22-يناير-2020

سوء نية لتوريط رئيس الجمهورية في أداء الحكومة المقبلة

مقال رأي

 

يصرّ العديد، عن حسن أو سوء نية، من سياسيين وإعلاميين ومتابعين إجمالًا، على توصيف الحكومة المنتظرة أنها "حكومة الرئيس" على اعتبار أن رئيس الجمهورية قيس سعيّد هو من كلّف إلياس الفخفاخ بمهمّة تكوينها، وهذه العبارة باتت تُتداول لتمييز الحكومة المنتظرة في المرحلة الثانية لمسار تكوين الحكومة (الفقرة الثالثة من الفصل 89 من الدستور) إثر فشل الحزب المتحصل على أكبر عدد من المقاعد، حركة النهضة، في تمرير حكومة الحبيب الجملي في مرحلة أولى (الفقرة الثانية من الفصل 89 من الدستور). ولكن لا يوجد لهذه العبارة أي أساس قانوني/دستوري ولكن الأهم أنها تحمل مغالطة سياسية وإيهام بغير الحقيقة وكأن رئيس الجمهورية سيكون رئيسًا للحكومة بالوكالة، بل وكأن رئيس الدولة سيكون مسؤولًا عن الحكومة، وستكون هذه الحكومة مسؤولة أمامه، وهذا غير صحيح قطعًا بالمنطق القانوني والسياسي!

إن الإصرار على توصيف "حكومة الرئيس" واقعًا قد تخفي، عن سوء نية، محاولات لتوريط رئيس الجمهورية في مهمّة لا يمكن أن يمارسها بحكم الآليات الدستورية المضبوطة

وفي الواقع، يبدو مدلول "حكومة الرئيس" متغيرًا غير ثابت، ما يعكس هشاشته واقعًا، وقد شهد تطورًا في استعمالاته على مدى الأسابيع الماضية. إذ دعت حركة الشعب، بعيد إعلان نتائج الانتخابات التشريعية إلى تكوين ما وصفتها "حكومة الرئيس"، وهي حكومة يشرف رئيس الجمهورية على اقتراح اسم رئيسها باعتبار وزنه السياسي/الاعتباري وهو الذي صوّت لفائدته 2.7 مليون تونسي، بحزام برلماني من القوى "الثورية" بما يتماشى مع توجهات رئيس الدولة. ولم يكن يعني هذا الطرح المرور لتفعيل مقتضيات الفقرة الثالثة من الفصل 89 من الدستور أي أن يختار رئيس الجمهورية "الشخصية الأقدر"، بل كان، في إطار الفقرة الثانية من الفصل المذكور وفق قيادة حركة الشعب، فهو تصور كان يطلب وقتها من حركة النهضة، الحزب المتحصل على أكبر عدد من المقاعد، تنازلًا بتوكيلها مهمة تعيين المكلف بتكوين الحكومة لرئيس الجمهورية انتقالًا من "حكومة النهضة" إلى "حكومة الرئيس"، في تصوّر اعتبرته حركة النهضة خرقًا للدستور ولأحقيتها في تكليف من تشاء لتكوين الحكومة.

اقرأ/ي أيضًا: قيس سعيّد رئيسًا.. أمّا بعد

وبعد فشل حكومة الجملي في الحصول على الثقة، عاد الحديث مجددًا عن "حكومة الرئيس" ولكن هذه المرة اختصارًا للحكومة التي ستكوّنها "الشخصية الأقدر" المختارة من رئيس الدولة، وكأن تولّي قيس سعيّد تعيين رئيس الحكومة المكلّف تعني أن الحكومة باتت حكومته، وأنه بات لوحده يمسك بخيوط اللعبة لوحده، بل وكأن رئيس الجمهورية حلّ محلّ البرلمان مشتّت التركيبة.

من زاوية قانونية أولى، إن دور رئيس الدولة في تكوين الحكومة، وفق الفقرة الثالثة من الفصل 89، يقف عند اختيار "الشخصية الأقدر" بعد القيام بمشاورات مع الأحزاب البرلمانية والكتل النيابية، وتولّي رئيس الدولة هذه المهمة يأتي كفرصة ثانية للبرلمان الذي يتحمّل مسؤولية عدم منح الثقة للحكومة الأولى، ومقتضى هذه المسؤولية ليس ظاهرًا فشل الحزب المتحصل على أكبر عدد من المقاعد في تأمين أغلبية برلمانية، بل حقيقة هي فشل البرلمان في تأمين أغلبية من داخله لتكوين حكومة تدير شؤون البلاد، فالفشل لا يتعلق بالأحزاب البرلمانية في ذاتها بل في عطالة السلطة التشريعية منتهاها، حال فشل الفرصة الثانية، تدخّل رئيس الدولة مجددًا ولكن بحلّ البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة.

