11-فبراير-2020

بيان إثر الجدل الذي رافق إعفاء مندوب تونس في مجلس الأمن (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

مقال رأي

 

لم يكن ليكتمل الجدل المصاحب لإعفاء وزارة الخارجية لمندوب تونس لدى مجلس الأمن المنصف البعتي، خلال الأسبوع الماضي، في خضم إعداد تونس لمشروع قرار أممي لإدانة "صفقة القرن" إلا بإصدار رئاسة الجمهورية، مساء الإثنين، لبلاغ توضيحي، نشرته وكالة تونس إفريقيا للأنباء، لم يكن عاديًا من حيث شكله ولا مضامينه، ليزيد من حدّة الجدل بل حوّلنا للحديث عن مؤامرة كانت تستهدف تونس ورئيسها!

وللقصة بداية، إذ ظهر إعفاء البعتي، منذ إعلانه، أشبه بقصة غامضة، تسريبات فتقارير أجنبية فبيان توضيحي من الخارجية فتقارير صحفية مشككة حتى حل بيان رئاسي فحواه أن "الذين دأبوا على الافتراء والتشويه فالتاريخ كفيل بفضحهم" وأن "من بادر بتقديم مشروع القرار، ومن أوعز إليه في الخفاء من تونس.. كان هدفه، الذي لا يخفى على أحد، الإساءة لتونس، ولرئيسها على وجه الخصوص".

والواقع أن 5 ملاحظات ضرورية تأتي حول هذا الإعفاء الذي يستحق بحق التوصيف الذي يبدو سمجًا "المثير الجدل"، وكذا حول الرسائل المعلنة والمبطنة في البلاغ التوضيحي الذي تظهر فيه بوضوح بصمة رئيس الجمهورية قيس سعيّد ألفاظًا ومعاني:

1- تحدث البيان، بداية، أن تونس "لم ترضخ لا للمساومات ولا للضغوطات"، وقد نقلت تقارير صحفية أجنبية على غرار "لومند" الفرنسية أن الإدارة الأمريكية ضغطت على تونس لسحب مشروع قرار أممي لإدانة "صفقة القرن" بل وأن مكالمة هاتفية جرت بين قيس سعيّد وجاريد كوشنر أطاحت بالبعتي، وتنقل كواليس، وفق ما بلغنا، أن واشنطن استعدت السفير التونسي لديها للاحتجاج، وهو لم يُكشف للعموم. وبغض النظر عن مآل هذه الضغوطات، تؤكد رئاسة الجمهورية وجودها بل تزيد الحديث عن عدم رضوخ للمساومات.

ربما سعيّد، الذي بنى شعبيته على المصداقية، وأعلن مكوثه لراحة مرضية بـ4 أيام بسبب التهاب في الحنجرة في تكريس للشفافية، قد لا يتردّد في كشف ما جرى في الكواليس من باب المصارحة مع "الشعب العظيم"

ويأتي السؤال في هذا الجانب، أي نوع من الضغوط مارستها الإدارة الأمريكية وربما حلفائها على تونس؟ هل يتعلق الأمر بالمسألة المالية من هبات ومنح وقروض أو وقف تعاون في مجالات أخرى؟ ربما قيس سعيّد، الذي بنى شعبيته على المصداقية والصراحة، وأعلن مكوثه لراحة مرضية بـ4 أيام بسبب التهاب في الحنجرة في تكريس للشفافية، قد لا يتردّد قريبًا في كشف ما جرى في الكواليس والغرف المغلقة من باب المصارحة مع "الشعب العظيم". 

**

2- أخطر ما تضمنه البيان هو الحديث تأكيدًا وجزمًا أن البعتي "ومن أوعز إليه في الخفاء من تونس" استهدف من مشروع القرار الأممي "الإساءة لتونس ولرئيسها"، وأضاف التوضيح الرئاسي أن "من لبس رداء المُدافع عن حق الشعب الفلسطيني، صار يستجدي عطف عدد من العواصم المساندة لما سمي ظلمًا بالصفقة حتى يتم التراجع عن قرار الإقالة" بل "أنه لم يبق له سوى الاستجداء بالمحتل الصهيوني، وهو يتظاهر بمواجهة الاحتلال".

