09-يناير-2021

وُصفت جهود الدولة في ملف استرجاع الأموال المنهوبة بـ"الفشل الذريع" (صورة أرشيفية/ ياسين القايدي/الأناضول)

 

منذ مارس/ آذار 2015، تاريخ انتهاء عهدة اللجنة الوطنية لاسترجاع الأموال المنهوبة التي ورّثت ملفاتها وقضاياها إلى مؤسسة المكلف العام بنزاعات الدولة، لم يشهد الملف تطوّرًا يذكر، حتى كاد يدخل طي النسيان قبل أن يقرّر رئيس الجمهورية إنشاء لجنة جديدة لاسترجاع الأموال المنهوبة. تزامن ذلك مع تداول أنباء عن رفع التجميد عن بعض الحسابات المجمّدة في سويسرا في شهر جانفي/ يناير بعد انقضاء آجالها.  

وُصفت جهود الدولة في هذا الملف بـ"الفشل الذريع" رغم أن مناخ الثورة وتجربة العدالة الانتقالية كانت مواتية لحشد الدعم الدولي للمساعدة في هذا الملف من جهة ولاقتناص فرصة المصالحة للإعادة الطّوعية للمال العام المنهوب إلى تونس مقابل العفو القضائي لناهبيه.  

حصيلة السعي وراء الأموال المهربة

رغم تعاقب الحكومات وتعدد التصريحات حول حجم أموال تونس في الخارج إلا أن الرقم الرسمي يبقى مجهولًا، حتى أن البعض يشبّه أموالنا المنهوبة بالخارج بجبل الجليد الذي لا يظهر منه إلا جزء ضئيل ويتطلب إثباته والكشف عنه إمكانيات خاصة.

وُصفت جهود الدولة في ملف استرجاع الأموال المنهوبة بـ"الفشل الذريع" رغم أن مناخ الثورة وتجربة العدالة الانتقالية كانت مواتية لحشد الدعم الدولي للمساعدة في هذا الملف

منذ 2011 تمكّنت الدولة التونسية من استرجاع طائرتين ويختين و 28818 مليون دينار صودرت من حساب ليلى بن علي في لبنان في 20 جوان/ حزيران 2013. من جملة عقارات وحسابات مالية موجودة في سويسرا وفرنسا وكندا وبلجيكيا والإمارات العربية المتحدة وألمانيا ولبنان واللكسمبرغ وليبيا والكونغو.

اقرأ/ي أيضًا: صفحة من تاريخ فساد تحالف السلطة والثروة في تونس..

ولم تتوفر للجنة استرداد الأموال المنهوبة معلومات عن "أرصدة الحسابات المحددة أو قيمة العقارات إذ هي معلومات في حوزة القضاء ومشمولة بسرية التحقيق".

حسب وثيقة خاصّة تحصل عليها "الترا تونس" تمكّنت مؤسسة المكلف العام بنزاعات الدولة خلال الثلاثية الأخيرة من سنة 2019 من دفع الاتحاد الأوروبي إلى التمديد في قرار تجميد ممتلكات وأصول عائلة بن علي وأصهاره في 27 جانفي/ يناير 2020 إلى غاية 31 جانفي / يناير 2021 في إطار قراره المتعلق بـ"اتخاذ إجراءات ردعية ضدّ بعد الأشخاص في علاقة بالوضع في البلاد التونسية"، كان ذلك إبان الثورة التونسية.

وفي سويسرا، التي تبلغ فيها قيمة الأموال التونسية المجمّدة 60 مليون فرنك سويسري بناء على قرار المجلس الفدرالي السويسري بتجميد أموال 48 شخصًا هم الرئيس السابق وعائلته وأصهاره، يتم تمديدها مرتين بـ3 سنوات، إلا أن العدد المعني بالتجميد تقلّص إلى عشرة بدعوى "ثبوت عدم امتلاك البقية لأموال بسويسرا"، حسب ما جاء بالوثيقة إلا أنه لم يوضّح مصدر هذه الإثباتات. ليصدر قرار تمديد بسنة في مناسبتين، أي أن قرار تجميد الأموال التونسية المنهوبة في هذا البلد يرفع الشهر القادم.

وفي كندا، تتعلق قضايا التجميد بـ 123 شخصًا سنة 2011 ليقع تمديد التجميد في مارس/آذار 2016 لـ 8 أشخاص فقط منهم لغاية مارس/آذار 2021.

