28-يناير-2023

دستور 2014 هو الأرضية الشرعية الضرورية لأي حوار وطني بين القوى الحية بالبلاد (صورة من يوم المصادقة على دستور 2014/أ.ف.ب)

مقال رأي 

 

تحوّلت الذكرى السنوية للمصادقة على دستور 27 جانفي/يناير 2014 من مناسبة احتفالية للميثاق التعاقدي بين التونسيين طيلة السنوات الماضية إلى مناسبة تمسك بالمرجعية التأسيسية للمطلبية الديمقراطية بعد انقلاب 25 جويلية/يوليو 2022.

لم تكن التدابير الاستثنائية المعلنة يومها تعسفًا في تأويل الفصل 80 فقط، بل كانت، في الأساس، خروجًا عن الدستور برمته، وقطًعا للأرضية التحكيمية بين التونسيين وقواهم الحية. لم يكن المسار الذي فرضه رئيس الجمهورية تباعًا وصولًا لفرضه دستورًا منقطع النسب إلا من صاحبه الذي كتبه بنفسه لنفسه، إلا تأكيدًا على الخروج من دستور المجموعة إلى دستور الفرد.

لم يكن المسار الذي فرضه رئيس الجمهورية تباعًا وصولًا لفرضه دستورًا منقطع النسب إلا من صاحبه الذي كتبه بنفسه لنفسه، إلا تأكيدًا على الخروج من دستور المجموعة إلى دستور الفرد

دستور 2014 أو دستور الثورة ليس أفضل دستور في العالم، ولا يوجد في العالم دستور أفضل من آخر، لأن كل تعاقد جماعي هو وليد بيئته السياسية والاجتماعية والثقافية، ولكن الدستور كان معبرًا عن الإرادة الجماعية. ومن الغريب أن رئيس الدولة قيس سعيّد وهو أستاذ للقانون الدستوري للتذكير، يرمي دستور 2014 بأنه وليد تنازلات متبادلة وأنه نتاج صفقات، والحال أن الدستور وبوصفه عقد بالأساس يفترض بطبيعته تبادلات وتنازلات من كل طرف للوصول لأرضية يتفق عليها الجميع أو أغلبيتهم العظمى، دون غالب أو مغلوب.

حظي دستور 2014، للتذكير، بموافقة 200 من أصل 216 نائبًا، ممثلين للطيف السياسي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، رغم فسفسائية تركيبة المجلس الوطني التأسيسي باعتماد نظام التمثيل النسبي مع أكبر البقايا، وهو نظام ضامن لإقرار الدستور بعيدًا عن منطق المغالبة. إن صورة العناق التي جمعت ليلة 27 جانفي/يناير 2014 النائب الإسلامي الحبيب اللوز والنائب اليساري المنجي الرحوي، في عمقها هي صورة تونس ليلتها: تونس القادرة على إنتاج ميثاق تعاقدي جامع.

دستور 2014 أو دستور الثورة ليس أفضل دستور في العالم، ولا يوجد في العالم دستور أفضل من آخر، لأن كل تعاقد جماعي هو وليد بيئته السياسية والاجتماعية والثقافية، ولكن الدستور كان معبرًا عن الإرادة الجماعية

إن الأحكام الدستورية المتعلقة بالنظام السياسي هي نتيجة التوافقات الحزبية، وطبيعة النظام المعتمد، المختلط أو نصف البرلماني، مثلت موضع اختلاف ومطالبات بالتغيير، وهذا طبيعي، وإن كان عطب المؤسسة البرلمانية وغياب النجاعة المؤسساتية يتحمله حقيقة النظام الانتخابي بالأساس.

 

 

تصاعد الدعوات لاعتماد النظام الرئاسي تباعًا مقبولة بل هي من طبيعة الاختلاف في الفضاء الديمقراطي، ولكن لا يمكن أن ترمي الدستور بأنه سبب البلاء في البلد، كما صوّر قيس سعيّد وهو للتذكير كان أحد الخبراء المساهمين في صياغته. لم تكن غاية سعيّد لرمي الدستور بشتى أنواع الاتهامات والافتراءات إلا بغاية تعبيد الطريق للخروج عن الشرعية الدستورية وينتج لوحده دستوره الشخصي من بنات أفكاره فقط.

