تعيش تونس على وقع عدد من الكوارث، خلال هذه الفترة، منها الطبيعية ومنها من صنف آخر، فيضانات تدمر جسورًا لم يمض على إنشائها إلا سنوات قليلة، ورجل لا يجد جثة ابنه المتوفي في المستشفى، وديوانة لا تهتم بتتبع بارونات التهريب ومبيضي الأموال لتطارد طفلًا عمره 19 قبل أن ترديه قتيلًا. تشترك جميع هذه الأحداث في مسألة جامعة، وهو أن سببها الأول والوحيد هو الفساد الذي سبّب الإهمال والخراب، وربمّا قد يؤدي بالبلاد للإفلاس وفق ما يحذر منه خبراء.
تساءل مواطن عبر شاشة إحدى القنوات قائلًا: "ألا يمكن لهذه البلاد أن تنجب رجلًا شريفًا وأمينًا ليحكم، لقد مللنا وتعبنا وأرهقنا الفساد". فعلًا، لقد أرهق الفساد تونس إلى حد وصلت فيه الدولة مقسمة إلى لوبيات ومافيات يسيطر كل منها على قطاع بشرط ألا يتجاوز حصة غيره.
تشترك جميع الكوارث التي تعرفها تونس مؤخرًا في أن سببها الأول والوحيد هو الفساد الذي يسبب الإهمال والخراب وربمّا قد يؤدي بالبلاد للإفلاس وفق ما يحذر منه خبراء
وما يحصل اليوم لا يختلف كثيرًا عما حصل قبل قرن ونصف ما تسبب بقدوم قوات فرنسية من وراء البحار لتفرض نظام حماية على تونس، بعد أن تم وضعها تحت سيطرة الكومسيون المالي لسنوات. أنتج حينها زواج السلطة بالثروة رجل الأعمال الفاسد محمود بن عياد، والوزير الأعظم مصطفى خزندار، وعددًا آخر من الفاسدين الذين ظلوا ينهبون الخزينة العامة لسنوات.
لم يكن يوم 16 جوان/يونيو 1852 يومًا عاديًا بالنسبة لأحمد باي. كان الوقت يقارب منتصف النهار عندما أسرع أحد العاملين في القصر الملكي في تونس القديمة ليخبر الوزير الأكبر مصطفى خزندار بخبر هز الإيالة التونسية وهو فرار محمود بن عياد. لقد هرب قابض مال الإيالة التونسية حاملًا معه الكثير من أموال خزينة الدولة، وكان قد بدأ بتهريبها شيئًا فشيئًا بعد أن أعرب بسرية تامة للحكومة الفرنسية عن نيته الحصول على الجنسية الفرنسية، ولم يكن سفره المزمع للتداوي إلا محاولة للتمويه على هروبه.
اقرأ/ي أيضًا: في تونس.. حرب ضد الفساد أو حرب مصالح بوصلتها انتخابات 2019؟
كان مصطفى خزندار الوزير الأكبر للإيالة التونسية، شابًا يافعًا في ذلك الوقت يبلغ من العمر 35 عامًا قادرًا على استيعاب الأزمات. وقد كانت سنوات طويلة من العمل، والطموحات الكبيرة والعيون الحالمة، كفيلة بأن تجعل هذا الشاب الرجل بثقة الباي ليعينه وزيرًا أكبر في عام 1837، لكن الوزير الأكبر كان في حاجة إلى رجل خبير بالأمور المالية كمحمود بن عياد، بيد أن الأخير خان ثقة أعطيت له، مثلما خان الوزير الأكبر ثقة الباي الذي كان يهتم ببناء القصور الفاخرة للقناصل الأوروبيين.
هرب محمود بن عياد حاملًا معه 60 مليون فرنك من ثروات البلاد، ما يعادل 100 مليون دولار في ذلك الزمن، فيما لم تتجاوز ميزانية الإيالة التونسية حينها 15 مليون فرنك. بدأت ثروة محمود بن عياد تتعاظم عندما ضربت البلاد سنوات جدب في أربعينيات القرن 19 بعد أن كلفه صديقه أحد باي بلزمة توريد الحبوب، كما تحول بمقتضى صفقة عقدها مع الباي من موظف سام يشرف على مطامير الدولة للقمح أو ما يسمى بالرابطة، التي يقع فيها مستشفى الرابطة حالية، إلى مستلزم يتولى قبول الحبوب من الفلاحين على أن يدفع مبلغًا ماليًا للدولة كل عام، وذلك مثل ما يحدث في الصفقات العمومية حاليًا. كانت الصفقة التي عقدها محمود بن عياد مع محمد باي بمثابة مرحلة جديدة من الفساد الكبير، حيث استغل محمود بن عياد لزمة القمح لتكديس ثروة طائلة من خلال الغش في الميزان، إذ يقبل من الفلّاحين العشرين مكيالًا على أنّه عشرة فقط بحيل عجيبة وطرائق مخصوصة يأتيها الكيّال عند قبول القمح يتضاعف بها حجم البضاعة، وأما الدولة فإنّه يدفع لها ستّة مكاييل على أنّها عشرة.