وعودة لدور رئيس الدولة في تكوين حكومة الفرصة الثانية، فهو لا يتولى القيام بمشاوراتها، ولا يلهث لتأمين الأغلبية البرلمانية، فتلك المسؤولية تظل مسؤولية رئيس الحكومة المكلف والبرلمان معًا، وما رئيس الدولة، دستوريًا، إلا مراقب أو إن شاء لعب دور تحكيمي في أفضل الأحوال، فهذه ليست حكومته التي يختار وزرائها كما يشاء، ويحدّد برنامج عملها، ورؤيتها.

إن الانتقال من تفعيل مقتضيات الفقرة الثانية إلى الفقرة الثالثة من الفصل 89 من الدستور لا يعني تغييرًا للنظام السياسي، كما يكاد يصوّر البعض، فلا يعني أننا انتقلنا من نظام نصف برلماني إلى نظام رئاسي

وإن الإصرار على توصيف "حكومة الرئيس" واقعًا قد تخفي، عن سوء نية، محاولات لتوريط رئيس الجمهورية في مهمّة لا يمكن أن يمارسها بحكم الآليات الدستورية المضبوطة رغم الإطناب في الحديث عن العنصر الاعتباري، وكأن رئيس الجمهورية سيعمل صباحًا في قصر قرطاج ويتحوّل مساءً إلى قصر القصبة، أو لعلّه سيشرف أسبوعيًا على اجتماع مجلس الوزراء أو سيحدّد جدول أعماله وأولوياته أوّل أوّل.

ويعي قيس سعيّد هذا الجانب، وهو ما جعله يؤكد في بلاغ تكليف إلياس فخفاخ أن الحكومة المنتظرة "لن تكون حكومة رئيس الجمهورية بل هي التي سيمنحها مجلس نواب الشعب الثقة" مشددًا أن "الكلمة الفصل هي للمجلس وحده عند عرض الحكومة بكامل أعضائها على الجلسة العامة".

اقرأ/ي أيضًا: إلياس الفخفاخ رئيسًا للحكومة.. نحو قاعدة للحكم مستقرّة

إذ إن الانتقال من تفعيل مقتضيات الفقرة الثانية إلى الفقرة الثالثة من الفصل 89 من الدستور لا يعني تغييرًا للنظام السياسي، كما يكاد يصوّر البعض، فلا يعني أننا انتقلنا من نظام نصف برلماني/نظام شبه شبه إلى نظام رئاسي، ولا يعني أننا انتقلنا من حكومة تستمد شرعيتها الدستورية من البرلمان إلى حكومة تستمد شرعيتها من رئيس الدولة. هو ليس إلا انتقالًا من آلية إلى أخرى لتكليف رئيس الحكومة، ودور رئيس الدولة في الآلية الثانية ينتهي بإعلان "الشخصية الأقدر"، وهو لا يكتسب بموجب هذا التكليف أي امتياز دستوري في تكوين الحكومة لاحقًا.

ولعلّ تذكيرًا، انحاز المشرّع الدستوري وضوحًا نحو النجاعة في علاقة بتوزيع السلطات داخل السلطة التنفيذية، فكل صلاحية ترجع من حيث الحسم النهائي إلى جهة واحدة. ومن منطلق الربط بين الصلاحية والمساءلة، فرئيس الحكومة هو المسؤول لوحده عن اختيار فريقه الحكومي، وهو ما سيكون عرضة للمساءلة وحتى حجب الثقة عن اختياره وليس رئيس الجمهورية، فحتى بالنسبة لوزيري الدفاع والخارجية، فرئيس الحكومة يتشاور فقط مع رئيس الجمهورية أما القرار النهائي بيده فقط.

لكن يسأل البعض في الأثناء: ماذا عن القيمة الاعتبارية لرئيس الدولة وتأثيره في تحديد ملامح الحكومة خاصة وأننا في واقعة الحال اختار قيس سعيّد شخصية لتكوين الحكومة لم يقترحها الحزبين الأولين، النهضة و"قلب تونس"، بما يبدو وفق البعض أن سعيّد يدفع نحو تشكيل حكومة بحزام برلماني معيّن بل على الأقل من لون سياسي معيّن بما يتوافق مع توجهاته؟ وألا يعد "حسم" رئيس الجمهورية في اختيار الفخفاخ دون غيره كـ"الشخصية الأقدر" بما يتعارض، مبدئيًا، مع رغبات الأغلبية البرلمانية العددية إن اعتمدنا معيارًا تقنيًا وهو ذات المعيار المعتمد من رئيس الدولة، أي ترشيح الكتل لشخصيات لرئاسة الحكومة، هو حسم يقتضي بالنهاية تحمّل المسؤولية السياسية؟

