مقال رأي
باتت كلمة الفساد من أكثر المفردات استعمالًا في تونس منذ سنة 2011، وقد تواترت هذه المفردة في الخطاب السياسيّ والدينيّ والأخلاقيّ والاقتصاديّ والأمنيّ والثقافيّ حتّى تحوّلت إلى أكثر الألفاظ توظيفًا وإثارة في الحملات الانتخابيّة والجدالات البرلمانيّة والمنابر التلفزيّة.
كلمة فساد كانت في اللهجة التونسيّة والثقافة المحليّة وثيقة الصّلة بالجانب الأخلاقي، فهي تحيل في أذهان العامّة إلى الزناة والمتحرّشين والمقامرين والمدمنين على الخمرة والمتفوّهين بكلام "يخرج عن الأخلاق الحميدة"...
باتت "مقاومة الفساد" شعارًا ترفعه جميع الأطراف تقريبًا في الحكم والمعارضة حتّى من قبل المشبوهين والمورّطين في قضايا التهرّب الضريبيّ والاختلاس وتبييض الأموال
اقرأ/ي أيضًا: بؤس الحرية: في الرد على مغالطات "بارونات" الإعلام
بعد إحداث لجنة تقصّي الحقائق عن الفساد والرشوة سنة 2011، اتّسعت دوائر الوعي بهذه الظاهرة لدى جلّ المواطنين، فخرجوا من غفلتهم، وتحرّروا من تصوّراتهم الضيّقة، وتفطّنوا إلى أنّ الفساد الأخلاقيّ الفرديّ أدنى خطورة من "الفساد الأكبر"، فساد البارونات والمؤسّسات، فالأوّل غالبًا ما يكون غريزيًّا تلقائيًّا آنيًّا يمكن محاصرته والحدّ منه حتّى إن تواتر وتكرّر، أمّا الثاني فهو شديدٌ متين له دعائم سياسيّة وتشريعيّة واقتصاديّة يخضع إلى تدبير دقيق عميق مفصّل مُركّز، وتُستخدم فيه أداوت تضاهي أو تفوق ما تستخدمه الحكومات في برامجها الاستراتيجيّة وأنشطتها الاستخباراتيّة ومخطّطاتها طويلة المدى.
محاربة الفساد في مهبّ الشعارات والمزايدات
تأكّد الجميع من خطورة الفساد وحجمه المتعاظم ونفوذه المتزايد وتغلغله في سائر المجالات والقطاعات، فعلا صوت المنادين بالتصدّي لكبار الفاسدين وعرّابيهم وأجهزتهم وأبواقهم وألسنتهم، وسرت على الأفواه بعض الأسماء والرموز المشبوهة المعروفة منذ عهد بن علي، وانخرطت الحكومات في هذا الخطاب، وأعلن يوسف الشاهد رئيس الحكومة حربه على الفساد في ملفوظ حماسيّ أريد له أن يكون ذا صدى واسع، جاء فيه ما معناه " إمّا أنا أو الفساد، إمّا تونس أو الفساد، وقد اخترتُ تونس".
وظنّ المتابعون من البسطاء والسّذج أنّهم سيقومون كلّ يوم على مئات الإيقافات والمحاكمات المشفوعة بالتنفيذ العاجل، فالفساد في تونس مكشوف مفضوح مهتوك سرّه ملقى على الطريق لا يحتاج إلى مجهود استثنائيّ في الإثباتات والتحريّات، لكن ماذا لو تحوّل شعار مقاومة الفساد إلى مطيّة للمناكفات والمغالطات والمزايدات؟
"مقاومة الفساد" باتت شعارًا ترفعه جميع الأطراف تقريبًا في الحكم والمعارضة، حتّى المشبوهون والمورّطون في قضايا التهرّب الضريبيّ والاختلاس وتبييض الأموال والسرقة انخرطوا في رفع هذا الشعار، وهو ما جعله يفقد صرامته الدلاليّة وقيمته التمييزيّة، فتصيبه حالات من التلبيس والتمييع والتبخير.
والمنصت إلى الأصوات المنادية بمقاومة الفساد بإمكانه تقسيمها إلى أربع فئات مختلفة في المقاصد المرجعيات.
أمّا الفئة الأولى فهي تبدو متّصفة بالنبل والطهارة والعفّة، وهي أقرب إلى المثاليّة تحرّكها أو هكذا يدّعي أصحابها دوافع وطنيّة وإنسانيّة وأخلاقيّة، غير أنّها تبدو حالمة واهمة أحيانًا، فهي تحسب أنّ الثورة كفيلة بدحر الفاسدين ونصرة الصالحين نصرًا كاسحًا سريعًا فريدًا سحريًّا، وحالما تكتشف هذه الفئة ما بلغه الفساد في تونس من انتشار وتغلغل وشراسة وتعقيد تصاب بدهشة، تتبعها صدمة، فيأسٌ يفضي إلى العزوف عن الفعل السياسيّ والإعراض عن الشأن الاجتماعيّ والإقبال على ضرب من الزهد والانطواء.
الفئة الثالثة من مدّعي محاربة الفساد يحرصون على تضخيمه في نفوس الناس وأذهانهم
اقرأ/ي أيضًا: الشباب التونسي.. قوة تتصاعد بين ماكينتيْن
هذه النتيجة سببها تصوّر وجوديّ قائم ثنائيّة حادّة فاصلة قطعيّة بين الصلاح والفساد، إمّا أن يسود هذا أو يعمّ ذاك، والحال أنّ صلاح الكون على حدّ تعبير الجاحظ الأديب العربيّ يكمن في "امتزاج الخير والشر والضارّ بالنافع والمكروه بالسارّ والضعة بالرفعة.."، وبناء على ذلك فإنّ فضل الإنسان من منظور وجوديّ لا يكمن في بلوغ تلك القيم المطلقة من حريّة وسعادة وعدل وغيرها، إنّما يكمن في ذاك الجهد المتواصل، هذا التصوّر المعتدل الموضوعيّ كفيل بجعل المناضل أو المجتهد في أيّ مجال لا يعلّق همّته بالنتائج العاجلة، فلا يصيبه عند أوّل كبوة ما أصاب هؤلاء الحالمين الطوباويين.
