مقال رأي
بات قيس سعيّد رئيسًا للجمهورية التونسية، وانتقلنا من أستاذ القانون الدستوري المستقلّ الذي قاد حملة انتخابية بدون موارد مالية، وطرح برنامجًا تأسيسيًا جديدًا قوامه إعادة البناء الدستوري، ومن بوابة التحليل لنصره العظيم في منافسة جوهرها أخلاقي/قيمي بلبوس سياسي/انتخابي، إلى رئيس للدولة التونسية لعهدة بـ5 سنوات، في تأسيس ديمقراطي لم ينته، وفي مرحلة يتصدّرها العنوان الاقتصادي والاجتماعي. هو انتقال، في مداه، من احتفاء التشريف إلى ثقل التكليف، ومن مبتدأ الأمانة إلى خبر المسؤولية، هو انتقال من المرافقة إلى المراقبة.
إن السلطة السياسية كعنصر مكوّن للدولة، والدولة مبحث لطالما درّسه سعيّد لطلبته على مدى عقود في مادة القانون الدستوري، هي الحاكم، ومقابله الشعب المحكوم صاحب السيادة، التي يوكلها ويفوّضها لمن يشاء ليمارس السلطة باسمه، والعلاقة بينهما قوامها ضمانات وثقة ورقابة. وقيس سعيّد يمثل اختراقًا من صفّ المحكومين إلى دفة الحكام وهو الحاكم رمز الدولة، فصعوده من خارج الطبقة السياسية، الحاكمة منها والمعارضة، متجاوزًا للأيديولوجيا وبعيدًا عن ماكينات الأحزاب والمال و"منطق" الممارسة السياسية، وبعنوان حملة "الشعب يريد"، يجعله سفير المحكومين قبل أن يكون حاكمًا بل ورسولهم في سلطة لا تُرى بطبيعتها إلا بعين الريبة. ولذا إن أولى مهامه أن يصدح صوتًا للشعب العميق داخل السلطة الغريبة، ولدى الحكام من حوله، بلزوم تأسيسه لصفحة جديدة بين الدولة والشعب، وهذه مهمّة يعيها سعيّد وقد تحدث في كلمته إثر أداء اليمين الدستورية عن "علاقة ثقة جديدة بين الحكام والمحكومين" و دعا "الجميع للمساهمة الجميع في هذه العلاقة التي افتقدوها منذ زمن بعيد".
صعود قيس سعيّد من خارج الطبقة السياسية متجاوزًا للأيديولوجيا وبعيدًا عن ماكينات الأحزاب والمال و"منطق" الممارسة السياسية، وبعنوان حملة "الشعب يريد"، يجعله سفير المحكومين قبل أن يكون حاكمًا
وبهذا المعنى، رئاسة قيس سعيّد لتونس يجب أن تحلّ رئاسة تأسيسية في زمن التأسيس، وإن ما كانت جمهورية ثانية فعنوانها الأول الدستور الجديد، ولكن لا تكتمل شروطها إلا بجمهورية يتصالح فيها المواطن مع دولته، وتُستعاد الثقة في مؤسسات الدولة، وهي مهمة لم تتحقق على مدى السنوات الماضية، ما جعل مسار المصالحة الوطنية، من بوابة العدالة الانتقالية، معطل لم يحقق أهدافه، ولازالت العلاقة بين المواطن والدولة مرتبكة تعوزها الثقة، إذ لا تُرى الدولة إلا كجهاز ضبط وإكراه مشكوك في عملها لمصلحة المواطنين البؤساء.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا يصوّت الشباب بكثافة لقيس سعيّد؟
والأمانة هي كلمة سرّ هنا، وهي عنوان خطاب التنصيب، والأمانة منها حفظ ما اُئمتن عليه من حقوق الناس. وتشديد سعيّد على مفهوم الأمانة، "أمانة الشعب وأمانة الدولة وأمانة الأمن وأمانة الفقراء والبؤساء وأمانة ابتسامة الرضيع في المهد"، كما ورد في خطاب التنصيب، تشي بالتزام بمضامين متعددة للأمانة من "حاكم" تجاه المحكومين. والمسألة هنا، لا تتعلق بصلاحيات رئيس جمهورية واختصاصاته، فهي أعمق، الحديث هنا عن رسم سقف العلاقة بين رمز الدولة والشعب. ومن هذا الباب، يعلن سعيّد أيضًا، وهذا المهم أيضًا، حدود علاقته ببقية المحكومين، بنخبة سياسية يختلف عنها، في الرؤية والتقدير، هي الماسكة بملف اليومي في حياة الناس. ولذلك رئيس الجمهورية مدعو أن يكون ضديدًا لهذه السلطة المقابلة، وليست مضاددة معارضة ومناكفة وتأزيم وتعطيل لدواليب الدولة، بل هي مضاددة شدّ وتقويم وتعديل وضبط، عبر عناوين كبرى أهمها الصرامة في تطبيق القانون النافذ، وإعلاء المصلحة الوطنية، ممارسة، على حساب أي مصالح أخرى. وسعيّد هنا متحرّر من أي حسابات ضيقة ومصالح شخصية وديون سياسية مُكلف بأدائها في رئاسته.