اقرأ/ي أيضًا: قيس سعيّد رئيسًا.. أمّا بعد

ونحن بصدد اتهامات خطيرة توجهها علنًا رئاسة الجمهورية إلى من كان مندوبًا للدولة لدى مجلس الأمن، ولا يُخال مبدئيًا أن هذه الاتهامات مجرد تخمينات لأنها صادرة عن أعلى مؤسسة رسمية في البلاد، والمفترض أنها تسرد وقائع ومعلومات لا ترجيحات وتقديرات. فالحديث عن تعمد ديبلوماسي في خطة مندوب لدى مجلس الأمن "الإساءة" لبلده التي من المفترض يحمي مصالحها، بل والإساءة لرئيس الدولة الذي من المفترض يعمل تحت إمرته، هو أمر غاية في الخطورة يرتقي إلى مستوى التآمر على الدولة، فلا يتعلق الأمر بمجرد "خطأ مهني جسيم" كما أوردت وزارة الخارجية قبل يومين. وليس أقل الخطورة التأكيد الحديث عن "استجداء" المعني بالأمر "الذي يتظاهر بمواجهة الاحتلال" لعواصم مساندة لصفقة القرن للتراجع عن قرار الإقالة، وهو ما يكاد يحيل إلى التخابر مع دول أخرى للتأثير على قرار بلده.

يُطرح السؤال أين الحقيقة في سلسلة هذه الاتهامات الخطيرة؟ هل بلغ قيس سعيّد معلومات استخباراتية ثابتة بما يستلزم إذا ثبتت صحتها اتخاذ إجراءات أكثر من مجرد إعفاء؟ وهل سيضطر هذا البيان لإخراج البعتي من صمته وهو الذي ظهرت إقالته مهينة ليزيدها البيان الرئاسي خطورة حول دوافعها؟ يجب أن نعترف أن هذه الاتهامات غير مسبوقة في تاريخ الديبلوماسية التونسية.

**

3- النقطة الثالثة اللافتة في البيان هي تجديد رئاسة الجمهورية معطى أكدته وزارة الخارجية سابقًا وهو أن خطأ البعتي تمثل في توزيعه لمشروع القرار الأممي لمناقشته دون التشاور المسبق مع الوزارة أو رئاسة الجمهورية. وقد نشر عبد الوهاب الهاني، وهو عضو في إحدى لجان الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، نصًا لمسودة مشروع القرار يتضمن 10 نقاط أهمها "الأسف العميق" من خطة الإدارة الأمريكية، والدعوة للالتزام بالمقررات الدولية حول القضية الفلسطينية بتأسيس دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، ودعوة إسرائيل بوصفها قوة احتلال للتقيّد بالتزاماتها الدولية في الأراضي الفلسطينية إضافة للدعوة لتنظيم مؤتمر دولي لتحقيق للسلام في المنطقة تطبيقًا لقرار مجلس الأمن 1850 عام 2008.

نحن بصدد اتهامات خطيرة توجهها علنًا رئاسة الجمهورية إلى من كان مندوبًا للدولة لدى مجلس الأمن، ولا يُخال مبدئيًا أن هذه الاتهامات مجرد تخمينات لأنها صادرة عن أعلى مؤسسة رسمية في البلاد

وقد نقلت مصادر، فيما سبق، أن هذا المشروع الأممي يحمل سقفًا عاليًا لا يمكن أن يمرّ داخل مجلس الأمن، وأن لهجته التي قد تبدو حادة بالنسبة لإدارة ترامب تجعله مشروعًا حالمًا غير واقعي لن يتحوّل إلى قرار في نهاية المطاف. وقد أكدت المكلفة بالإعلام في رئاسة الجمهورية رشيدة النيفر أن مضمون المشروع لا يتخالف مع موقف تونس من صفقة القرن لكن "يمكن أن يؤثر على تمرير قرار تونس لإدانة الصفقة في مجلس الأمن". وإن ما كان تجاوز البعتي بعدم استشارة السلطات العليا في بلاده هو "خطأ مهني جسيم" بحق على نحو توصيف الخارجية، ولكن المثير ما تضمنه بيان الرئاسة أن "من بادر بتقديم المشروع ذاته ومن أوعز إليه في الخفاء من تونس.. لم يكن يسعى إلى تمريره"، وهو ما يعيدنا مجددًا لمربع خطير بالتشكيك في نوايا المندوب المقال وفي الجهات الخفية داخل البلاد التي تتواصل مع البعتي وتوجهه وهي غير الخارجية والرئاسة. ولعلّه لا بأس، في هذا الموضع، من التذكير أن البعتي عُيّن في منصبه في، سبتمبر/أيلول الماضي، في آخر أيام الرئاسة الوقتية لمحمد الناصر قبيل تنظيم الانتخابات.

اقرأ/ي أيضًا: ليست "حكومة الرئيس"!

ولم يكن ينقص بيان الرئاسة إلا ذكر للفظ المؤامرة، وهو يتحدث عن مؤامرة فعلًا بما قُدم وربما ما خفي أعظم، ليأتي السؤال: أي معطيات بلغت لرئاسة الجمهورية لتصدر بيانًا بهذه اللهجة؟ من هي الجهات المتآمرة ومن يدعمها؟ ونذكر هنا أن رئيس الجمهورية تحدث في كلمة بسيدي بوزيد بمناسبة عيد الثورة في ديسمبر/كانون الأول الماضي عن "مؤامرات تُحاك في الظلام سيتصدى لها الشعب"، وصدر لاحقًا في ذات الشهر بيان توضيحي أيضًا بعد زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لنفي اصطفاف تونس في أي حلف متحدثًا عن "مصادر دأبت على الافتراء والتشويه". فالحديث عن المؤامرات بات سلوكًا معتادًا من رئاسة الجمهورية، فهل يحق للشعب الكريم معرفة حقيقتها؟

**

4- لا يخفى على أحد حتى من المنتقدين لأداء سعيّد في ملف الخارجية وجود "حملة"، أو على الأقل نزعة تهجّمية متوتّرة ومتزامنة، تستهدف رئيس الجمهورية بين الحين والآخر وتأخذ أشكالًا مختلفة ومن جهات متعددة. فلم يكن بالخصوص سيل الاتهامات والسباب الموجهة، مؤخرًا، من "الفيلسوف" أبو يعرب المرزوقي، والذي كان وزيرًا في حكومة "الترويكا" عام 2012 ويقدّم بأنه "فيلسوف حركة النهضة"، ضد سعيّد إلا التجسيد الأشد خطورة لهذه الحملة بعد وصفه له بأنه "دمية إيرانية" و"أوسخ من القروي" وأنه "لن يطول بقاؤه في قرطاج". وهو ما يأتي في خضم حملة تصاعدت مؤخرًا تقدّم سعيّد كحامل للمشروع الإيراني، وتتهمه بالتشيّع عدا عن الاتهامات الدورية بالشعبوية. وتزامنت أيضًا مع انتقاد لافت من رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي علنًا لغياب سعيّد عن مؤتمرات دولية في الفترة الماضية، فيما بدا نقدًا غير بريء المقاصد. وأمام هذه "التهجمات"، أطلق أنصار سعيّد على مواقع التواصل، في المقابل، حملة مضادة بعنوان "اخدم والشعب معاك" دعمًا له في مواجهة السياسيين المتحزبين والقوى التي ما فتأت تهاجمه وفق قولهم. وبذلك، لا يمكن قراءة اللهجة الحادة والمتشنجة في البيان التوضيحي الأخير إلا في سياق ما استبق ذكره.

لم يكن ينقص بيان الرئاسة إلا ذكر للفظ المؤامرة، وهو يتحدث عن مؤامرة فعلًا بما قُدم وربما ما خفي أعظم، ليأتي السؤال: أي معطيات بلغت لرئاسة الجمهورية لتصدر بيانًا بهذه اللهجة؟ 

**

5- والملاحظة الأخيرة تتعلق بمآل مشروع القرار الأممي وقد تأكد أن فلسطين طلبت إرجاء التصويت بخصوصه لتأمين ظروف تمريره وذلك بالتنسيق مع تونس وأندونيسيا عضوي مجلس الأمن. وأكد البيان الأخير على دعم تونس للقضية الفلسطينية بعبارات من بصمات سعيّد بالقول إنه "حين تنتصر تونس للحق لا تضع في حساباتها إلا الحق المشروع" وأن "حق الشعب الفلسطيني ليس بضاعة توزن بميزان الربح والخسارة"، وهو خطاب يتكامل مع الموقف المميّز لسعيّد الذي يعتبر التطبيع مع الكيان الصهيوني "خيانة عظمى" وأن الوضع الطبيعي معه "أننا في حالة حرب".

وربما الحديث عن عدم الأخذ بـ"الحسابات" و"منطق الربح والخسارة"، في البيان التوضيحي، جاء ردًا على ما تضمنه الجدل الأخير بعد تصوير إقالة البعتي أنها استجابة لضغوط أمريكية، وأن سعيّد غير وفّي لخطابه في مفارقة بين القول والفعل كما يردد خصومه. لكن يظل السؤال دائمًا عن قدرة رئيس الجمهورية على الوفاء بالتزاماته و"السقف العالي" المعلن، وهو مبارك، تجاه القضية الفلسطينية بوصفها "قضيتنا الأم" مع إكراهات الحسابات والمصالح مع "الحلفاء"، وربّما مشروع القرار الأممي المنتظر هو أول اختبار علني لديبلوماسية سعيّد في عهدة تاريخية لتونس في مجلس الأمن في خضم التخطيط الصهيوني بمشاركة عربية نجسة، إماراتية سعودية بحرينية مصرية، لتصفية قضية شعبنا في فلسطين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ماذا نطلب من قيس سعيد في قضية الشهيد محمد الزواري؟

تونس.. تسع سنوات بعد الثورة