الأخطر من كلّ ذلك أنّ المنتمين إلى هذه الفئة لا يختارون الانطواء فقط، ففيهم من يدفعه التطرّف في طلب الخير إمّا إلى الاستخفاف بكلّ مجهود إصلاحيّ أو إلى العنف والإرهاب، فتخرج من تلك النفس الهادئة الوديعة روح شرّيرة عدائيّة دمويّة.
حينما تصبح "مقاومة الفساد" أصلًا تجاريًّا
الفئة الثانية من بين المتغنّين بمقامة الفساد، هي تلك التي حوّل أصحابها هذا الشعار إلى أصل تجاريّ انتخابيّ، إذ لا يرفع لغابات مبدئيّة، إنّما يتمّ الاحتكام إليه لإحراج الخصوم وابتزازهم، فينتهي الأمر إلى أسلوب أقرب إلى القنص الذي لا يستهدف الفساد عامّة بأسلوب منهجيّ علميّ أو وفق خطّة استراتيجيّة، إنّما المستهدف فيه شخص بعينه أو مجموعة أشخاص أو حزب، هؤلاء سرعان ما يفتضح أمرهم، فيوصفون إمّا بالتعسّف أو الانتقائيّة أو التشفّي أو التطاوس أو الإيهام والمغالطة، فتفقد معهم مقاومة الفساد بعدها الوطنيّ الحقوقيّ الإنسانيّ لتتخذ ملمحًا فرديًّا أو انفعاليًّا أو مصلحيًّا ضيّقًا.
الفئة الثالثة من مدّعي محاربة الفساد، يحرصون على تضخيمه في نفوس الناس وأذهانهم، فيعرضون مظاهره، ويعدّدون عيّناته، ويتقصّون علاماته حتّى إن بدت مستورة بعيدة عن الأنظار، ويتوخّون في كلّ ذلك ألوانًا من الاستدراج المفضوح، كأن يحدّثك عن فتاة تمّ اغتصابها أو محلّ وقع خلعه أو حادث جدّ هنا أو هناك، ثمّ سرعان ما يقفز إلى تبيان الأسباب والمسبّبات، فينتهي بأسلوب متعسّف متهافت إلى ردّ تلك المفاسد جميعها إلى مخلفات الثورة.
لا شكّ أنّ الفساد في تونس قد بلغ مرتبة "الأزمة الشاملة" وبناء على ذلك فإنّ الحرب عليه ينبغي أن تتسلّح فضلًا عن الصدق والعزم بأدوات وأجهزة قويّة ناجعة
الفئة الرابعة هي تلك التي يعتقد أصحابها أنّ الجميع دون استثناء منخرطون في الفساد "الخاصّة وخاصّة الخاصّة والعامّة وعامّة العامّة"، هذا الاعتقاد دعّمته بعض تصريحات عبد الفتّاح عمر الذي ترأس لجنة تقصّي الحقائق عن الفساد والرشوة وواصل نفس المهمّة في الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد إلى أن توفّي في 2 مارس/ آذار 2012.
وفاة مازال الكثيرون يصنّفونها ضمن عمليّات الاغتيال، وقد تحوّل ذاك الحكم إلى يقين أقامت الدليل عليه تقارير فاضحة وأرقام صادمة صوّرت الفساد أعدل الأشياء توزيعًا بين الحكّام والمواطنين في تونس، وهو ما أفضى إلى عدول عن المواجهة التقليديّة بين الصالحين والفاسدين إلى مواجهة بين لوبيّات الفساد، وقد تفطّن التونسيون "الواقفون على الربوة" إلى هذا الأمر، فعبّروا عنه بأمثال وأقوال ذات مرجعيّات مختلفة منها " فخّار يكسّر بعضه" "خلّي ياكلو بعضهم"، كما استأنس البعض منهم بدعاء جاء فيه " اللهم اضرب الظالمين بالظالمين، وأخرجنا من بين أيديهم سالمين".
وقد حضرت هذه الملفوظات خاصّة في مواقع التواصل الاجتماعيّ المعادية لنداء تونس أكثر الأحزاب استقطابًا لرجال الأعمال في انتخابات 2014، بل ثمّة من يرى أنّ هذا الحزب قد تكوّن لمقصد ظاهر هو التصدّي لتغوّل حركة النهضة ومقصد خفيّ هو حماية الفاسدين بتمتيعهم بالحصانة أوّلًا وبتمرير قانون المصالحة الاقتصاديّة ثانيًا، وحينما اطمأنّ هؤلاء إلى بلوغهم مرسى النجاة تحوّلوا إلى شقوق ومجموعات كلّ يطالب بحظّه في الحكم والصفقات والمحاصصات سائلًا في صفاقة وعناد أين "نصيبي من الفساد"؟
لا شكّ أنّ الفساد في تونس قد بلغ مرتبة "الأزمة الشاملة" وبناء على ذلك فإنّ الحرب عليه ينبغي أن تتسلّح فضلًا عن الصدق والعزم بأدوات وأجهزة قويّة ناجعة تدعمها الهبّة الشعبيّة والإرادة السياسيّة.
اقرأ/ي أيضًا: