس سوى دسترة لعودة هذا النظام الاستبدادي المافيوزي. وإنّ الانتباه إلى رموز "الفكر التجمعي" وما يكتبونه ويصرّحون به في علاقتهم بالانقلاب وانتصارهم له يؤكدان هذه الحقيقة. ويؤكدان ما أشار إليه رئيس جبهة الخلاص الوطني الأستاذ أحمد نجيب الشابي بأن دسترة الاستبداد لن تقابل إلا بمقاومة مواطنية ديمقراطية تعمل على إرساء حوار وطني شامل يكون أرضية لتشكيل حكومة إنقاذ وطني بمرجعية دستور الثورة تحضّر لانتخابات رئاسيّة وتشريعيّة وتغلق هذا العبث الذي يهدد تواصل الدولة ووحدة المجتمع.

من الواضح أن سعيّد صمّم على أن يكون الاستفتاء مناسبة لتمرير دستوره أيًّا كانت نتيجة التصويت ومن الواضح أكثر أنّ النظام النوفمبري العائد يغضّ الطرف عنه فأولويّته هي تصفية ما بقي من شروط بناء الديمقراطية

وقد كانت جبهة الخلاص في أوّل ردّ فعل لها على نتائج الاستفتاء اعتبرت أنّ زهاء 75% من الناخبين رفضوا تزكيّة مسار سعيّد الانقلابي، وأنّ الأرقام التي أعلنت عنها هيئة الانتخابات لا توافق ما لاحظه المراقبون المحليّون والأجانب من عزوف. ودعت الجبهة قيس سعيّد إلى الاستقالة، على اعتبار أنّه لا بديل عن دستور 2014 الذي اعتبرته مصدر الشرعيّة الوحيد. 

لا خلاف في أنّ نصّ الدستور وملابسات الاستفتاء عليه مثّلا إهانة بالغة لكلّ الطبقة السياسيّة تطول حتّى من يقف في وجهه دفاعًا عن الثورة والحداثة السياسيّة. والإهانة متعدّدة الأبعاد، إذ أنّ كتابة دستور من قبل فرد نصّب نفسه حاكمًا بأمره تمثّل منتهى الإهانة لنخبة سياسيّة كان يُنظر إليها دائمًا على أنّها استثناء وحالة فكريّة وذهنيّة متقدّمة على النخب في سائر البلاد العربيّة. هذا بغضّ النظر عن مضمونه. فمن حيث المبدأ فإنّ الموقف الوحيد لنخب تُنعت بأنّها متنوّرة لا يمكن أن يكون إلا الرفض حتّى وإن ادّعى صاحبه تزكية له من قبل نبيّ.

ومن الواضح أنّ قيس سعيّد صمّم على أن يكون الاستفتاء مناسبة لتمرير دستوره أيًّا كانت نتيجة التصويت. ومن الواضح أكثر أنّ النظام النوفمبري العائد يغضّ الطرف عنه. فأولويّته هي تصفية ما بقي من شروط بناء الديمقراطيّة. وأنّ القبول بخرقة دستور الانقلاب وبما تضمّنه من جمع بين السلطات مطلوب لتحقيق هذه الأولويّة. وقد يكون الجمع بين السلطات نفسه سببًا في إزاحة واجهة الانقلاب وهو بحساب مصلحة السيستام نجاح للانقلاب، بل لعلّه من أقوى الأسباب في نجاحه وما يمكن أن يتوفّر من شروط العودة إلى ديمقراطيّة من غير الإسلاميين. وهو الهدف الذي يلتقي عليه السيستام وكلّ القوى الوظيفيّة، وقد كانت هذه القوى التقت عليه في ظلّ نظام بن علي المافيوزي على مدى عشريّتين من القمع والفساد والتبعية والارتهان للأجنبي.

