31-مايو-2022
انتخابات بن إبراهييم

يوجد نقاش متصاعد حول كيفية التعامل مع الاستفتاء: مشاركة أم مقاطعة؟ (صورة أرشيفية/الشاذلي بن إبراهيم/NurPhoto)

مقال رأي

 

خطاب الرئيس السيادي الحازم ضد تقرير "لجنة البندقية" حول الاستفتاء يعكس قلقًا منه إزاء التشكيك في شرعية أهم محطة في خريطة طريقه خاصة من طرف دولي بحجم اللجنة.

يجب أن نتذكر أن لجنة البندقية ليست مجرد جمعية خبراء في القانون بل هي مؤسسة تتبع "مجلس أوروبا" أي إحدى مؤسسات الاتحاد الأوروبي وتم إحداثها بداية التسعينات في سياق "المساعدة على الانتقال الديمقراطي" في شرق ووسط أوروبا. بالمناسبة نعت من يتعاملون معها بـ"الخونة" ليس في صالح الرئيس أو حكومته إذ أن السلطات التونسية قبل وبعد 25 جويلية/يوليو 2021 تتعامل مع اللجنة كمرجعية "استشارة" وآخرها منذ أسابيع قليلة عندما التقاها وزير الخارجية. طبعًا الرئيس هنا يلتجئ للحجة السيادية للتعبئة من أجل الاستفتاء الذي يراه المدخل الممكن الوحيد ليس للإصلاحات التي يراها ضرورية بل لوجوده السياسي في ذاته. موضوع الاستفتاء هو أهم موضوع سياسي قائم. وهو معضلة الرئيس، لكن أيضًا معارضيه.

خطاب الرئيس السيادي الحازم ضد تقرير "لجنة البندقية" حول الاستفتاء يعكس قلقًا منه إزاء التشكيك في شرعية أهم محطة في خريطة طريقه خاصة من طرف دولي بحجم اللجنة

أمام الانقسام الحاد داخل نخبة تميل في شقها الأغلب والأكثر مشهدية إلى معارضة جذرية لمسار 25 جويلية وشق آخر أقلّي، في الظاهر المشهدي على الأقل، يساند بشكل محتشم عمومًا المسار، يوجد نقاش متصاعد حول كيفية التعامل مع وضع "الأمر الواقع"، خاصة المحطة الأساسية القادمة أي استفتاء 25 جويلية/يوليو 2022: مشاركة أم مقاطعة؟ والأهم ماهي ميول الطرف الأهم "الجموع" التي تشاهد من بعيد، عموم الناخبين؟

من الأشياء المثيرة الأيام الأخيرة حوار لأستاذ القانون الدستوري عياض بن عاشور في إذاعة "موزاييك أف أم" (محلية) يوم الأحد 29 ماي/أيار 2022. الحوار مهم من أكثر من زاوية وليس أقلها ما يثيره الرجل من حنق لدى قيس سعيّد، وأيضًا لما يمثله الرجل من رمزية تاريخية وراهنية لنخبة بقيت دائمًا حاضرة وقوية زمن الاستقرار الأثير والثورات على السواء. عبر بشكل واضح عن المأزق، في نفس الوقت الذي أعلن فيه بطلان المسار من لحظته الأولى في 25 جويلية/يوليو إلى 22 سبتمبر/أيلول 2021 إلى الاستشارة إلى إجراءات الاستفتاء فإنه ختم بأن حرض تقريبًا على المشاركة بـ"لا".

خلف الخطاب الجذري حول "إسقاط الانقلاب" وعدم الاعتراف بأي من محدثاته ومحطاته بدأ بشكل خافت في العلن لكنه صاخب بشكل متزايد في الكواليس ومنذ أشهر قليلة يدور نقاش حول جدوى ونجاعة المشاركة في الاستفتاء أو مقاطعته. كان هناك في البداية حالة اضطراب في أوساط المعارضين حول مدى قدرة قيس سعيّد "المعزول" على تفعيل خريطة الطريق التي أعلنها بعد طول انتظار.

خلف الخطاب الجذري حول "إسقاط الانقلاب" وعدم الاعتراف بأي من محدثاته ومحطاته بدأ يدور نقاش حول جدوى ونجاعة المشاركة في الاستفتاء أو مقاطعته

كان هناك تقديرات مغرقة في التفكير عبر الرغبة wishful thinking تعتمد على التهوين من لحظة 25 جويلية/يوليو 2021 وتوهم بـ"انتهاء شعبية" قيس سعيّد، وأن مسيرات خمسة آلاف شخص قادرة على زعزعة ثقة الأجهزة الحاملة للسلاح في قيس سعيّد وتعبئة حشود متزايدة في تجاهل كامل لِـكَون رموز "مقاومة الانقلاب" الوازنة حزبيًا والتي تقوم فعليًا بالتعبئة خاصة رئيس حركة النهضة كأنها خلقت ناصعة البياض ولا تقع تحت عبءٍ ثقيل في التمثل الشعبي ولا تتحمل مسؤولية فشل الانتقال الديمقراطي.