هرب محمود بن عياد حاملًا معه 60 مليون فرنك من ثروات البلاد ما يعادل 100 مليون دولار في ذلك الزمن فيما لم تتجاوز ميزانية الإيالة التونسية حينها 15 مليون فرنك
تعاظمت ثروة محمود بن عياد من خلال اللزم التي حصل عليها من صديقه الحميم محمد باي في مقابل ذلك انهارت مقدرات الدولة حتى أنها اضطرت إلى إمضاء رسوم مالية، هي مرادف للصكوك المالية في الوقت الحالي، على أن يتم خلاصها لاحقًا من الخزينة. لكن الرسوم تكدست على عاتق الدولة بعد نفاذ السيولة حتى أن لزمة كسوة العسكر قد كلفت الدولة ما يعادل 5 ملاين ريال وهو ما لم تقدر الدولة على دفعه.
بدأ تململ الفلاحين من فساد محمود بن عياد الذي تظاهر للباي بالمرض، وطلب رخصة للسفر من أجل المداواة فجمع الرجل صناديقه ورسومه وأمواله وكل حججه كما لم ينس القرارات التي تثبت تكليفه بالمهام التي عهدت إليه، ثم سافر إلى فرنسا وعهد إلى ابنه وبعض مساعديه بمهمة استكمال استخلاص ديونه من الدولة. سافر محمود بن عياد حاملًا معه عرق الفلاحين وتعب التجار وترك الباي وحيدًا في أزمة مالية خانقة.
اقرأ/ي أيضًا: مكافحة الفساد أو الحرب الكاذبة في تونس
أحرج هروب بن عياد صديقه مصطفى خزندار الذي عين مكانه نسيم شمامة المنحدر من عائلة يهودية متواضعة، وتمكن نسيم شمامة من تركيز مكانته في البلاط الملكي من خلال تعزيز علاقته مع وزير الباي الأكبر مصطفى خزندار الذي لم يكن ليرفض عمولات الصفقات التي يعقدها نسيم وهكذا بدأت تتشكل خيوط الفساد وتنتشر في البلاط الملكي. تمكن نسيم من الحصول على عديد اللزمات مثل القمح والزيت والمسكرات، كما سيطر على عدة قطاعات أخرى مثل الملح والفحم والصابون الطري، إضافة إلى ذلك تمكن من الاستحواذ على لزمة مكوس التجارة الخارجية (تحصيل الأداءات على البضائع العابرة للموانئ بعقد يمتد لـ19 سنة في مواني حلق الوادي والبحيرة وصفاقس و15 سنة لميناء سوسة). وهو ما مكنه من تجميع ثروة هائلة، وتمكن من إقراض الدولة ما يقارب 19 مليون ريال لمجابهة عجزها المالي.
اندلعت، في هذا الوقت، انتفاضة علي بن غذاهم التي كانت انتفاضة في وجه الفساد، وكان يطالب الثوار برأس خزندار ونسيم شمامة. لكن الرجل القوي الذي تمكن في سنوات قليلة من اقتحام البلاط الملكي والاستحواذ على نصف اقتصاد الدولة التونسية في ذلك الوقت لم يكن ليستسلم بسهولة، فطلب من الباي الإذن في السفر للعلاج، ورغم ما تحوم حوله من شكوك واتهام الكثيرين له في ذلك الوقت بالفساد إلا أن محمد الصادق باي أذن له بالسفر.
يعيد التاريخ نفسه مرة أخرى فيحمل نسيم شمامة كل أوراقه وثرواته وصكوكه وإثباتات الديون وأوامر تعيينه ودفاتر حساباته، كما جمع ما يمكن جمعه من الذهب والمقتنيات الثمينة وسافر بدون عودة. سافر نسيم إلى فرنسا سنة 1864، وتقول المصادر إنه اشترى نزل "نهج شايو" وإقامة في الريف الفرنسي "بومون سير واز" وكذلك مبنى في "سافر"، وقدرت ثروته التي نهبها من الدولة بـ 27 مليون دولار في ذلك الوقت وهو مبلغ ضخم جدًا.
