12-أكتوبر-2019

مناظرة تلفزيونيّة تابعها التونسيّون بانفعال وتفاعل وتهيّج عصبيّ يضاهي ما يحدث في المباريات التتويجيّة الحاسمة (ياسين القايدي/ الأناضول)

مقال رأي

 

تصافح نبيل القروي رئيس قلب تونس وقيس سعيّد المترشّح المستقلّ بعد مناظرة تلفزيونيّة تابعها التونسيّون بانفعال وتفاعل وتهيّج عصبيّ يضاهي ما يحدث في المباريات التتويجيّة الحاسمة الساخنة في كرة القدم، بلغ الجدال والسجال والتنابز ذروته ليلة الثاني عشر من أكتوبر/تشرين الأوّل 2019 ، إذ عبّر الأنصار والخصوم في المقاهي والساحات ومواقع التواصل الاجتماعيّ عن آرائهم بمنتهى التلقائيّة والحريّة، واتّخذ الخطاب درجات وألوانًا في العمق والتحليل، كلمات موجزة وملاحظات برقيّة، وآراء معمّقة، وتعليقات ساخرة.

إنّه زمن التفكير الحرّ والتعبير المباح، زمن بدا فيه التونسيّون في لحظات انتقام من الصمت الرّهابيّ الذي سلّط عليهم أيّام الاستبداد، صمت الخوف والفزع والحيطة، صمت كانت قد فرضته سياسة تكميم الأفواه ومصادرة الأنفاس. مضى زمن الصمت الرّهابيّ الاضطراريّ وحلّ زمن الصمت الانتخابيّ الاختياريّ، فحينما يلتزم المواطن بقانون سَنّه بنفسه يغدو هذا الالتزام آية من آيات الحريّة وفق تصوّر باروخ سبينوزا أحد فلاسفة القرن السابع عشر.

إنّه زمن التفكير الحرّ والتعبير المباح، زمن بدا فيه التونسيّون في لحظات انتقام من الصمت الرّهابيّ الذي سلّط عليهم أيّام الاستبداد، صمت الخوف والفزع والحيطة

يمضي التونسيين بُعيد كلّ حملة انتخابيّة إلى الصمت الانتخابيّ إثر بلوغ أعلى درجات الاكتفاء والارتواء من الإفصاح والإيضاح والإبانة والإبلاغ باعتماد سائر الوسائط، وقد ضبط القانون الأساسيّ الانتخابيّ هاتين الفترتين ضبطًا دقيقًا، فالحملة الانتخابيّة أو حملة الاستفتاء تعرّف وفق النقطة الخامسة من الفصل الثالث من هذا القانون بكونها " مجموع الأنشطة التي يقوم بها المترشحون أو القائمات المترشحة أو مساندوهم أو الأحزاب خلال الفترة المحددة قانونًا، للتعريف بالبرنامج الانتخابي أو البرنامج المتعلق بالاستفتاء باعتماد مختلف وسائل الدعاية والأساليب المتاحة قانونًا قصد حث الناخبين على التصويت لفائدتهم يوم الاقتراع". وفي النقطة الموالية من نفس الفصل يحدّد المشرِّع الصمت الانتخابيّ تحديدًا زمنيًّا في عبارة وجيزة نصّها "هي المدة التي تضمّ يوم الصمت الانتخابي ويوم الاقتراع إلى حدّ غلق آخر مكتب اقتراع"، بهذا يصبح الصمت في هذه الفترة المحدّدة آية تمدّن وتحضّر ووعي والتزام.

اقرأ/ي أيضًا: للثورة صناديق تحميها

صوت المناضلين وصمت الشياطين

لا شكّ أنّ للصمت مواضع يغدو فيها آية نبل وحياء وعلامة عفّة وترفّع وبرهان تأمّل وتسامح، وهو ما أثمر في المدوّنة الفقهيّة والأدبيّة والأخلاقيّة إشادة واسعة متنوّعة بهذا السلوك.

في المقابل، يعتبر الصمت في مقامات النضال والمقاومة ضربًا من السكوت عن الحقّ وخذلان للأشراف وتخلّف عن الزحف النقديّ والاحتجاجي، فيتحوّل السكوت حينئذ خاصّة حينما تتّضح الرؤية وتتعرّى الحقائق إلى أمارة جبن وأنانيّة وتواطؤ، بل يمكن اعتباره "خرسًا شيطانيًّا"، فلا يرث الجانح إلى الصمت غير المذلّة والاحتقار والخسران، فتراه عند سقوط النظام المستبدّ يسعى سعيًا محمومًا إلى التعويض والتدارك، فتخرج الكلمات من أفواه المستجديّن في عالم النقد والتقييم مشوّهة مشبوهة أقرب إلى الهذر والثرثرة والهراء.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا يصوّت الشباب بكثافة لقيس سعيّد؟

لم يكن التغنيّ بالصمت في الأنظمة المستبدّة موضوعيًّا علميًّا رغم المبرّرات الدينيّة والجماليّة والفكريّة التي يستند إليها، فالأحاديث النبويّة التي تحثّ على الصمت كانت ترد مبتورة من سياقاتها ومقاماتها، فهي في الأصل تدعو إلى الكفّ عن الكلام الخالي من الوجاهة والفائدة أو المشوب بالأكاذيب والذنوب، هذا ما يفهمه العقلاء من قول الرسول الأكرم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" ( رواه البخاري ومسلم...).

