26-سبتمبر-2023
تقسيم الأقاليم في تونس

النزعة للتحكم المفرط في السياسات العامة يمكن أن تحيلنا على أن أي ترتيب للمجال الإداري يمكن أن يؤدي إلى أثر تنموي محدود لأي تقسيم إداري يعتمد منطق الأقاليم  

مقال رأي 

 

كانت لحظة الثورة سنة 2011 لحظة إطلاق ورشات كبرى من الأسئلة، وليس بالضرورة الأجوبة. في إطار طرح الأسئلة الكبرى مثل القمع والتحكم والحرية والفساد والحوكمة تم طرح سؤال التفاوت بين الجهات.كان ذلك في جوهر مسألة الثورة (وتوزيع الثروة أيضًا)، حيث أن كل الانتفاضات الحديثة منذ ثورة علي بن غذاهم إلى ثورة 2011 تنطلق، ليس من باب الصدفة، في "الدواخل" وتخط خطًا مسترسلاً مثل قطع الدومينو نحو حواضر السواحل الكبرى نهاية إلى الحاضرة/العاصمة تونس.

لم يكن من المفاجئ أن تجد عناوين "التمييز الإيجابي" و"اللامركزية" طريقها إلى دستور 2014. وقيس سعيّد بما هو حامل (افتراضيًا على الأقل) لشعار الثورة فهو يجادل ضمن هذه العناوين، ويطرح ما يعتبره أجوبة أكثر إقناعًا. ضمن هذا السياق، تم طرح موضوع الأقاليم في دستور 2014 وأيضًا في دستور 2022 والأمر الرئاسي الجديد. فهل أن إجابة الأقاليم ضرورية في جل مشاكل التنمية أم يمكن أن تكون أيضًا شعاراً يخفي مرحلة جديدة من  تحكم الدولة المركزية من أجل بسط نفوذ الأقلية؟

هل أن إجابة الأقاليم ضرورية في جل مشاكل التنمية أم يمكن أن تكون أيضًا شعاراً يخفي مرحلة جديدة من  تحكم الدولة المركزية من أجل بسط نفوذ الأقلية؟

 

 

ليس هناك قطيعة بين مسألة الترتيب الإداري للمجال الترابي ومسائل الديمقراطية والتنمية. تاريخيًا كان التصرف في المجال مقومًا أساسيًا من مقومات وجود الدولة ومن ثمة توجهاتها. كانت إدارة "البايليك" للمجال الترابي بين حواضر نخبة التحكم والغنيمة (ومن ثمة موانئ التصدير/الاستيراد وأيضًا القرصنة) يستند إلى مجال حلف قبلي يرافق "المحلة" نحو مجال قبلي آخر داخلي مهيمن عليه.

كان تقسيم القيادات (وظيفة القايد) والمشيخات (وظيفة الشيخ) منحة وتفويضًا من البايليك لاستخلاص الضرائب وفرض سياسة مركزية قصووية تعتمد منطق استجلاب الثروة حتى أن تمخض عن ذلك تفقير شديد لمصادر الإنتاج الفلاحي والرعوي.

ليس هناك قطيعة بين مسألة الترتيب الإداري للمجال الترابي ومسائل الديمقراطية والتنمية وتاريخيًا في تونس كان التصرف في المجال مقومًا أساسيًا من مقومات وجود الدولة ومن ثمة توجهاتها

عندما أتى الاحتلال الفرنسي لم يقم بإعادة ترتيب المجال وتقسيمه إداريًا إلا لكي يعوض المركز من مخزن البايليك إلى المتروبول الفرنسي، وهكذا بقيت الحواضر بما أنها موانئ لتصدير الغنيمة الاستعمارية ولتتوسع من الفلاحي إلى الاستخراجي (الفسفاط خاصة).

وأتى تقسيم "المناطق الاقتصادية" سنة 1922 (الذي أشار إليه الرئيس قيس سعيّد في أحد خطبه الأسبوع الماضي) ضمن هذا التصور العام. التقسيم يرتكز إلى مناطق يتم النظر إليها كمجالات فلاحية صرفة (خاصة في الشمال) وأخرى استخراجية مرتبطة بالموانئ الساحلية (تمتد أفقيًا من الداخل إلى الساحل)، ومنطقة الجنوب متروكة تمامًا بوصفها منطقة عسكرية. 

تقسيم "المناطق الاقتصادية" سنة 1922 في تونس زمن الاحتلال الفرنسي، يرتكز إلى مناطق يتم النظر إليها كمجالات فلاحية صرفة (خاصة في الشمال) وأخرى استخراجية مرتبطة بالموانئ الساحلية (تمتد أفقيًا من الداخل إلى الساحل)، ومنطقة الجنوب متروكة تمامًا بوصفها منطقة عسكرية

عندما أتى الاستقلال، كان تقسيم الولايات يستهدف بداية تفكيك المجال القبلي وإخضاعه لمنطق "الدولة الوطنية" المركزية. فقد كانت القضية المركزية لبورقيبة بين 1955 و1956 بسط السيطرة لضمان الولاء للحكم الجديد خاصة على خلفية الصراع الذي شق حزب الدستور إبان الاستقلال وانقسمت على أساسه البلاد بين "بوقيبي" و"يوسفي".

ثم أتت لحظة التنمية الفوقية للحزب المسيطر في الستينيات، حيث تم دمج كل الوسائط والأطر (اجتماعية ومؤسساتية) وصهرها ضمن بوتقة الدولة-الحزب-الزعيم لتحقيق قفزة اجتماعية واقتصادية. وهكذا تم إنشاء "الأقطاب الاقتصادية" وتوزيعها على المجال (صفاقس تحويل الفسفاط، قابس القطب الكيميائي، القصرين الحلفاء، بنزرت الفولاذ، باجة تحويل السكر.. الخ).

إثر الاستقلال عن فرنسا، كان تقسيم الولايات يستهدف بداية تفكيك المجال القبلي وإخضاعه لمنطق "الدولة الوطنية" المركزية، ثم أتت لحظة التنمية الفوقية وتم دمج كل الوسائط والأطر وصهرها ضمن بوتقة الدولة-الحزب-الزعيم 

وكانت مهمة الولاة التنفيذ الحرفي للخطط الخمسية. غير أن ذلك لم يحقق نتائجه خاصة عندما تم تهميش القطاع الفلاحي في السبعينيات وإعلاء مكانة الصناعة المعنية بالتصدير (خاصة النسيج، قوانين 1972 و1974) والسياحة، والتي تم تركيزها جميعًا في حواضر السواحل حيث تركزت البنية اللوجيستيكية: المطارات والموانئ. وهكذا تم تعميق الهوة التاريخية بين الجهات. 

لحظة الثورة، خاصة مع انتفاضة متجددة تأتي من الدواخل فرضت بقوة غير مسبوقة مسألة التمييز السلبي بين الجهات بذات القدر وبشكل مترابط مع المسألتين الديمقراطية والتنموية. وهكذا كان تصور الأقاليم الذي اشتغلنا عليه في المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية (2012-2014) جزءًا أساسيًا من التصور الجديد للدولة الديمقراطية المنشودة.

بالمناسبة كان هناك زمن زين العابدين بن علي اشتغال على الموضوع نظريًا في وزارة التنمية الجهوية لكن لم يحظ الموضوع باهتمام نوعي، وهكذا استفدنا من كفاءات الإدارة التونسية وبعيدًا عن الأدلجة في الاشتغال على هذه النقطة. الهدف كان مجالات ترابية متخصصة اقتصاديًا تسمح بانسجام وعدالة أكثر في التنمية.

لم يكن الأمر بدعة، فهو نقاش موجود في تجارب تنموية أخرى، وتم الانطلاق من مسلمات أساسية كشروط لتشكل هذه المجالات/الأقاليم وكانت أساسًا ستة: التموقع المحلي والإقليمي، الوظيفية، النجاعة، النفاذ، انسيابية العلاقة داخل كل إقليم، والتوازن (الجغرافي والسكاني).

عند العمل على فكرة الأقاليم إبان ثورة 2011، كان الإشكال الرئيسي هو تشبيك المجالات الداخلية الأفقر مع المجالات الساحلية الأقل فقرًا ومركز الإقليم ضمن هذه الفلسفة يجب أن يكون إداريًا في الجهات الأكثر فقرًا بهدف التطوير الحضري والاقتصادي واللوجيستي

الإشكال الرئيسي هو تشبيك المجالات الداخلية الأفقر (ذات الطبيعة الفلاحية/الرعوية أساسًا ونسبة تحضر ضعيفة وشبكة لوجيستية محدودة) مع المجالات الساحلية الأقل فقرًا أو أكثر حظوة (ذات الطبيعة الصناعية/الخدماتية ونسبة تحضر مرتفعة وشبكة لوجيستية أكثر تطورًا). ومركز الإقليم ضمن هذه الفلسفة يجب أن يكون إداريًا في الجهات الأكثر فقرًا على أساس مؤشر التنمية الجهوية (IDR)، بهدف التطوير الحضري والاقتصادي واللوجيستي للمجال الأقل تطوراً. 

