مقال رأي
منذ اللحظات الأولى للثورة التونسية وإلى اليوم، تعاقب الأحداث وتواترها يوحي بأن النخبة السياسية فارقت لحظة التأسيس المعقودة بأهداف الثورة، لتتمركز أفعالها ضمن دائرة التموقع السياسي وتأمين رصيدها الانتخابي. بطبيعة الحال، حصل اشتغال مهم ومراكمة لأعمال فرضها السياق الثوري واتصلت بالمسار التأسيسي المطلوب بعد انهيار سلطة ما قبل الثورة، لكن عملية التأسيس ذاتها لم تكن مبنية على مرتكزات بنيوية تؤهل مؤسسات الدولة للقبول بعقد اجتماعي جديد يراكم على مكتسبات دولة ما بعد الاستقلال ويطوي أخطاء نظام الاستبداد ويكتسب مقومات السقف الوطني المعقول لمطالب الثورة التونسية.
ما تعيشه تونس اليوم يضع المعارضة التونسية أمام مسؤوليات تاريخية، فقد تضاعفت واجباتها وأصبح محمولًا عليها طي الصفحة واستئناف المسار التأسيسي أو بالأحرى تشكيل مسار تأسيسي حقيقي بديل
جاءت لحظة الانقلاب لتعيد التذكير بتشوهات المشهد السياسي والعاهة التي خلقت من رحم المسار التأسيسي، إذ أنه يمكن الجزم أن الانقلاب تعبيرة حقيقية عن زيغ النخبة السياسية عن هذا المسار مقابل حالة جشع سياسي غير أخلاقية. والإنصاف يدعونا إلى عدم التعميم دون أن نلغي مسؤولية الجميع في تحمل أعباء الوضع القائم بدرجات متفاوتة. وقد لا يسعف التاريخ النخبة السياسية في البلاد لتبرئة نفسها أو على الأقل تقدير حجم مسؤوليتها التاريخية فيما حصل وما ترتب عنه من تعثر قائم في العملية السياسية وفي المسار التأسيسي ككل.
ما تعيشه تونس اليوم من حالة انقلاب حقيقية يتزعمها الرئيس التونسي قيس سعيّد وهو في أعلى مراكز المسؤولية في البلاد يضع المعارضة التونسية أمام مسؤوليات تاريخية ستحفظها الأجيال المتعاقبة، فمع الإرث المحمول على عاتقها وفشلها في تأمين التجربة الديمقراطية يضاعف من واجباتها لطي صفحة الانقلاب واستئناف المسار التأسيسي أو بالأحرى تشكيل مسار تأسيسي حقيقي بديل قادر على تلبية استحقاقات الأجيال القادمة ورهاناتها.
وتمثل حالة التشتت البينة بين فرقاء المعارضة التونسية عامل قوة للانقلاب في تثبيت مساره ودعم أسلوبه في ترذيل النخبة السياسية وأحزابها وكل المؤسسات الديمقراطية الناشئة، وفي تبرير انقلابه بمنطق هدم المشهد السياسي السابق الذي فقد الكثير من مقبوليته لدى عموم التونسيين. وحالة التشتت هذه مثلت بدورها عامل ضعف لكل خيارات مقاومة الانقلاب التي يمكن الإقرار أنها -على ما حققته طيلة الأشهر المنقضية- لم تنجح في كشف عورة الانقلاب ومراميه، ولم تكسب الدعم الشعبي المطلوب لإسناد خطوات إسقاطه. حتى على المستوى الدولي، وربما للظروف الدولية القائمة من خلال الحرب الروسية الأوكرانية، فقد انحصر الرفض الرسمي المعلن لخطوات 25 جويلية وما ترتب عنها على اعتبار أن المعارضة القائمة لم تنجح في تجميع موقف موحد ضد الانقلاب يعبر عن حالة تنسيق وتضامن يفرض على القوى الدولية رفع سقفها الإجرائي والعملي ضد هذا المسار.
حالة التشتت بين فرقاء المعارضة التونسية مثلت عامل ضعف لكل خيارات المقاومة التي يمكن الإقرار أنها لم تنجح في كشف عورة الانقلاب ومراميه ولم تكسب الدعم الشعبي المطلوب لإسناد خطوات إسقاطه
من وجهة نظري، الوضع الحالي قادر على استيعاب كل مقومات المراجعات السياسية بمختلف التيارات الحزبية، وسقف المراجعات هذه لا تعنيه كليات الاختلافات الهووية والمرجعيات الفكرية، ولا تهمه التصورات النخبوية للعقد الاجتماعي، فالحاجة الماسة اليوم إلى مراجعات دقيقة تيسر حالة الالتقاء السياسي وتوحد الخيار في مقاومة الانقلاب بناء على اتفاقات مبدئية في عملية بناء مرحلة ما بعد الانقلاب. فإذا ما استذكرنا مسار العشرية المنقضية، ننتبه جيدًا إلى أن حالة التشابك بين مختلف الفاعلين السياسيين، والذين يمثلون اليوم الجزء الأكبر من المعارضة النشطة ضد الانقلاب، لم تقوَ على الخروج من مربعات الاختلافات الكلية في الهويات والمرجعيات، والتي لم تعن المواطن التونسي في شيء، بل إنها لم تكن ركيزة أساسية في بنيان المسار الديمقراطي، على اعتبار أن المزاج العام التونسي اكتسب أقدارًا كبيرة من الوعي والإدراك الذي أهله للقفز على حدة تلك الخلافات واتهام أصحابها بارتهان الأولويات الاقتصادية والاجتماعية وعاجليتها على حساب الاستحقاقات الحزبية الفئوية. واليوم، يبدو أن تلك اللحظة تتكرر دون إدراك لخطورة تبعات استمرار الانقلاب في مساره والذي يهدد بشكل جدي مستقبل التجربة الديمقراطية.