منذ 2011 تمكّنت الدولة التونسية من استرجاع طائرتين ويختين و28818 مليون دينار صودرت من حساب ليلى بن علي في لبنان، من جملة حسابات مالية موجودة في سويسرا وفرنسا وكندا وبلجيكيا وغيرها

تتحدّث الوثيقة كذلك عن القيام بإجراءات قضائية في هذا الملف، شملت طلباتُ التعاونِ القضاءَ الدوليَ تقدمت بها الدولة التونسية إلى عدة دول أوروبية منها سويسرا وألمانيا وكندا لمطالبتها بمعلومات مالية حول الجرائم المنسوبة إلى عالة بن علي وأشخاص مرتبطين بهم غنمت بموجبها الدولة التونسية العديد من الوثائق والمعلومات، على عكس الإنابات القضائية الموجهة إلى الدول العربية والتي لم تنفّذ حسب ما جاء في نص وثيقة لجنة مكافحة الفساد في البرلمان .

بالإضافة إلى التتبع الجزائي ضد الأشخاص المشمولين بقرار التجميد من أجل جرائم تبييض الأموال والتتبع الجزائي ضد شركة "ألستوم" فرع فرنسا من أجل شبهة الرشوة في خصوص مركز كهرباء برادس و ضدّ الشركة في إنجلترا بنفس التهمة أيضًا.

في هذا السياق، خلال المؤتمر الحادي عشر لرؤساء إدارات وهيئات قضايا الدولة في لبنان سنة 2015 جاء في مداخلة لنعيمة الذيبي مستشار مقرر رئيس بالإدارة العامة لنزاعات الدولة بتونس، أن "عدد الإنابات في مجمله بلغ 64 إنابة بين أصلية وتكميلية مدعمة بالأسانيد والوثائق القانونية للعمليات غير المشروعة والتى تم رصدها من قبل السلطات التونسية. تهدف إلى طلب القيام بالأبحاث والتحقيقات الضرورية لتحديد وكشف الأموال والعقارات والمنقولات الراجعة إلى الأشخاص المشمولين بالتتبع وبتجميدها في انتظار استكمال الإجراءات القانونية لإرجاعها للدولة التونسية".  

وزير أملاك الدولة الأسبق: وزراء نداء تونس عطّلوا مبادرة لاستعادة الأموال المنهوبة

صادف توليه وزارة أملاك الدولة فترة انتهاء أعمال اللجنة الوطنية لاسترداد الأموال المنهوبة وإحالة كل وثائقها وأعمالها إلى وزارة أملاك الدولة يوم 26 مارس/آذار 2015.

قال الوزير الأسبق لأملاك الدولة حاتم العشّي في تصريح لـ"الترا تونس" إن إمكانيات المكلف العام بنزاعات الدولة آنذاك حتّمت التمديد في أعمال اللجنة أو إنشاء لجنة جديدة، وأمام رفض محافظ البنك المركزي مواصلة العمل صلب اللجنة، أعدت لجنة وزارية مشروع قانون للعرض على مجلس وزاري في مارس/آذار 2016، يضيف لصلاحيات اللجنة القديمة المساعي الديبلوماسية، إلا أنه فوجئ باعتراض وزراء نداء تونس في الحكومة بتعلّة ردود الفعل الرافضة في البرلمان وعلاقاتهم بالمعنيين في الملف.

اقرأ/ي أيضًا: كيف تفضح شهادة الطرابلسي منظومة الفساد في تونس؟

أكبر الصعوبات التي كانت العقبة في سبيل استرداد الأموال المنهوبة هي الشروط التي تضعها الدول الحاضنة للحسابات المجمدة التي تطلب إثباتات الحصول على هذه الأموال بصفة غير شرعية وتوفر كل مقومات المحاكمة العادلة في حين أن جلّ الأحكام القضائية على بن علي وعائلته وأصهاره كانت غيابية.

حاتم العشي لـ"ألترا تونس": لا يوجد أي رقم يقين لحجم أموال تونس المنهوبة وأكبر الصعوبات التي كانت العقبة في سبيل استرداد الأموال المنهوبة هي الشروط التي تضعها الدول الحاضنة للحسابات المجمدة 

وأكّد العشي أنه لا يوجد أي رقم يقين لحجم أموال تونس المنهوبة وأنها كلها أرقام تقريبية تقدّر بـ 20 مليار. وشدّد على أهميّة التركيز على الجهود الدبلوماسية علّها تمكن من تدارك الفرص الضائعة.  

لكن منظمة "غلوبال فينانشيال انتقريتي" قدّرت قيمة الأموال المنهوبة في تونس بحوالي 60 مليار دولار أمريكي منذ 1960.