في هذا السياق، يندرج موقف العديد من المفكّرين الذي خيّروا الكلام على الصمت فقد خصّ الجاحظ الأديب العربيّ هذا الموضوع برسالة سمّاها " تفضيل النطق على الصمت"، وقال فيها: " إنّي وجدت فضيلة الكلام باهرة ومنقبة المنطق ظاهرة من خلال كثيرة منها...أنك لا تستطيع الإبانة عن حاجتك والإبانة عن مأربك إلا باللسان".

لا عجب أن يتشبّث الجاحظ بهذا الموقف وهو المنتمي إلى فرقة المعتزلة التي كانت في عصره أحرص ما تكون على تكريس النزعة العقليّة والفكر النقديّ في مواجهة كلّ صنوف التقليد والانصياع والاتباع.

صمت العاجزين وصوت المأجورين

يمكن للقائد أو السياسيّ أن يجنح إلى الصمت موهمًا الناس بترفّعه عن الخوض في المهاترات، ولكن متى ألزم بالحضور في برنامج تلفزيّ مباشر أو مناظرة مفتوحة افتضح أمره وهتك سرّه وبانت عيوبه للجميع سواء تعلّق الأمر بأفكاره أو برامجه أو أساليبه في التفكير والتدبير والتعبير، فيسقط حينئذ من عيون أنصاره، ويتحقّق خصومه من عجزه، في المقابل يمكن لبعض القادة والمحللين والمفكّرين أن يمتلكوا فصاحة فائقة تختلط بالخبث والدهاء، فتنحرف اللغة معهم عن أهدافها الأصليّة، ويصبح الكلام أخطر من الصمت طمسًا وتعتيمًا وإخفاء، فحاجة الأنظمة المستبدّة إلى تكميم الأفواه لا تقلّ عن حاجتها إلى إطلاق ألسنة يتمّ استئجارها لتزوير الوقائع الساطعة وتشويه الاحتجاجات الشرعيّة وتقبيح الانتفاضات المطالبة بالكرامة والحريّة.

صحيح أنّ الحقيقة لا تحتاج إلى مزمار، لكنّها في بعض المراحل والملابسات تصبح في أمسّ الحاجة إلى كلّ أجهزة التأثير والإضاءة والتنوير

تعتمد الأصوات المأجورة ذات المهارات اللسانيّة الأساليب النمطيّة من تخوين وتأثيم وتشكيك في النوايا تصل حدّ التكفير في نظام تيوقراطيّ أو الاتّهام بالتشدّد والإرهاب في حكم أوتوقراطيّ، ولمّا أصبحت هذا المسالك مفضوحة مالوا إلى ضروب أخرى من التزييف منها "تبخير الواقع وتفريغه من مضمونه" كأن يقع تنزيل كلّ ما يحدث من نزعة نحو التغيير ضمن مسارات إنسانيّة كونيّة تحرّكها أجهزة خفيّة، ويستشهد المتحدّثون المتحذلقون بمصادر علميّة دقيقة وبحوث أكاديميّة عادة ما يتمّ تحريفها، الغاية من هذا الخطاب تعطيل كلّ رغبة في النهوض بالواقع الوطنيّ السياسي والاقتصادي والثقافي وإفقاد هذه الرغبة دوافعها الخاصّة والملحّة والصّادقة والعفويّة، فيدبّ الشكّ في المتعاطفين والأنصار، ويتم الزجّ بقادة المشاريع الإصلاحيّة أو الثوريّة في زوايا الاتهام والمساءلة والاستخفاف، وهو ما يقتضي جهدًا خطابيًّا أوضح وأشدّ تأثيرًا لحماية هذه المسارات.

صحيح أنّ الحقيقة لا تحتاج إلى مزمار، لكنّها في بعض المراحل والملابسات تصبح في أمسّ الحاجة إلى كلّ أجهزة التأثير والإضاءة والتنوير لحمايتها من التلفيق والاختلاق والتلبيس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الدولة في خطر.. خطاب الأزمة لدى نخب السيستام

عن القضايا المنسية في البرامج الانتخابية...