ورئيس الجمهورية أستاذ القانون الدستوري يعلم أنه يملك الأدوات الدستورية الكفيلة بأداء دور المضاددة التقويمية، من مبادرة تشريعية مبتدءًا تخترق مساحات وتفتح، على الأقل، نقاشًا عموميًا مفتوحًا، وحق الرّد الذي لم يُستعمل منذ إقرار الدستور، عدا عن رئاسة المجالس الوزارية، وهو ما يسمح له بالتدخل كلما لزم ذلك. وليس عليه أن يتورّط في أي شكل من الأشكال التزكية لأي حكومة، أو أن يتحمّل مسؤولية لم يتعهّد بها، أو أن يلعب دور الغطاء السياسي للألاعيب الحزبية الخفية، أو أن يُحمل على تنفيذ وعود لم يقدمها وهو لم يقدّم وعودًا انتخابية جاذبة أصلًا، وليس الدعوة لعدم تورّطه أن يعارض الحكومة، أو أن يعطّل عملها، ولكن عليه أن يبقي على مسافة دائمة تفصله عنها أمام الشعب كي يكون الفصل بيّن والميز واضح، وذلك من صميم أداء مهمته العليا في إعادة تأسيس علاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم، فهو "حاكم" يجب أن يبقى دائمًا متمايزًا عن بقية الحاكمين الذين وعدوا ونكثوا سابقًا وانغمس لفيف منهم في شبكات الفساد والدوس على القانون وهو الذي وعد في خطاب التنصيب أنه "لا مجال لأي عمل خارج القانون".
ليس على قيس سعيّد أن يتورّط في أي تزكية لأي حكومة، أو أن يتحمّل مسؤولية لم يتعهّد بها، أو أن يلعب دور الغطاء السياسي للألاعيب الحزبية الخفية، أو أن يُحمل على تنفيذ وعود لم يقدمها
وإن التأسيس يقتضي أن تهتم مؤسسة رئاسة الجمهورية بالقضايا الفكرية والثقافية ذات البعد الإستراتيجي، وسعيّد قدم طرحًا فكريًا سياسيًا لإعادة تنزيل سيادة الشعب من بوابة بناء دستوري جديد، وهنا المطلوب أن يرسخ تقاليد لرئاسة حاضنة للفكر والثقافة، وهو الذي تحدث عن "ثورة ثقافية" في خطاب التنصيب. ويمكن أن تتخذ هذه التقاليد شكل ملتقيات وحوارات فكرية دورية في قصر قرطاج على غرار مبادرة "حوارات قرطاج" بعيد الثورة. ويمكن، في هذا الإطار، بعث جائزة دولية للبحوث والدراسات حول الديمقراطية، لاعتبارين أولهما أن تونس هي بلد نموذج للديمقراطية في المجال العربي، وثانيًا لتشجيع الدفع نحو الحفر في قضايا الديمقراطية وسبل ممارسة الشعب لسيادته، خاصة إن ما علمنا أن طرح رئيس الجمهورية أصلًا يقوم على نقد للديمقراطية التمثيلية الكلاسيكية. والمطلوب أيضًا أن تطلق رئاسة الجمهورية مدى جديدًا للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية بميزانية محترمة تكفل القيام بالدراسات والبحوث في مختلف المجالات، وليس الاكتفاء بالدور الحالي للمعهد الذي أشبه بخلية عمل صغيرة مقارنة بأكبر مراكز البحوث والدراسات التابعة للمؤسسات الرسمية في الدول التي ترى في الإنفاق في كل ماهو إستراتيجي إنفاقًا على المستقبل وعلى الأجيال القادمة.
