09-أكتوبر-2019

يبدو أن القبلية قد تم تقويض سطوتها في الانتخابات الأخيرة (الشاذلي بن إبراهيم/ NurPhoto)

 

مثلما هو الحال في العديد من الدول العربية، فإنّ المجتمع التونسي طالما استند للقبلية أو كما تسمى في تونس بـ"العروشية". إلاّ أنّ العروشيات تكتّلت لمحاربة المستعمر، ثم إنّ برامج التحديث وبناء الدولة الحديثة وما ركزت عليه في بناء مجتمع جديد قامت على تركيز الهوية الوطنية الجديدة على أنقاض المرتكزات التقليدية من عروش وقيادات وجهات وعائلات وأعيان.

ولكن عملية التفكيك هذه لم تراع عدة جوانب نفسية وثقافية، لأن تفكيك المرتكزات القبلية تم بواسطة جملة من الإجراءات التي اتخذتها الدولة على غرار إعادة التقسيم الإداري، والقضاء على نمط البداوة، وإحلال نمط الفلاحة المستقرة، ونشر التعليم، وتشجيع نشاط المجتمع المدني والسياسي، غير أن هذا التوازن قد اختل بسبب بطء التحولات الاقتصادية والاجتماعية وتغيير مشاريع التنمية واعتمادها الطابع الفوقي بشكل غذى التهميش الاجتماعي، مما دفع الفرد للاحتماء بسلطة الجماعات الأولية و"أبناء البلد"، وهو ما يفسر تفجر الصراعات بين مجموعات قبلية في جهات محددة من الجمهورية قاسمها المشترك التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي لعقود من الزمن، وفق تصريح أستاذ علم الاجتماع محمد نجيب بوطالب لـ"ألترا تونس".

اقرأ/ي أيضًا: نداء تونس.. من الفائز الأكبر في 2014 إلى الانهيار الكبير في 2019

لكنّ ظلّت القبلية إرثًا تاريخيًا لا تزال تبرز تشكلاته في عدّة جهات وتظهر خاصة خلال الخلافات الجهوية والقبلية، لاسيما تلك الخلافات والصراعات التي ظهرت بعد الثورة في عدّة مناطق على غرار سيدي بوزيد والقصرين وقفصة، والتي أدت إلى سقوط عدد من الضحايا. وقد خرج على إثر تلك الأحداث مئات المتظاهرين في مسيرة سلمية احتجاجًا على تنامي النعرات القبلية في عدد من المناطق، رفع خلالها المتظاهرون شعار "تونس جمهورية لا عروشية لا قبلية"، وشعارات للتعبير عن التمسك بقيم الجمهورية والوحدة الوطنية الرافضة لتكريس القبلية وتغذيتها.

ومع كلّ استحقاق انتخابي، تطرح قضية اختلاف الأحزاب والإيديولوجيات والبرامج الحزبية واختلاف العائلات السياسية، وهو أمر بديهي لبناء ديمقراطية الدولة الحديثة القائمة على الاختلافات السياسية. لكن تطرح أيضًا مسألة العروشية وتأثيرها في العملية الانتخابية سواء في صفوف السياسيين الذين لم ينفوا تأثير القبلية على التصويت، معتبرين أنّ العديد من المناطق لم تجرى فيها الانتخابات وفق مقياس البرامج وإنّما تمت عملية الاختيار والتصويت على أساس الولاء العروشي.

باتت مسألة العروشية تطرح كثيرًا خلال أي استحقاق انتخابي وبرزت بشكل لافت كثيرًا خلال انتخابات المجلس التأسيسي وخلال انتخابات سنة 2014

الشهيد محمد البراهمي القيادي السابق في الجبهة الشعبية سبق وتحدّث أيضًا عن تجربته في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، مبينًا أنّ "أبناء عرش الحوامد اصطفوا جميعًا وراء الهاشمي الحامدي، و"العروشية" ظهرت كـ"آلة" تم تشغيلها"، وفق تقديره.

فيما أشار المختص في علم الاجتماع سالم الأبيض إلى العلاقة بين السياسة والقبلية، إذ يبرز المشهد الاجتماعي وفق قوله في استمرار العلاقات "القرابية" والقبلية، مضيفًا أنّ "القيادات والرموز التي برزت في عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي كانت تستغل هذا الواعز بل قدمت على هذا النحو، كما استمرت هذه "الأنساق القرابية" في خضم الثورة. بل كانت لها قوة تأثير وظهر ذلك في التحركات الاحتجاجية التي شهدتها البلاد. كما برزت الظاهرة في انتخابات المجلس التأسيسي أيضًا".

وأوضح أنّ "الأحزاب وكذلك المستقلون لعبوا أيضًا على هذا الواعز، فالمستقل كثيرًا ما يستنجد بالقرابة لأن ليس له كيانًا سياسيًا يدعمه ويحمل معه أثقال العملية الانتخابية وأتعابها، وهو ما يجعلنا نفهم لماذا صوت أبناء سيدي بوزيد بكثافة للهاشمي الحامدي ابن الجهة ونظرًا للتأثير البالغ الذي كان يقوم به هناك. وليست مبالغة إن قلنا أنّ البعض من رؤساء القائمات لم يكن لهم حظ في النجاح والوصول للتأسيسي وأعلنوا ذلك صراحة دون استنجادهم بالواعز العروشي".