كيف تكون "حكومة الرئيس" إن كان رئيس الجمهورية لا يملك القدرة على "فرض" تعيين أي وزير أو حتى كاتب دولة وحيد، ولا يستطيع "تحديد" برنامج الحكومة وأولوياتها؟ كيف نسمّي الحكومة باسمه ونحمّله مسؤوليتها؟

يظلّ السؤال دائمًا عن طبيعة المسؤولية ومداها، ولعل كلمة السر، هنا، في لفظ "الأقدر" التي لم يتحدّد معناها بشكل صريح. وقد اختار رئيس الجمهورية آلية لتفعيل مفهوم التشاور هي المقترحات الكتابية، في خيار يخفي صبغة عقابية للأحزاب التي لم تفشل فقط في الجولة الأولى في الاتفاق فيما بينها على الحكومة بل ظهرت أنها توارب بين المخفي والمعلن فكان "الكتابي" لدى مكتب الضبط امتحانًا لها من باب الشفافية، على أقل تقدير، أمام قواعدها وأمام الرأي العام. وكان يظن البعض أن رئيس الدولة، أستاذ القانون الدستوري، سيعتمد الشخصية "الأقدر" بحساب الجمع والطرح للمقترحات الكتابية، والحال أن "الأقدر" هو الشخصية الذي يوازن بين رؤية رئيس الدولة وإكراهات التوازنات البرلمانية، فقد أوكلت مهمة تكليف رئيس الحكومة، نهاية، إلى رئيس الدولة وليس لساعي بريد، وفي الحال لمن حاز على 2.7 مليون صوتًا كي يحدّد ويحسم.

وإذًا فالمسؤولية السياسية هي في حسن اختيار شخصية ليس فقط قادرة على تأمين الأغلبية البرلمانية بل قادرة أيضًا، بتقدير رئيس الدولة، على حسن قيادة الحكومة في المرحلة الحالية التي تعرفها البلاد. ولكن ما يلبث أن يرجع الكرة لرئيس الحكومة المكلف وثمّ للبرلمان، أما رئيس الدولة ينسحب من مشهد تشكيل الحكومة، فهو أدى واجبه كما يراه، والحسم بالنهاية ليس بيده بل بيد رئيس الحكومة والبرلمان في تحديد نوعية الحكومة وتركيبتها وبرنامجها فكيف تكون إذًا "حكومة الرئيس" إن كان هو لا يملك القدرة على "فرض" تعيين أو إعفاء أي وزير أو حتى كاتب دولة وحيد، ولا يستطيع "تحديد" برنامج الحكومة وأولوياتها؟ فكيف نسمّي الحكومة باسمه ونحمّله مسؤوليتها، تركيبة وأداءًا لاحقًا، وهو لا يملك الآليات الدستورية لممارسة "رئاسته" لهذه الحكومة؟

وكيف تكون "حكومة الرئيس" وإن كان حتى رئيس الجمهورية، المستقلّ غير المتحزّب، يملك حزبًا في البرلمان سيصوّت لفائدة حكومة الفخفاخ وبالتالي نقول، على الأقل، إنه يتبنى الحكومة سياسيًا بالتبعية؟ وأي إسهال في استعمال الألفاظ إن كانت الحكومة التي كونّها يوسف الشاهد في صيف 2016، وهو الذي عينه رئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي ودعم حكومته أساسًا حزب الرئيس (نداء تونس) في البرلمان، كانت تُسمى حكومة "وحدة وطنية" وليس "حكومة الرئيس" إن ما كانت تلك الحالة هي الأقرب معقولية لإطلاق هذه العبارة؟ وأتكفي العناية أو الرعاية السياسية للحكومة، على فرض وجودها اليوم والأهم استمرارها عبر الزمن، بالقول بمسؤولية رئيس الدولة عن أداء ّالحكومة؟ أو يكفينا التناغم المفترض بين رئيسي الجمهورية والحكومة للقول بذلك أم يجب على سعيّد تقديم صك على بياض للفخفاخ باسمه؟ ولذلك، فإن ما كان من إصرار على استعمال عبارة "حكومة الرئيس"، فهي فعلًا حكومة "الرئيس"، رئيس الحكومة المكلف، إلياس الفخفاخ!

 

اقرأ/ي أيضًا:

ماذا نطلب من قيس سعيد في قضية الشهيد محمد الزواري؟

عبير موسي.. أذلها نظام بن علي وأكرمتها الثورة