16-مايو-2018

تجريم التطبيع هو أحد مفاعيل التنزيل التشريعي لتوطئة الدستور (الشاذلي بن ابراهيم/getty)

مع كل تصعيد لآلة الحرب الإسرائيلية في مواجهة شعبنا العربي المقاوم في فلسطين، تتكرّر ردود الأفعال في المجال العربي بتوزيع بات معهودًا، بين موقف عربي رسمي متواطئ لا ينبري في الكشف عن عمالته شيئًا فشيئًا، وموقف شعبي مخذول ومحاصر يبكي تاريخًا ويشكي حاضرًا. والحال في تونس لا تختلف جوهرًا عن هذا التوصيف، وهذا من المعيب لما تحمله تونس منذ ذات ديسمبر/كانون الأول 2010 من مسؤولية تاريخية في دفع مسار تحرير الأرض في بلادنا العربية المحتلة لطرد الغزاة بالتوازي مع دفعها لمسار تحرير الإنسان لطرد الطغاة حينما كانت شرارة لحراك شعبي ثائر ولا تزال رغم كل العصف ومحاولات التآمر ،هي مشروع الحد الأدنى باستمرار "الإجابة هي تونس".

والحديث عن واجب تونس، التي باتت أيقونة للتحول الديمقراطي في المنطقة لدى الآخر ومشروع الحد الأدنى في الداخل العربي، في دفع مسار تحرير الأرض المحتلة لا يقتضي في كنهه إلا التزامًا جدّيًا في تحويل الإسناد الشعبي الثابت والمعلن لشعبنا العربي في فلسطين وقضيته العادلة وحقوقه المشروعة إلى موقف رسمي يحقق اختراقًا نوعيًا في موقف النظام العربي.

 يجب على الديبلوماسية التونسية تحويل الإسناد الشعبي الثابت والمعلن لشعبنا العربي في فلسطين وقضيته العادلة وحقوقه المشروعة إلى موقف رسمي يحقق اختراقًا نوعيًا في موقف النظام العربي

فتونس الصغيرة جغرافيًا ومكانة في خريطة النفوذ الإقليمي قبل الدولي باتت تمتلك بما هي "نموذج" للانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية رصيدًا اعتباريًا ورمزيًا لم تعمل إلى حدّ الآن لاستثماره للدفاع عن قضيتنا الأم بالشكل المطلوب، إذ لا تزال مكابح الديبلوماسية الموروثة، والانكماش وراء النظام الرسمي الجاثم سواء داخل الجامعة العربية أو المجموعة العربية في الأمم المتحدة، تحول دون قيام تونس بعهدتها المفروضة. والحال أن أحد عناوين الاختراق المطلوب في اللحظة الراهنة هو تقنين تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني. ويوجد فعلًا على رفوف مجلس نواب الشعب مشروع قانون للغرض لا تزال تتلكئ قوى الائتلاف الحاكم في مناقشته علنًا والمضي في المصادقة عليه وفق الموعود منهم على الأقل.

اقرأ/ي أيضًا: إدانة تونسية واسعة للإجرام الصهيوني وتضامن مطلق مع الفلسطينيين

إذ لا معنى لأي ادعاء دعم للقضية الفلسطينية دون انخراط جدّي كل من موقعه ومن هامش المساحة المتوفّر لإسناد المقاومة الفلسطينية بكل الوسائل الممكنة، وأيضًا بالتوازي مع فضح جرائم العدوّ ومحاصرته ككيان عنصري هو نتوء في الخريطة الدولية وليس في المنطقة العربية فحسب. من هذه الأرضية، تأتي الحاجة لتجريم التطبيع مع الكيان الغاصب بما هو تفعيل لموقف شعبي ثابت أكده المؤشر العربي 2018/2017 برفض 93 في المائة من التونسيين اعتراف بلادنا بإسرائيل، وبتأكيد 89 في المائة أن القضية الفلسطينية هي قضية كل العرب وليست قضية الفلسطينيين فقط. وأن تجرّم تونس بما تحمله من أخر القصص "الناجحة" لتحرر الإنسان في المجال العربي اليوم، التطبيع مع كيان غاصب للأرض العربية في فلسطين، فهو يمثل إحراجًا حقيقيًا للصهاينة أمام العالم بمزيد محاصرتهم وتعريتهم، وأيضًا دفعًا لا يجب التقليل من فاعليته في إسناد مسار المقاومة، خاصة في زمن الخيانة والنكوص المعلن.

 لا معنى لأي ادعاء دعم للقضية الفلسطينية دون انخراط جدّي كل من موقعه ومن هامش المساحة المتوفّر لإسناد المقاومة الفلسطينية بكل الوسائل الممكنة

بيد أن الائتلاف الحاكم يفتقد للإرادة السياسية للمضي في منحى تجريم التطبيع لأسباب عدة منها ما يتعلق بطبيعة تركيبته إذ استطاع أهل الخذلان التمركز في موقع القرار الوطني مع تكرار سمج للالتزام بدعم القضية الفلسطينية، وهو التزام صوري حبيس بيانات الإدانة و"من شابه أخاه العربي فما ظلم". ولعلّ يهمّ في هذا الجانب الإشارة بأن وزير الخارجية الحالي كان ممثلًا لمكتب تونس في إسرائيل وسط التسعينيات، وإذ يذهب البعض للقول إنه لا يجب تحميل موظف بسيط أدى مهمة عمل وزر خيار نظام بكامله، ولكن المشكل في جوهره أن هذا الموظف "البسيط" بات اليوم يقود جهاز الديبلوماسية التونسية.

ويمثل تعامل السلطات التونسية مع قضية الشهيد محمد الزواري إحدى شواهد البرود الرسمي في مواجهة الكيان الغاصب ودعم المقاومة الفلسطينية، وذلك بمعالجة القضية من جانب جنائي بحت دون أي غطاء سياسي، في ظل عدم توجيه الدولة التونسية الاتهام لإسرائيل بالوقوف وراء اغتيال المهندس التونسي رغم تعدد براهين ذلك، بل لم تقم الدولة التونسية بواجب الحد الأدنى بردّ الاعتبار للشهيد وعائلته، وبالاحتفاء اللازم ببطل زفته تونس فداء لفلسطين.

اقرأ/ي أيضًا: مفتي تونس يدلي بتصريح للقناة السابعة الإسرائيلية واستهجان واسع

وتجاوزًا لذلك، لعلّ من دوافع قصور الموقف الرسمي التونسي أيضًا هو تصاعد المسار التطبيعي في المجال العربي والحديث عن ثالوث الشر العربي مع ابن سلمان وابن زايد والسيسي، والخشية ربّما تونسيًا، دون شرعنة لذلك، هو الكلفة في الداخل العربي قبل الكلفة الدولية. بيد أنه لا يوجد أي مبرّر للاستنكاف اليوم إلا وجود مصادرة للقرار الوطني، وهي الحقيقة الحاصلة مهما تعدّدت الأسباب واختلفت التقديرات لمآلات المضي في تجريم لا يجب الاستهانة به. فخسارة الكيان الصهيوني ستكون ثقيلة في المشهد الدولي، إذ ستتبيّن صورته ككيان هجين ومنبوذ.

 تونس محمولة على أداء رسائل باسم ثورتها وباسم التزامها المعلن في دعم نضال الشعب العربي في فلسطين في مواجهة المحتل الصهيوني ومن هذه الرسائل تجريم التطبيع مع الكيان الغاصب

إن تونس محمولة على أداء رسائل باسم ثورتها وباسم التزامها المعلن في دعم نضال الشعب العربي في فلسطين في مواجهة المحتل الصهيوني، ومن هذه الرسائل تجريم التطبيع مع الكيان الغاصب. في الأثناء، يجب على أولئك الذي وعدوا التونسيين زمن إعداد الدستور بأنهم سيجرّمون التطبيع بموجب قانون وذلك بدل التجريم في النص الدستوري، أن يوفوا بعهودهم. ودون ذلك، عليهم أن يخرسوا قليلًا.

بالنهاية لا يجب أن ننسى أن إصدار قانون يجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني، على الأقل، هو إحدى مفاعيل التنزيل التشريعي لتوطئة الدستور التي نصّت على "الانتصار للمظلومين في كل مكان، ولحق الشعوب في تقرير مصيرها، ولحركات التحرر العادلة وفي مقدمتها حركة التحرر الفلسطيني، وعلى مناهضة كل أشكال الاحتلال والعنصرية".

 

اقرأ/ي أيضًا:

ميشال بوجناح.. صهيوني على عتبات مهرجان قرطاج واستنكار متصاعد

تونس.. جدل تجريم التطبيع يتجدد