محللون وسياسيون أكدوا أنّ لمسألة "العروشية" تأثير كبير على الانتخابات التشريعية وحتى البلدية لكن وجهات نظر أخرى ترى أنّ العديد من الأحزاب تمّ اختيارها في مختلف الدوائر وهو ما يؤكد، وفقهم، ضعف تأثير منطق القبلية على الانتخابات على أرض الواقع.

القبيلة والانتخابات البلدية 2018

باتت مسألة العروشية تطرح كثيرًا خلال أي استحقاق انتخابي وبزرت كثيرًا خلال انتخابات المجلس التأسيسي، لكنّ نظرية العروشية بدت طاغية في خطابات السياسيين والمحللين خصوصًا في الانتخابات البلدية لسنة 2018.

وحتى بعض الناخبين يرون أنّ لمسألة العروشية تأثيرًا كبيرًا في نوايا التصويت، فقد كتب أستاذ علم الاجتماع عبد الرحمان مرساني قبيل الانتخابات البلدية تدوينة ذكر فيها تواتر شعار "نفكوا البلدية" ليصفه بالشعار المخيف الذي رفع في العديد من الجهات وهو "من المظاهر التي تخيف اليوم عودة النّعرات القبليّة والعشائريّة في بعض الجهات بمناسبة الانتخابات البلدية، حيث تمت ملاحظة رغبة كل عرش في تكوين قائمة بلدية "لافتكاك البلديّة" هكذا وبكل صلف للتحكّم بمصير العرش المقابل وعدد لا يستهان به من السكان ممـن يعدّون في اختلاف مع هذا العرش أو ذاك".

ويضيف "خوف كبير ينتابتي على مصير وطني من أن يكون الحكم المحلًي عنوانًا ومدخلًا لتفكك الدولة وفقًا للمنهج الذي سطرته الدوائر الهيمنية في إطار ما يعرف بالشرق الأوسط الكبير ونظرية الفوضى الخلاقة. لذا أملي كبير في أن يكون الناخب على بينة من هذه المسألة الخطيرة وأن لا يصوّت إلاّ على القائمات المواطنية الفعليّة لأنها صمــّام الأمان للوحدة الوطنيّة".

اقرأ/ي أيضًا: الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.. ماهي تركيبتها ومهامها؟

نظرية التصويت وفق المنطق القبلي لم ينفها حتى المشرفون على العملية الانتخابية

فيما ظهر في سبر آراء في سبتمبر/ أيلول 2017، قامت به أكاديمية الحوار الوطني، حول موجهات نوايا التصويت في الانتخابات البلدية، أن حوالي 53 في المائة من المستجوبين يرون أن التصويت سيكون على أساس الانتماء الحزبي، مقابل 43 في المائة من المستجوبين الذين يرون أن التصويت سيكون وفق الانتماء العائلي والقبلي والعروشية.

نظرية التصويت وفق المنطق القبلي لم ينفها حتى المشرفون على العملية الانتخابية، فقد أشار عضو  الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عادل البرينصي، في تصريح لـ"الترا تونس" الثلاثاء 1 ماي/ أيار 2018، إلى وجود نشاط مهم في الحملات الانتخابية إذ تمّ تسجيل 16 ألف نشاط في كامل تراب الجمهورية التونسية لافتًا إلى وجود عوامل أخرى كالقرب والقرابة والعروشية في بعض الأحيان التي ستؤثر على نسبة الإقبال على التصويت.

لكن ما تمت ملاحظته خلال الانتخابات الأخيرة سواء الرئاسية أو التشريعية أنه لم يقع الحديث عن القبلية وتأثيرها في الاستحقاق الانتخابي هذه المرة. ولم يصدر أي محللون آراء بخصوص إمكانية أن يكون للعروشية دور كبير في التأثير على الانتخابات.

رئاسيات وتشريعية 2019

ويبدو أن الانتخابات الرئاسية التي أحدثت المفاجأة غيّرت عدة معطيات. فكما أنهت سطوة بعض الأحزاب وسيطرتها خلال الانتخابات الماضية، فقد قوضت في جانب كبير منها نظرية التصويت وفق منطق القبيلة أو الجهوية. فالمترشح عبد الكريم الزبيدي فاز بأكثر الأصوات في ولايتي سوسة والمنستير، إلا أن بقية المترشحين لم يتحصلوا على أعلى نسب تصويت في الجهات التي ينتمون إليها.

 سقطت في الانتخابات التشريعية عدة أسماء صعدت في انتخابات سابقة وفق منطق القبلية وبذلك يكون قد تم تقويض منطق الولاء للعشائرية

وإن لم يقع الحديث عن مسألة العروشية خلال الحملة الانتخابية التشريعية، فإنه يبدو أيضًا أن هذه الانتخابات قد غيرت عدة معطيات مقارنة بانتخابات 2014. فإن حافظت حركة النهضة صاحبة أكثر المقاعد على مكانتها الأولى خصوصًا في مناطق الجنوب، فقد فقدتها في عدة مناطق أخرى مقابل صعود أحزاب وائتلافات جديدة. كما سقطت معها عدة أسماء صعدت في الانتخابات القديمة وفق منطق القبلية لكنها سقطت اليوم لتقوض منطق الولاء للعشائرية. ويبدو أن ثقة الناخبين في الأحزاب القديمة وقياداتها تراجعت لتراهن على  أسماء جديدة خارج المنطق الحزبي أو العشائري.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تكوين الحكومة بعد الانتخابات.. هذه هي المراحل والفرضيات

"بيزنس" الانتخابات.. مهن وخدمات تنتعش في المواسم الانتخابية