لا يمكن أن ترمي دستور 2014 بأنه سبب البلاء في البلد، كما صوّر قيس سعيّد، وهو للتذكير كان أحد الخبراء المساهمين في صياغته

لم تكن الأحكام المنظمة للمبادئ العامة والحقوق والحريات في دستور 2014 إلا أحكامًا تعاقدية بما تحمله الكلمة من معنى: وما الدستور الديمقراطي إن لم يكن دستورًا عقديًا كما كان يدرّس سعيّد طلبته، والحسرة أنني كنت شاهدًا على دروسه؟

لم تنتج المنطقة العربية دستورًا ديمقراطيًا إعدادًا كدستور 2014 وليد ثلاث سنوات من النقاشات والحوارات والتوافقات وأيضًا الأزمات باعتبار أن ممثلي التونسيين لم يكن لهم خيار إلا إعلاء صوت المصلحة العامة. ونتج دستور تحوّل إلى مرجعية في صياغة الدساتير الديمقراطية في المنطقة العربية باعتماد أحدث المبادئ والمعايير الدولية في المادة الدستورية.

لم تنتج المنطقة العربية دستورًا ديمقراطيًا إعدادًا كدستور 2014 وليد ثلاث سنوات من النقاشات والحوارات والتوافقات وأيضًا الأزمات

ثم ماذا بعد؟ جاء رئيس الدولة الذي أقسم باليمين للحفاظ على علوية الدستور ليخرقه ثم يمزقه لينسف أرضية التحكيم بين التونسيين خاصة في غياب أجهزة الرقابة وفي مقدمتها المحكمة الدستورية.

تحوّل الرئيس إلى حاكم بأمر الله، رمى في القمامة حتى مشروع الدستور الذي أعدته اللجنة الرئاسية التي اختار أعضاءها بنفسه، ليقدم دستورًا منبتًا عن التونسيين غير معبّر عن إرادتهم ضعيف الصياغة بتوطئة هزيلة مثيرة للسخرية. دستور يقطع مع الإرث الدستوري التونسي وبالخصوص الفصل الأول من دستور 1959 و2014 الذي ظل علامة مميزة لمقاربة التونسيين لهويتهم.

في المقابل، عاث الرئيس فسادًا ليكتب ويشطب ما يشاء دون حسيب أو رقيب أو مراجع إلى درجة تسرّب عشرات الأخطاء في نسخته الأصلية. دستور لا يعترف بالفصل بين السلط، ولا بالتوازن بينها، ولا باستقلال القضاء، دستور لا يعترف إلا بيد طولى لرئيس الدولة على كل مجال تدخل: دستور منحة لا تعاقد.

لم يكن استفتاء 25 جويلية إلا عملية شكلانية لصبغ هذه الورقة بمشروعية مزيفة في غياب مقومات ديمقراطية لإعداد الدستور من جهة ونزاهة عملية الاستفتاء من جهة أخرى. بهذا المعنى، دستور الرئيس هو دستوره الخاص وليس دستور التونسيين، نتعامل معه بمنطق الإكراه القانوني فقط كحالة واقعية دون اعتراف به لعدم شرعيته ومشروعيته في آن.

يجب التمييز بين دستور 2014 كمرجعية تعاقدية من جهة وعطابة العملية السياسية قبل الانقلاب، لا يجب تحميل دستور 2014 عبئًا لا يتحمله، وهو الدستور الذي لم يتم استكمال تنزيله التشريعي أصلًا

يظل، في الأثناء، دستور 2014 الميثاق التعاقدي الديمقراطي الوحيد للتونسيين، وهو إن تم نسخه بالمنطق القانوني، فليس، بالمنطق السياسي، إلا معلقًا على أجل قادم باعتباره الأرضية التأسيسية لمسار استعادة الديمقراطية بعد طيّ صفحة نظام الرئيس الأوحد.

يجب التمييز بين دستور 2014 كمرجعية تعاقدية من جهة وعطابة العملية السياسية قبل الانقلاب، لا يجب تحميل دستور 2014 عبئًا لا يتحمله، وهو الدستور الذي لم يتم استكمال تنزيله التشريعي أصلًا.

إن المطالبة بمرجعية دستور 2014 لا تعني استعادة نفاذه بنسخته الأصلية، إذ يجب ترك هامش ضمن الحوار بين الفاعلين لتنقيح نظامه السياسي على سبيل المثال

وإن المطالبة بمرجعية دستور 2014 لا تعني استعادة نفاذه بنسخته الأصلية، إذ يجب ترك هامش ضمن الحوار بين الفاعلين لتنقيح نظامه السياسي على سبيل المثال، لكن دون المساس ببابي المبادئ العامة والحقوق والحريات، فلا طاقة أو حاجة أصلًا لفتح باب مفتوح وطرق مسائل تأسيسية استنفذنا النقاش فيها زمن التأسيس الدستوري.

في الختام، تحوّل دستور 2014 إلى علامة اليوم للمطلبية الديمقراطية، ولا غرو أنه الأرضية الشرعية الضرورية لأي حوار وطني بين القوى الحية بالبلاد.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"