تقصير أم تواطؤ؟

كشف النائب ورئيس لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ومراقبة التصرف في المال العام في البرلمان بدر الدين القمودي أن تناول ملف الأموال المنهوبة، كما هو الحال مع الأموال المصادرة، كان فيه التّقصير سمة ميّزت الحكومات المتعاقبة يصل درجة التلاعب والتواطؤ مع بعض الأطراف التي لم يحدّدها، مؤكّدًا أن التقصير في هذا الملف متعمّد.

وأكّد القمودي في تصريح لـ "الترا تونس" أن "محامي الدولة التونسية المكلف العام بنزاعات الدولة تم تهميشه وتقزيم دوره في الفترة الانتقالية فكان أداؤه ضعيفًا جدًّا"، لافتًا إلى الضّغوط التي أدت في بعض الأحيان إلى استقالات في صفوف هذه المؤسسة.

بدر الدين القمودي لـ"ألترا تونس": محامي الدولة التونسية المكلف العام بنزاعات الدولة تم تهميشه وتقزيم دوره في الفترة الانتقالية فكان أداؤه ضعيفًا جدًّا

وأرجع محدّثنا سبب المردود الهزيل لملف الأموال المنهوبة إلى غياب الحرص والمتابعة من كل الأطراف بما في ذلك لجنة الإصلاح الإداري في البرلمان منذ الثورة.

وأضاف أن البرلمان سيعقد جلسة مساءلة للتباحث حول هذا الموضوع.

كما كشف القمودي أنه بإمكان الدولة التونسية التدارك بتفعيل الدبلوماسية لتمديد آجال تجميد أموال تونس بالخارج مع تفعيل القضاء.

الاشتغال على ملف استرداد الأموال المنهوبة هو أن توضع سياسة الدولة على المدى الطويل بالنّظر إلى النفس الطّويل للمسارات القضائية حسب الوزير بحكومة الترويكا خليل الزاوية.

ويضيف في تصريح لـ "الترا تونس" أنه يتطلّب توفرّ الإرادة السياسية والكفاءة القانونية والمالية بالإضافة إلى محامين دوليين مختصّين في مثل هذه القضايا.

وأكّد الوزير السابق أن الفرصة ما تزال سانحة للتدارك واسترجاع الأموال المنهوبة بالاشتغال على الجانب السياسي والتقني والقضائي والمالي، لافتًا إلى أن ما حصل بعد 2014 هو أن القضية فقدت طابعها السياسي وأصبحت عادية.

في المقابل، قال عادل الماجري نائب رئيس جمعية ضحايا التعذيب في تونس ومقرها جنيف، إن التوافقات السياسية التي تمت سنة 2014 أضرّت بملف استرداد الأموال المنهوبة.

واستغرب في تصريحه لـ" الترا تونس" غياب الشفافية في التعاطي مع هذا الملف، موضحًا أن الجمعية ستواصل العمل على التحسيس والقيام بندوات وتحركات للضّغط على السلط السويسرية للتعاطي الإيجابي فيما يخص أموال تونس المجمّدة.

اقرأ/ي أيضًا: "لا رجوع".. رهان استكمال مسار العدالة الانتقالية

من جهته، أفاد الخبير المالي والأستاذ الجامعي رفيق الجراي أن الإشكال يكمن في أن الحكومات المتعاقبة عملت على الملف بنفس الإدارة التي سهّلت التجاوزات وتهريب الأموال إلى الخارج وهو ما يفسّر غياب الإرادة الإدارية في استرداد أموال تونس المنهوبة.

خليل الزاوية لـ"ألترا تونس": الفرصة لا  تزال سانحة للتدارك واسترجاع الأموال المنهوبة بالاشتغال على الجانب السياسي والتقني والقضائي والمالي

وأضاف لـ "الترا تونس" أن الإدارة تعاطت مع الملف بسلبية، لأنه بداية من سنة 2012 نفس المنظومة أعادت تشكّلها ورفضت التعاون، مؤكّدًا أن قضايا الفساد التي أثيرت منذ الثورة كانت الجزء الظاهر من جبل الجليد وأن هناك العديد من الحسابات الإضافية لرموز النظام السابق جامدة لا يتم استغلالها كي لا يتم التفطّن لها.

الدولة التونسية فوّتت، حسب الخبير المالي، آلية التحكيم والمصالحة لاستعادة أموالها خاصة وأنها آلية صلحية تحكيمية وسلطة تقريرية تثبت التجاوز لأنها تعطي إعفاء من التتبع في المقابل، ميزتها أن إثبات الانتهاكات فيه مرونة.