وإن رسائل تحملها الثورة التونسية لازمة التوجيه دائمًا، وليست هذه دعوة لتصدير الثورة بالمعنى الدعائي التوسّعي، وتونس لا تسعى ولا ينفع شعبها هكذا تصدير يحشر في الزاوية ويؤزم، ولكن معاني الحرية والكرامة للشعوب وضمان حقوق الإنسان، يجب أن تحلّ البوصلة الموجّهة لسياسة خارجية حيوية خاصة في مضامين خطابات رئيس الدولة في المنابر الديبلوماسية العربية تحديدًا، وهي بوصلة لا تعلي المصالح النفعية لدولة صماء على حساب المبادئ والقيم العليا، وتلك أمانة تجاه الشعب المقهور في أغلب البلدان العربية، ولا تغرق أيضًا في مثالية اندفاعية على حساب التوازنات والحساسيات الديبلوماسية.
أن يكون قيس سعيّد رمزًا للدولة بحكم صفته فتلك لوحدها مهمة ثقيلة تبدو على الهامش في السياسي اليومي ولكنها هي المركز في العمق
والتعاطي مع قضية شعبنا العربي في فلسطين، هنا، هي الاندفاع المطلوب على خلاف ديبلوماسية باردة موروثة منذ عقود، فرفع هذه القضية في كل المنابر الدولية، وخاصة من منبر مجلس الأمن خلال السنتين المقبلتين، هي أمانة يجب أن تؤدى بصدق وعزم، وليس على تونس، وعلى الأقل، أن تؤدي أقل مما قادته البعثة الكويتية في مجلس الأمن، أي خطاب فاضح للعنصرية الصهيونية بأعلى صوت، واقتراح مشاريع قرارات لإدانة عربدة دولة الاحتلال، والدعوة لعقد مجالس طارئة كلما اشتدّ الإرهاب الصهيوني في الأراضي العربية المحتلّة. وإن كان من ملف يستدعي اختراقات جريئة على طاولة الديبلوماسية التونسية، فهو ملف قضيتنا الفلسطينية التي تواجه اليوم، أكثر من أي وقت مضى، مخططًا عربيًا وصهيونيًا لتصفيتها والقضاء على الحقوق التاريخية لشعبها المنكوب. وتأكيد سعيّد على أن التطبيع مع الكيان الصهيوني هو "خيانة عظمى" هو خط أول لدفع رسمي يجب أن يصل لأقصى مداه، فتونس لن تغيّر موازين القوى الدولية ولكنها قادرة، وهي الديمقراطية الوحيدة عربيًا، أن تفضح وتحرج بالخصوص أنظمة عربية مشاركة، وليست فقط متواطئة، في مشروع هدر حق الشعب الفلسطيني.
قيس سعيّد، خلاصة، هو اختراق شرعي وجميل للدولة، ورئاسته وصفها المأمول رئاسة تأسيسية لحاكم يقدم نفسه كحامل لأمانة، قدوة باحث عن مصالحة الدولة مع الشعب، يطرح، جوهرًا، إعادة الثقة بين الحاكم والمحكوم تقطع مع القديم وتبني من جديد، ولعل ثقل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية سيدفع نحو هذا البناء لأن الأحلام الكبرى تبدأ من ركام الأزمات الكبرى. والخطاب السياسي الرومانسي المثالي والطهوري ظاهرًا، هو واقعًا خطاب شحذ همم وتحفيز وأمل، وذلك الجوهري في الدفع للعمل ونهضة الأمم والشعوب. وأن يكون قيس سعيّد رمزًا للدولة بحكم صفته فتلك لوحدها مهمة ثقيلة تبدو على الهامش في السياسي اليومي ولكنها هي المركز في العمق، وإن كان الحديث عن تأسيس، فالحديث عن بناء/استعادة المعنى والقيم، وخلاف ذلك تظل تفاصيل بل تفاصيل التفاصيل بمنظار التاريخ على مدى البعيد.
اقرأ/ي أيضًا: