14-أبريل-2019

تحوّل الحزب إلى عبء على التجربة الديمقراطية (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

مقال رأي

 

انتهى مؤتمر حركة نداء تونس في المنستير الذي كان يعوّل عليه للم ما تبقى من الشمل ولإصلاح ما أفسد خلال السنوات الماضية التي تلت الفوز الانتخابي في سنة 2014 دون التوصل إلى اتفاق واسع أو إنجاز عملية ديمقراطية داخلية ذات مصداقية.

فعلى الرغم من محاولات الإيهام بنجاح المؤتمر وبداية تجاوز الحزب لأزمته العميقة التي أدت به إلى اهتراء شعبيته وإشعاعه وطنيًا وجهويًا ومحليًا، فإنّ كلّ التطورات التي تلت حدث الإعلان عن النتائج لاسيما في علاقة بتركيبة اللجنة المركزية والمكتب السياسي تؤكد محدودية ما تحقق صلب حركة نداء تونس.

زاد مؤتمر المنستير في انفراط عقد العائلة الندائية بعد أن تتالت الانسحابات والاستقالات والطعون في نزاهة العملية الانتخابية الشكلانية التي جرت. كما فشلت محاولات رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي مؤسس الحزب في رأب الصدع وترميم ما يمكن ترميمه قبل فوات الأوان لاسيما مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية المرتقبة خلال نهاية العام الجاري.

زاد مؤتمر المنستير في انفراط عقد العائلة الندائية بعد أن تتالت الانسحابات والاستقالات والطعون في نزاهة العملية الانتخابية الشكلانية

لقد أثبت مؤتمر حركة نداء تونس في المنستير أنّ ما يبنى على باطل فهو باطل بالضرورة. فالأجواء التي سبقت العملية الانتخابية المزعومة كانت جلّها تشير إلى غياب احترام الشروط التي حددت للترشح للمناصب المؤسساتية القيادية في الحزب وهي في حقيقة الأمر وضعت على مقاس أشخاص بعينهم وفق ترتيبات موازين القوى الداخلية ومساعي التموقع في القائمات الانتخابية المنتظرة لاسيما في علاقة بالانتخابات التشريعية. نفس الانتقادات طرحت أيضًا في علاقة بقائمة المؤتمرين وكيفية اختيارهم ومستواهم السياسي.

لا غرابة في القول إنّ نداء تونس قد فقد منذ مغادرة الباجي قائد السبسي للحزب نحو قصر قرطاج الشخصية الكاريزماتية الوحيدة التي كانت قادرة على تجميع متناقضات كانت قد سمحت سياقات فترة حكم الترويكا بتوحيدها لتحقيق هدف رئيسي وهو الإطاحة بحكم حركة النهضة أو على الأقل كسر شوكتها.

اقرأ/ي أيضًا: هل قرأت الدستور يا السبسي أم على قلوب أقفالها؟

ما يحسب للباجي قائد السبسي رغم كلّ المؤاخذات التي توجه إليه أنّه حقّق ما يشبه المعجزة السياسية حينما نجح في القفز بنداء تونس من حزب قيد التأسيس في سنة 2012 إلى حركة سياسية كبيرة ضمت في وقت وجيز عشرات الآلاف من الكوادر والمنخرطين والأنصار وتمكنت من الإطاحة بحركة النهضة في التشريعيات الفارطة علاوة عن الفوز بالانتخابات الرئاسية.

لكن سرعان ما تحوّل الحزب إلى عبء على التجربة الديمقراطية بفعل الأزمات التي عاشها والتي تسببت في تشظيه وتصدير مشاكله إلى مؤسسات الدولة وهو ما عطّل مسيرة الإصلاحات الضرورية لاسيما التشريعية والاقتصادية والاجتماعية الكبرى.

كان قرار ترحيل الحسم في عقد المؤتمر الانتخابي الاول لنداء تونس إلى ما بعد انتخابات 2014 خوفًا من إمكانية حصول انقسام داخلي بمثابة الخطيئة الأولى التي تمخضت عنها بذور أزمة بنيوية صلب الحزب انفجرت مباشرة بعد الوصول إلى السلطة وبروز صراع حول غنيمة المناصب والامتيازات. وقد تعمقت الأزمة بعد الانقلاب على التعهد الانتخابي بعدم التحالف مع حركة النهضة وهو قرار كان بمثابة "الخيانة العظمى" لأصوات الناخبين الذين تمّ التلاعب بهم تحت يافطة التصويت المفيد.

لقد مثّل قرار التحالف مع حركة النهضة مباشرة غداة الانتخابات نتيجة لعوامل تداخلت فيها التأثيرات الخارجية مع المعطيات والإكراهات الوطنية المحلية الإسفين الأول الذي دقّ في نعش حركة نداء تونس التي أضحت وقتها عاجزة عن ترتيب شؤون بيتها الداخلي.

مثّل قرار التحالف مع النهضة مباشرة غداة الانتخابات الإسفين الأول الذي دقّ في نعش حركة نداء تونس

فشلت بعد ذلك محاولات التدارك حينما تم التوصل إلى عقد مؤتمر توافقي في سوسة مطلع سنة 2016 كتتويج لمسار عمل لجنة الـ 13 التي شكلها الرئيس الشرفي للحزب الباجي قائد السبسي بقيادة يوسف الشاهد الذي كوفئ لاحقًا بمنصب رئيس الحكومة إثر نجاح مخطط الإطاحة بحبيب الصيد وحكومته لأسباب غاب فيها التقييم الموضوعي وحضرت فيها المصالح الضيقة.

عجز نداء تونس عن تطبيق الحدّ الأدنى من برنامجه الانتخابي وانبرت قياداته إلى معارك كسر عظم داخلية انتهت بفرض نجل الرئيس المؤسس للحزب حافظ قائد السبسي لسطوته بطرق لا ديمقراطية وفق منطق الموروث المخزني التي ترجمته مقولة "الباتيندا" رغم ضعف تجربته السياسية ومحدودية كفاءته في الزعامة والخطابة والرؤية الاستشرافية.

دخل وقتها نداء تونس مرحلة من العبث السياسي لا فقط على المستوى الداخلي الحزبي بل أيضًا على مستوى سير مؤسسات الدولة والمسار الانتقالي الديمقراطي ككل الذي أصبح رهينة لدى طغمة من القيادات والنواب الذين طالتهم اتهامات بالفساد والتلاعب بمستقبل البلاد. وهو ما عجّل باستقالة قيادات بارزة من جيل المؤسسين من الذين اختاروا تأسيس كيانات سياسية جديدة من قبيل حركة مشروع تونس وحزب "تحيا تونس" و حزب بني وطني و"تونس أولًا" وحزب المستقبل على أنقاض الخراب الذي خلفه نداء تونس بعد أن تحوّل إلى مطيّة لتحقيق مآرب وأطماع فئوية وشخصية على قاعدة الولاء الأعمى والزبونية والانتهازية.

اقرأ/ي أيضًا: "تحيا تونس".. موسم الصيد بالكركارة

فقد نداء تونس على امتداد تجربة الحكم بريقه وجاذبيته وقد تجلى ذلك خاصة في الانتخابات البلدية الأخيرة التي مني فيها الحزب بهزائم كبرى من قبل غريمه حركة النهضة علاوة عن القائمات المستقلة التي أطاحت به في عديد الدوائر الانتخابية رغم محاولات ترميم الواجهة التي قام بها من خلال انتداب شخصيات قيادية على غرار تعيين الإعلامي برهان بسيس مستشارًا سياسيًا في الحزب لخوض المعركة الاتصالية على وجه الخصوص.

كانت سنة 2018 عنوانًا لأوج أزمة سياسية حادة في البلاد بطلها حزب نداء تونس الذي انقلب بين عشية وضحاها من أوّل الداعمين لحكومة يوسف الشاهد إلى أشد المطالبين برحيلها. عاشت البلاد طيلة أشهر على وقع حرب طاحنة بين نجل رئيس الجمهورية حافظ قائد السبسي المدير التنفيذي للحزب ورئيس الحكومة يوسف الشاهد الرئيس السابق للجنة الـ13 وأحد قيادات النداء وقد وظفت فيها مقدرات الدولة وكلّ الأسلحة بما فيها ذلك الملفات القضائية والأجهزة الإعلامية العمومية والخاصة. كان ذلك على حساب مصالح التونسيين الذين تفاقمت أزمتهم الاقتصادية والاجتماعية فزادت حيرتهم بخصوص مستقبل البلاد والتجربة الديمقراطية ككل.

عجز نداء تونس عن تطبيق الحدّ الأدنى من برنامجه الانتخابي وانبرت قياداته إلى معارك كسر عظم داخلية انتهت بفرض نجل الرئيس لسطوته بطرق لا ديمقراطية

فشلت مساعي الاطاحة بحكومة الشاهد رغم كلّ المناورات والنيران الصديقة. وانتقل بعدها النداء إلى صفّ المعارضة محاولًا التبرؤ من حصيلة الحكم وتوجيه أصابع الاتهام إلى حليفه في السلطة حركة النهضة ولكن ممثليه في الحكومة اختاروا الانحياز إلى صفّ يوسف الشاهد وبالتالي البقاء في مناصبهم قبل أن نسجل حضور عدد منهم في تركيبة المكتب السياسي الجديد المنبثق عن مؤتمر المنستير في ضرب واضح لكلّ أخلاقيات العمل السياسي والأعراف الحزبية.

انتهت أيضًا العملية الاندماجية مع حزب الاتحاد الوطني الحرّ بطلاق قد يكون الأسرع في تاريخ تجارب الانصهار السياسي في تونس. وقد انتهى الأمر بسليم الرياحي الذي منح منصب الأمين العام للنداء بالهروب إلى خارج البلاد بعد أن بات محلّ تتبعات قانونية وهو الذي رفع عنه قبل ذلك تحجير السفر حينما كان داعمًا ليوسف الشاهد وحكومته بفضل ما يمتلكه من تمثيلية نيابية في البرلمان. بيد أنّ عددًا من قيادات ونواب حزبه الاتحاد الوطني الحرّ الذي أعلن انفصاله لاحقًا عن النداء نجد لهم اليوم موطئ قدم في تركيبة القيادة الجديدة التي أفرزها مؤتمر المنستير.

إنّ المتأمل في مخرجات مؤتمر المنستير الذي تحوّل معه الحزب إلى نداء طلبة حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل حيث لم تعد المؤسسات القيادية قادرة على احتواء مختلف الروافد التي نجح في تجميعها الباجي قائد السبسي في المرحلة التأسيسية الجنينية يلاحظ حالة الانهيار والرداءة التي وصل اليها نداء تونس. فقد فشل النداء في استقطاب كفاءات جديدة قادرة على إعطائه جرعة من الأكسجين التي يمكن أن تساعده على دخول الانتخابات التشريعية القادمة بقدرة أكبر على المنافسة السياسية مع حركة النهضة لاسيما بعد أن انفض من حوله الآلاف من المنخرطين والأنصار الذين قفزوا إلى سفن أخرى بحثًا عن طريق الخلاص في ظلّ صعود نجم حركة "تحيا تونس" والحزب الدستوري الحرّ بقيادة عبير موسي في عمليات سبر الأراء.

الأغرب من كلّ هذا هو وجود تيار واسع في القيادة الجديدة المنبثقة عن مؤتمر المنستير يميل إلى إعادة مدّ الجسور مع يوسف الشاهد رغم كلّ ما حصل من استنزاف وإهدار للطاقات عطّلت مسيرة تقدّم البلاد والاستجابة لحاجيات المواطنين. فقرار رفع التجميد عن الشاهد رغم عدم أهميته من الناحية التنظيمية، يعكس دلالات سياسية قد تيّسر عملية فهم طبيعة التحالفات القادمة لاسيما في علاقة بالانتخابات الرئاسية التي من المستبعد أن يجدد فيها الباجي قائد السبسي الترشح لعهدة ثانية ومع تواصل صعود الشعبية الانتخابية لحاكم القصبة الحالي بفضل الماكينة الإعلامية التي تشتغل ليلًا نهارًا علاوة عن دعم لوبيات مؤثرة في العملية السياسية لها شأن مالي واقتصادي كبير.

من المؤكد أنّ الوضع الذي آل إليه النداء هو مرآة عاكسة لمرحلة الأفول والضمور والحشرجة التي أضحى عليها الحزب

من المؤكد أنّ الوضع الذي آل إليه النداء هو مرآة عاكسة لمرحلة الأفول والضمور والحشرجة التي أضحى عليها الحزب. فمحاولة طي صفحة هيمنة حافظ قائد السبسي على الحركة لا تعني بالضرورة تجاوز أصل الداء الذي ألمّ بالنداء. إذ أنّ وجود قيادة فاقدة للمصداقية الشعبية والقدرة على لمّ الشمل والجرأة للشروع في إصلاحات عميقة سيؤدي بالضرورة إلى مزيد التفكك حتّى وإنّ تمّ وضع مخطط شبيه بالبريسترويكا (أي إعادة البناء) التي تمت في أواخر عهد ميخائيل غورباتشوف على رأس الحزب الشيوعي ودولة الاتحاد السوفياتي.

يكفي في نفس الإطار التمعن فيما كتبه القيادي في الحزب خالد شوكات صاحب كتاب "نداء تونس: 5 سنوات من العطاء" الذي اعتبر أنّ مخرجات مؤتمر المنستير أفرزت تقدمًا كبيرًا لجماعة "شفيق الجراية" أي مجموعة النواب المتهمين من قبل القطب القضائي المالي بالرشوة والفساد، مشددًا على أنّه قد تم تقديم من وصفهم بـ"العرجاء والنطيحة وما أكل السبع"، داعيًا إلى التدقيق والتمحيص في السير الذاتية لقيادة اللجنة المركزية الذي هو عضو فيها حيث قال إنّ فيها ما يفزع ويخيف على مستقبل تونس ومشروعها الديمقراطي فالعملية السياسية لا تعني لدى غالبيتهم سوى غنم ما أمكن من مناصب في الدولة وامتيازاتها.

في المحصلة، قد يتمكن نداء تونس خلال الانتخابات القادمة من الحفاظ على حضور نسبي في المشهد السياسي والبرلماني لاعتبارات مرتبطة بالسوسيولوجيا الانتخابية. لكنه حتمًا لن يكون الحزب القوي القادر على إعادة سيناريو 2014 الذي أضحى جزءًا من التاريخ السياسي للبلاد. ستكون هذه النتيجة حتمية تاريخية لا مناص منها غير أنّها لن تحجب عنّا السؤال الآتي: هل إنّ نداء تونس في صيغته الحالية هو حزب أم كاراكوز سياسي؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

تونس.. بلد العجائب السياسية

ديمقراطية بلا ديمقراطيين...