وأوضح أن الحكومة بإرادتها ضربت آلية التحكيم والمصالحة وساهمت في تقزيمها، مشيرًا إلى غياب الجدية في متابعة مصالح الدولة بتقديم 683 طلب تحكيم ومصالحة بملفات فارغة تحمل فقط رقم القضية.

وأفاد بأن مؤسسة المكلّف العام بنزاعات الدولة رفضت اتفاقية الصلح في قضية صخر الماطري التي قال إنها حديثة بالنّظر إلى أن قضايا الفساد التي تتعلق به وببلحسن الطرابلسي تعود في أغلبها إلى 2004 و2005 وهو ما فوّت استعادة 500 مليون دينار على الأقل لكل منهما. بالإضافة إلى سن قانون المصالحة الإدارية الذي متّع المتورّطين في قضايا الفساد بإعفاءات وهو ما شجّعهم على الإفلات من العقاب، وفق محدّثنا.

ويتساءل الجراي كيف أن الحكومة التي تسعى إلى استعادة أموالها في الخارج هي نفسها تقدّم طلبًا إلى الاتحاد الأوروبي بإنهاء تجميد أموال المبروك، بتعلة تشجيع الاستثمار وجلب الاستثمار الفرنسي، وهو ما شكّك في صحته.

وعن اللجنة المحدثة لاسترجاع أموال تونس المنهوبة، قال رفيق الجراي إن نجاحها يتوقف على طبيعتها إن كانت سياسية أو قضائية، وصلاحياتها وتكوين أعضائها ومدى نفاذها للإدارات والأرشيفات، كي لا تكون استنساخًا لما سبق.

رفيق الجراي لـ"ألترا تونس": نجاح لجنة استرجاع أموال تونس المنهوبة يتوقف على طبيعتها إن كانت سياسية أو قضائية، وصلاحياتها وتكوين أعضائها ومدى نفاذها للإدارات والأرشيفات، كي لا تكون استنساخًا لما سبق

وكانت هيئة الحقيقة والكرامة قد أفادت في مذكّرة حول تعاطي المكلف العام بنزاعات الدولة، بأن قيمة جبر ضرر الدولة المادي والمعنوي للتجاوزات المرتكبة في هذا الملف وحده 499,1 مليون دينار باعتماد معايير الهيئة وبناء على المعطيات المتوفرة.

في ملف تحكيم صخر الماطري الذي أودع طلب تحكيم ومصالحة يوم 8 فيفري/فبراير 2016 على سبيل المثال، جاء في المذكّرة أن الهيئة استمعت إليه في جلسة سرية  عبر السكايب بتاريخ 23 مارس/آذار 2016 لتصدر في 2018 تقرير ختم إجراءات التحكيم والمصالحة يسجل فشل التحكيم ويحيل الملف على لجنة البحث والتقصي، و إحالة بعض الملفات التي تتوفر فيها مؤيدات على الدوائر القضائية المتخصصة يوم 28 ديسمبر/كانون الأول 2018.

ويعود ذلك إلى غياب المكلف العام عن جلسة التوقيع وطلب التأخير 27 مرة قبل أن يسحب كل مطالب التحكيم والمصالحة يوم 5 جويلية/يوليو 2018.

وخلال جلسة بالبرلمان يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 أقر رئيس المجلس الأعلى للقضاء يوسف بوزاخر أن تونس لم تقم بمجهود في ضبط الأموال المهربة التي تتطلب بحسب تصريحه مجهودًا استخباريًا مع المجهود القضائي. وقال إن نقطة استفهام كبيرة يثيرها تعامل الحكومة مع ملف الأموال التونسية بسويسرا والتي أثبت فيها القضاء السويسري أن تونس متضررة.

أموال تونس المنهوبة في الخارج بعد 10 سنوات على إسقاط النظام في تونس، ملف حاله كحال بقية الملفات المرتبطة بمرحلة الانتقال الديمقراطي، التزام قانوني ما زال يتحسس الطريق نحو التجسيد على أرض الواقع، في صعود ونزول يراوح مكانه متأثّرًا بالإرادة السياسية لمن يحكم. فهل تنجح محاولات الرئيس قيس سعيّد لإنعاش مساراتها؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن "تعافي" الدّينار ومخاطر القفز فوق "التّراب السّخون" للأملاك المصادرة

عن الثورة التونسيّة والعدالة الانتقاليّة.. طرد بن علي والوقوع في شراك منظومته