استطلاعات الرأي ليست "الحقيقة" لكنها ليست بعيدة كثيرًا عنها، إذ أن قيس سعيّد لا يتمتع بمساندة نشيطة تستوجب هبوط الناس إلى الشارع بل بمساندة سلبية لا تزال تراه الأقل سوءًا رغم كل مساوئه، على الأقل حتى الآن. وأيضًا حدث كثير من التقدير السيء في تضخيم دور الخارج والأهم تضخيم في نية الخارج "إيقاف" قيس سعيّد. خارجٌ، مثلما قلنا، يهمه منع الفوضى وانفلات الهجرة أكثر من حماية الديمقراطية. وعمومًا هناك حالة "إنكار" في فهم قيس سعيّد وتوقُّع بأنه سيتوقف بمجرد "عزلة" متزايدة عن النخبة خاصة النخبة الاجتماعية وعلى رأسها اتحاد الشغل. فقط بعد تمرير كل العناصر الإجرائية المهيئة للاستفتاء من هيئة انتخابات ومراسيم بدأ المعارضون يفهمون أن "الأمر الواقع" سيعني أيضًا "أمر الاستفتاء".

هناك حالة "إنكار" في فهم قيس سعيّد وتوقُّع بأنه سيتوقف بمجرد "عزلة" متزايدة عن النخبة خاصة النخبة الاجتماعية وعلى رأسها اتحاد الشغل

ربما "قليل جدًا ومتأخر جدًا" (too little too late) لكن فقط الآن بدأ المعارضون يقدرون معضلة الاستفتاء الجوهرية بالنسبة لهم: المشاركة بحملة "لا" وما يمكن أن تنطوي عليه من "تشريع" ما يعتبرونه باطلًا شكلًا ومضمونًا خاصة مع إمكانية الهزيمة. وحملة المقاطعة التي تعني في الجوهر رفضًا للمسار لكن تعني أيضًا الانتصار الحتمي لـ"نعم".

المراهنة ليست خاسرة تمامًا على الأقل نظريًا وحسابيًا. التقديرات الإحصائية لكل اللاعبين لو عدنا إلى الكتل الانتخابية في 2019 بشكل ظاهر يمكن أن تعني نزالًا جديًا. إذ لنتخيل ولو للحظة "جبهة لا" تشمل بشكل منظم أو غير منظم كتلًا انتخابية (بمنطق لحظة 2019 أو بمنطق استطلاعات الرأي الأخيرة) تشمل النهضة وعبير موسي والأحزمة الشعبوية القريبة من النهضة (من ائتلاف الكرامة إلى الصافي سعيد والمرايحي وما تبقى من طيف قلب تونس) وبقية الطيف الديمقراطي-الاجتماعي مع ديناميكية تتعلق بوضع اقتصادي واجتماعي صعب ويوم ساخن وسط الصيف فربما حينها تصبح اللعبة جدية.

يرى سعيّد الاستفتاء كضرورية لوجوده السياسي في ذاته. موضوع الاستفتاء هو أهم موضوع سياسي قائم. وهو معضلة الرئيس، لكن أيضًا معارضيه.

لكن هل يمكن أن نحسب الكتل إحصائيًا (في لحظة 2019 أو استطلاعات الرأي المحينة) دون أن نفكر في ديناميكية مقابلة تمثل امتدادًا فيما اعتبره أهم ما يميز لحظة انتخابات 2019 وما تم تأكيده في 25 جويلية، أي الانقسام الجدي بين جزء مهم من النخبة يتم النظر إليها كطرف مسؤول عن العشر سنوات الماضية وحصيلتها وبين شخصية شعبوية قلبًا وقالبًا تتبنى في الأقصى هذا الانقسام وتبني عليه؟ لنتخيل أن "جبهة لا" تجمع مثلما قلت بشكل منظم أو غير منظم رموزًا تصارعت بكل الوسائل إلا الحربية وتسببت في اهتراء النخبة ذاتها لتجتمع الآن في موضع "ضد قيس سعيّد"؟ ألن يفعل ذلك في الأساس تفاعلًا ضديًا؟ تصبح حملة "نعم" تعبير الجموع على تأكيد رفض النخبة كما تتمثلها، الأسوأ من السيء؟ المخاطرة تبدو عالية جدًا. والنتيجة الأغلب هزيمة "لا"، وهذا سيكون أيضًا ورطة أعمق لأنه سيفرض عليها وضع التفاعل مع مبدأ المشاركة في الانتخابات، حتى لو قامت بحملة موازية حول "تدليس الاستفتاء"، وأن دولة قيس سعيّد لا يمكن أن تؤتمن في المسار الانتخابي.

ننتظر ونرى..

 

  •   المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"