في هذا السياق، نفهم الدور الذي أوكل لبعض أدوات النظام القديم في مناشدة سعيّد منذ توليّه الرئاسة ثمّ بتحريضه على الانقلاب وانتهائه بمساندة الانقلاب والانضمام إلى الحوار الصوري الذي أقامه، ومن هؤلاء من ترأّس لجنة كتابة الدستور مثل العميد الصادق بلعيد وأستاذ القانون الدستوري أمين محفوظ، وقد كانوا من خصوم قيس سعيّد ونعتوه بالتطرّف الديني أثناء المنافسة بينه وبين نبيل القروي مرشّح حزب قلب تونس في رئاسيات 2019.

فالصادق بلعيد وأمين محفوظ خُدعا من قبل سعيّد، وفق ما أعلناه بعد نشر دستوره في الرائد الرسمي. وظهرا في موضع الضحيّة لكنّهما لم يستطيعا محو الخزي الذي نالهما بمشاركتهما في تمزيق دستور الشهداء، غير أنّ انخراطهما في استهداف شروط الديمقراطيّة على مدى عشريّة الانتقال سيجعل لهما نصيبًا حين يستقرّ الأمر للنظام النوفمبري العائد. وقد يكونان من الأصوات التي ستُدعى إذا أريد التخلّص من واجهة الانقلاب في مرحلة متقدّمة.

حقيقة الصراع بين الثورة والثورة المضادّة الذي تمّت استعادته مع الانقلاب وهدم سقف الديمقراطيّة الذي كان يُظلّ صراع القديم والجديد يشير إلى أنّ الانقلاب ليس إلاّ الجانب المرحلي من هذا الصراع، وأنّ بناء الديمقراطيّة القويّة والقادرة على الدفاع عن نفسها ديمقراطيًّا لتنمية البلاد يمثّل الاستراتيجي في مهمّة القوى الديمقراطيّة المواطنيّة التي تضمّ الإسلامي واليساري والعروبي والليبرالي على قاعدة مشترك وطني بدت ملامحه الأولى مع الحراك المواطني في مواجهة الانقلاب.

الانقلاب في حقيقته محاولة جادة لعودة النظام النوفمبري، وهو ما سيطلق مقاومة مواطنية راديكالية بأفق سياسي تحرري يمثّل المرحلة الثانية من مواجهة الانقلاب الذي سيتحوّل بالاستفتاء إلى نظام دكتاتوري

المشهد التونسي ليس بمعزل عمّا تعرفه الساحة الإقليميّة والدوليّة، ولا عن تأثير القوى الإقليميّة والدوليّة ورعاية مصالحها في تونس، غير أنّ الصراع بين الاستبداد والديمقراطيّة يتمّ بأدوات محليّة رغم حجم التأثير الخارجي.

الانقلاب في حقيقته محاولة جادّة لعودة النظام النوفمبري، وهو ما سيطلق مقاومة مواطنيّة راديكالية بأفق سياسي تحرّري يمثّل المرحلة الثانية من مواجهة الانقلاب الذي سيتحوّل بالاستفتاء إلى نظام دكتاتوري.

وبغضّ النظر عن مصداقية النتائج فإنّها في كل الأحوال تشير إلى انقسام حادّ في الطبقة السياسيّة رافقها قبل الانقلاب وصاحبها أثناءه ويظهر اليوم مع الاستفتاء المختلف في شأنه. وهو انقسام فشلت المرحلة السابقة في توفير شروط تجاوزه مصالحة تاريخيّة على قاعدة الديمقراطيّة والعدل الاجتماعي. 

ومن الواضح أنّ القديم بروافده المتعدّدة اختار الانقلاب على مسار بناء الديمقراطيّة منذ 2011 ومثل قيس سعيّد الحلقة الأخيرة من هذه المسيرة. لكنّ البلد يعود إلى نقطة الصفر، ولا يمثّل الاستفتاء سوى محطّة جديدة لجولات من الصراع بين الاستبداد والديمقراطية.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"