بقيت تصورات مشروع تقسيم الأقاليم في 2014 قيد الأدراج ولم تتحقق خاصة أمام رفض ضمني للدولة العميقة لمبدأ اللامركزية بما أدى إلى تأجيل متكرر للانتخابات البلدية وتحقيق مبدأ التدبير الحر للجماعات المحلية وتأخر واضح لتنزيل مبدأ الأقاليم

وهكذا انتهى العمل في الدراسة المنشورة سنة 2014 إلى اجتهاد تصور يتشكل في خمسة أقاليم: 

  • -"إقليم مجردة" (بنزرت وجندوبة وباجة والكاف وسليانة) وتخصصها فلاحة المساحات الكبرى مع صناعات غذائية (المركز الإداري جندوبة)، 
  • "إقليم قرطاج" (ولايات تونس الكبرى مع زغوان) وتخصصها لوجيستيكي مع صناعات دقيقة وبحث علمي (المركز الإداري زغوان)، 
  • "إقليم الوطن القبلي/الساحل" (ولايات نابل وسوسة والمنستير والمهدية والقيروان) والتخصص فلاحي وقطاع السياحة والصناعات الكهربائية والميكانيكية (المركز الإداري القيروان)، 
  • "إقليم الوسط الكبير" (ولايات صفاقس وسيدي بوزيد والقصرين وقفصة) وتخصصها فلاحي واستخراجي وتحويل للمواد المنجمية وصناعات غذائية (المركز الإداري سيدي بوزيد)،
  • "إقليم الواحات والقصور" (ولايات توزر وقبلي ومدنين وقابس) وتخصصها السياحة المتنوعة (الصحراوية الإيكولوجية) وصناعة استخراجية وصناعة الطاقة المتجددة والاستثمار في تقاليد مواد البناء المحلية (مركزها الإداري مدنين). 

تصور تقسيم الأقاليم الجديد غير واضح في أسباب التقسيم الإقليمي من زاوية اقتصادية وتنموية وهو أقرب بشكل واضح لتقسيم "المناطق الاقتصادية" الذي وضعته السلطات الفرنسية سنة 1922

طبعًا هذا التصور مرتبط بالبناء الديمقراطي المرتكز خاصة على جماعات محلية ممثلة ديمقراطيًا وتتمتع بمجال تدبير واسع، وأيضًا بإعادة توظيف وتوزيع الكفاءات الإدارية على مستوى المجال الترابي بما لا يجعلها متركزة فقط في الحواضر الكبرى الساحلية. هذا التصور ينتهي أيضًا إلى ضرورة انتخاب مجالس للأقاليم تتعاون مع المؤسسات الإدارية المركزية والجهوية لوضع تصورات وميزانيات التنمية الإقليمية. 

يبقى أن تصوره، حسب ما ورد في الأمر الرئاسي، غير واضح في أسباب التقسيم الإقليمي من زاوية اقتصادية وتنموية. ولو أنه لا يختلف كثيرًا عن التصور المعروض أعلاه في دراسة المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية (باستثناء وضع بعض الولايات في أقاليم مختلفة، مثلاً نابل مع إقليم تونس، وسليانة مع الساحل، وسيدي بوزيد أيضًا مع الساحل، وتوزر في "إقليم الوسط") فهو أقرب بشكل واضح لتقسيم "المناطق الاقتصادية" الذي وضعته السلطات الفرنسية سنة 1922، والذي أشار إليه الرئيس بشكل واضح أثناء إشرافه على مجلس وزاري للنظر في مشروع الأمر الرئاسي الخاص بالأقاليم.

النزعة للتحكم المفرط في السياسات العامة التنفيذية يمكن أن تحيلنا على أن أي ترتيب للمجال الإداري يمكن أن يؤدي إلى أولوية التحكم وبالتالي تقوية الدولة المركزية، بما سينتهي إلى أثر تنموي محدود لأي تقسيم إداري يعتمد منطق الأقاليم

يضاف إلى ذلك أن مجلس الأقاليم والجهات يتمتع بصلاحات تشريعية لكن مقابل سلطة تنفيذية مركزية مشددة تحت إشراف نظام رئاسوي. يجب أن ننتظر تعليلًا لتصور الرئيس قيس سعيّد وجدواه التنموية، خاصة أن نزعته للتحكم المفرط في السياسات العامة التنفيذية يمكن أن تحيلنا على أن أي ترتيب للمجال الإداري يمكن أن يؤدي إلى أولوية التحكم وبالتالي تقوية الدولة المركزية، بما سينتهي إلى أثر تنموي محدود لأي تقسيم إداري يعتمد منطق الأقاليم. 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"