أدى الفساد في الدولة التونسية في القرن 19 للاقتراض من الدول الأجنبية ما زاد في تأزم الوضع الاقتصادي وأدى لاحقًا لتشكيل الكومسيون المالي ثم إعلان الحماية الفرنسية على تونس
بقي منصب رئيس القباض فارغًا بعد الغياب الطويل لنسيم شمامة، فأسند الباي المهمة إلى ابن أخيه شلومو شمامة. ومرة أخرى يعيد السيناريو نفسه، فبعد بن عياد وشمامة، تمكن شلومو خلال سنتين فقط من جمع ثروة هائلة عبر استغلال منصبه الذي مكنه من السيطرة على عدة قطاعات كانت مركزية في اقتصاد الإيالة. وفرّ شلومة سنة 1866 نحو جزيرة "كورفو" حاملًا معه 10 ملايين ريال من أموال الدولة في ذلك الوقت.
على خلفية كل هذه عمليات النهب، اضطرت الدولة التونسية وتحت ضغط الثورة والفساد إلى الاقتراض، قرض أول ثم ثان ثم ثالث لكن القروض لم تكن لتنقذ الوضع بحكم ضياعها مرة أخرى في جيوب الفاسدين في القصر الملكي. تبنى الباي في أفريل/نيسان 1868 وبأمر من ممثلي فرنسا، وبضغط من الدائنين وبموافقة من القوى العظمى كبريطانيا وإيطاليا، مشروع قانون ينشئ الكومسيون المالي الذي كان أول مظهر من مظاهر السيطرة الصريحة على البلاد التونسية برئاسة خير الدين التونسي. قام هذا الإصلاحي بتحقيق مع الخبير المالي "قبيه" ليكتشف حجم الفساد الكبير الذي كان يمارسه مصطفى خزندار وابنه محمد خزندار، فشكل الباي مجلسًا لمحاسباتهما فاستنجد مصطفى خزندار بسفير فرنسا، لكن الأخير رفض نجدته ما اضطره إلى طلب الصلح من الحكومة بمرارة التي صالحته مقابل دفع 25 مليون فرنكا كما أصدر الباي أمرًا بعزله.
كانت فرنسا، في هذا الوقت، تسعى للحصول على موافقة الدول العظمى مثل ألمانيا وبريطانيا لاحتلال تونس بعدما تم تدميرها ماليًا، وكان اللورد ساليسبوري ممثل بريطانيا، صرّح لنظيره الفرنسي قائلًا: "خذوا تونس إذا أردتم فإنّ إنجلترا لن تعارض ذلك، وستحترم قرارتكم وإضافة إلى ذلك فإنّه لا يمكن أن تتركوا قرطاج في أيدي البرابرة". فشلت المحاولات المتكررة من قنصل فرنسا بتونس في إقناع الباي بالقبول بنظام الحماية لما فيه من "إيجابيات لتونس"، وهو ما جعل الفرنسيون يتخذون قرارًا أحاديًا.
لا يختلف الوضع بين تونس الأمس وتونس اليوم، ما دام ورم الفساد في السلطة ينخر جسد البلاد منذ قرون
استفاق محمد الصادق باي من نومة يوم 12 ماي/مايو 1881 ليرى وجهًا آخر لساحة باردو، آلاف الجنود الفرنسيين بمدرعاتهم وأسلحتهم يملؤون شوارع العاصمة. لقد تجسدت بوضوج نتائج 30 سنة من الفساد المالي، وذلك حينما أجبرت فرنسا وتحديدًا في الساعة الثامنة ليلًا من ذلك اليوم على توقيع الباي على معاهدة الحماية لينتهي استقلال تونس.
لا يختلف الوضع بين تونس الأمس وتونس اليوم، ما دام ورم الفساد في السلطة ينخر جسد البلاد منذ قرون. قليلون هم رجال الأعمال الذي انكبوا على أعمالهم وثابروا لتحقيق إنجازات وتكوين شركات تخلق مواطن الشغل وتعطي قيمة مضافة للاقتصاد التونسي، لكن كثيرون هم رجال الأعمال الذين ولدوا نتيجة زواج السلطة بالثروة.
اقرأ/ي أيضًا:
كيف تفضح شهادة الطرابلسي منظومة الفساد في تونس؟
الفساد في الصفقات العمومية.. سرطان ينخر الإدارة في انتظار استئصاله