فرض الانقلاب اليوم أجندته ورؤيته لإدارة مستقبله وارتهان مستقبل البلاد، وقد فرض بالضرورة الأجندة المطلوبة من النخب السياسية المناهضة له، وما على أحزاب المعارضة اليوم إلا التوحد بمختلف تياراتها ومرجعياتها على أرضية مناهضة الانقلاب وترتيب الخطوات العملية لذلك.
إجرائيًا.. ما المطلوب؟
ما أراه مطلوبًا اليوم رفع سقف مقبولية الالتقاء بين فرقاء معارضي مسار 25 جويلية. الأكيد أن المواقف تغيرت وانحصرت، والكثير من الأحزاب الفاعلة والشخصيات الوطنية تقهقرت مواقفها من اللحظة الأولى للانقلاب خاصة مع تراكم الإجراءات التعسفية التي تثبت من يوم لآخر أن هدف هذه الإجراءات منذ الإعلان عن تفعيل الفصل 80 من الدستور هو افتكاك كامل السلط وبدء مسار تهديمي لكل ما تحقق في رصيد التجربة الديمقراطية خلال العشرية المنقضية.
مسار إسقاط الانقلاب يجب أن يطرح بديلًا سياسيًا موحدًا متفقًا عليه وله المقبولية الشعبية وبإمكانه أن يستجمع حالة التأييد المطلوبة
سقف المقبولية يجب أن يتسع بتغاضٍ مسؤول عن المواقف المختلفة وحتى المتناقضة في اللحظات الأولى من الانقلاب. كما أن مسار إسقاط الانقلاب يجب أن يطرح بديلًا سياسيًا موحدًا متفقًا عليه وله المقبولية الشعبية وبإمكانه أن يستجمع حالة التأييد المطلوبة، وهذا البديل السياسي يجب أن يتفق حول آلياته الإجرائية والعملية وتنوع روافده الحقوقية والقانونية. الأكيد أننا لا نطرح بديلًا هيكليًا بقدر ما نطرح موقفًا سياسيًا موحدًا بإمكانه أن يستجمع حالة التأييد حوله.
ولا شك أن هذا الاتفاق المطلوب يقتضي حوارًا داخليًا بأهداف ممركزة تكون من بين أولوياتها تجاوز حالة الاختلاف وتأجيلها الزمني. وفي تقديري، لا أرى بدًّا من الحديث عن البرامج الإصلاحية المطلوبة للبناء الديمقراطي والحياة السياسية في البلاد وكذلك استئناف مسار العدالة الانتقالية بما يخلق حوله حالة اجتماع ومقبولية وطنية تطوي جراحات الماضي وعلى أساسها يمكن أن نتوحد حول المشاريع الوطنية المستعجلة.
وفي تقديري، إن القوى الداعمة للانقلاب خاصة القوى الصلبة واللوبيات المتنفذة في البلاد يجب أن يتوجه لها الخطاب بمسؤولية دعمها البين لإجراءات 25 جويلية مع ما يمكن أن تكون شريكة فيه لإنهاء هذه الإجراءات ومراجعة مواقفها من مسار العشرية المنقضية وإخلالاتها وإمكانيات تدارك المطلوب لفتح صفحة جديدة واستكمال العملية الانتقالية وتتويج مسار التأسيس الديمقراطي.
لا شك أن الاتفاق المطلوب بين فرقاء المعارضة في تونس يقتضي حوارًا داخليًا بأهداف ممركزة تكون من بين أولوياتها تجاوز حالة الاختلاف وتأجيلها الزمني
أما على المستوى الشعبي ومع ما تم ذكره وما يمكن أن يحققه من استفاقة وفهم لحقائق الأمور ومآلاتها الخطرة على مختلف الجوانب الحياتية للتونسي، فلا بد أن يرتقي فهم المواطن لمسؤولياته إلى مستوى تقدير مشاركته في مسار إنهاء الانقلاب. قد لا يكون لمثل هذا الخيار فاعلية واقعية بإمكانها أن تزيد من تعبئة المواطن ضد الانقلاب، غير أنه من المسؤولية السياسية أن يدرك -ولو آجلًا- أنه محمول بجملة من الالتزامات الوطنية تضعه طرفًا رئيسيًا في بناء تصوراته للعقد الاجتماعي ومختلف أدواره فيه، بين حقوقه واجباته. وحس المواطنة جهد يتراكم بالشعور بالمسؤولية والمشاركة في الشأن العام، ومقاومة الانقلاب فعل قادر على تطعيم هذا الشعور وتنميته.
مسؤوليات الفرقاء السياسيين في مناهضة إجراءات 25 جويلية والخطوات الانقلابية لقيس سعيّد يجب أن تنبع من مسؤولياتها الأخلاقية طيلة العشرية المنقضية وواجباتها في تدارك حالة الإخفاق في إدارة الشأن العام، ومن مسؤولياتها التاريخية في تأمين مستقبل أفضل للأجيال القادمة يقبل بالديمقراطية كأرضية للتحاكم ويعيد بناء تصورات أكثر عدلًا في ممارسة السلطة وتوزيع الثروة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"