"على المدى الطويل، سنكون جميعًا موتى"، هكذا علّق عالم الاقتصاد الإنجليزي "جون ماينارد كينز" على نظرية الليبرالية المتعلّقة بالذاتي والحر للسوق. يعني كينز أن انتظار الاستقرار الآلي لتناوب فترات الوفرة والشح الاقتصادية، أو ما يعرف بدورات كوندراتييف التي تمتد بين 40-60 سنة، قد يؤدي مجازيًا إلى فناء البشر قبل بلوغ هذا الاستقرار، الذي قد لا يحدث بالنهاية.
ناهزت نسبة التضخم حسب أرقام المعهد الوطني للإحصاء 9.8% في نوفمبر2022، أي أنه من المحتمل أن يفتتح التونسيون سنة 2023 بتضخم ذي رقمين
عايش كينز فترة الكساد العظيم 1929، وارتداده على الاقتصاد الانجليزي 1930 ما نتج عنه 15 مليون عاطل أمريكي و3 مليون بريطاني، وكذلك أزمة التضخم الكبير Hyperinflation في ألمانيا في الثلاثينات. في هذا المناخ، صاغ كينز نظريته المعروفة بالكينزة Keynesianism، والتي اعتمدتها عدة بنوك مركزية في العالم لمجابهة الأزمة الاقتصادية الناتجة عن أزمة جائحة فيروس كورونا بين سنتي 2020 و2021، وكثفتها الحرب الروسية-الأوكرانية 2022، عبر ضخ سيولة مالية ضخمة في محاولة لإنعاش الاقتصاد العالمي، ما تسبّب من جهة أخرى في معدّلات تضخم قياسية: الولايات المتحدة (7.7%) وألمانيا (10.2%) وإسبانيا (10%).
لم يسعف "الاستثناء التونسي"، تونس من التضخم، إذ ناهز حسب أرقام المعهد الوطني للإحصاء 9.8% في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، أي أنه من المحتمل أن يفتتح التونسيون سنة 2023 بتضخم ذي رقمين. لا شك أن ارتفاع نسب التضخم في كبرى الاقتصادات العالمية له تأثير كبير على بلد يعاني ميزانه التجاري من عجز مزمن وهيكلي. هذا ما لازالت تصرّح به وزيرة التجارة فضيلة الرابحي في كل إطلالة صحفية لها، وآخرها: "ارتفاع الأسعار في تونس مقبول مقارنة بالبلدان الأخرى". ولئن صحّ كلام الوزيرة، فإن كلامها قد يبدو مستفزًا للمستهلك التونسي الذي وقع الزجّ به في مقارنة مع نظرائه المتوسطيين. لكن هذا لا يبدو غريبًا، سكتت دهرًا لتنطق استفزازًا.
نادر حداد (مختص في حركة الأسواق المالية) لـ"الترا تونس": قد يكون تراجع قيمة الدينار أمام العملات الأجنبية، هو انطلاق تعويم جزئي غير معلن للدينار، تحضيرًا للتعويم الكلّي
جائحة "التضخم العالمي".. وخطط طوارئ عالمية:
جائحة صحية تلتها حرب بين أكبر مصدّرين للحبوب (روسيا وأوكرانيا) والعقوبات ضد نظام بوتين، وما تخلّل ذلك من أزمة سلاسل التزويد وأزمة أشباه الوصلات (Semi-Conductors) في قطاع الإلكترونيات، وأخيرًا موجات الجفاف الطويلة الناتجة عن التغيرات المناخية.. توليفة من الأسباب صار يتلوه كل مسؤول حكومي من سريلانكا إلى الولايات المتحدة مرورًا بكل من أفغانستان وإيطاليا وغيرها من البلدان، للإجابة عن سؤال التضخم وموجة ارتفاع الأسعار التي ضربت الأسواق العالمية.
"صحيح أن جزءًا كبير من التضخم مستورد، كما أن نسبة التضخم في كل من مصر وتركيا أكبر من النسبة في تونس، لكن لا ننسى أيضًا فشل سياساتنا المالية، وتدهور قيمة الدينار التي تراجعت بـ 4.87% مقابل اليورو في الشهر الأخير، وبنسبة 11.79% مقابل الدولار في آخر 12 شهرً"، هكذا أفادنا نادر حداد المختص في حركة الأسواق المالية.
يضيف: "ربما قد يكون هذا التراجع هو انطلاق تعويم جزئي غير معلن للدينار، تحضيرًا للتعويم الكلّي الذي تشير تسريبات إلى أنه أحد محاور اتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولي. لكن بالنهاية، لمثل هذه السياسات المالية تأثير كبير على ارتفاع أسعار الواردات".
لم يزل الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يعلن كل ثلاثي تقريبًا عن حزمة من الإجراءات، كالترفيع في نسب الفائدة، في عملية دقيقة مستمرة لكبح جماح التضخم في الولايات المتحدة، حيث صار اجتماع مجلس البنك، أكبر حدث في الأسواق المالية وأكثرها تأثيرًا. على المدى القصير، قامت عدة حكومات بتوزيع مساعدات عينية مباشرة لمساعدة مواطنيها ذوي الدخل المحدود حسب نظمها الداخلية، كقيام الحكومتين الفرنسية والألمانية بتوزيع شيكات تتراوح قيمتها بين 100 و400 أورو، وتخفيض الضرائب على المحروقات وتحديد سعر موحّد ومخفّض لوسائل النقل المشترك. فضلًا عن عديد اللقاءات الصحفية لمسؤولين حكوميين حول الأزمة وطرق التصدّي لها.
نادر حداد: ليس هناك خيارات كثيرة مطروحة أمام الحكومة الحاليى، فالدولة عاجزة وتعاني حالة من الترهّل يقارب الشلل
داخليا، علوّ شاهق.. في نسبة التضخم:
بينما عرفت البلاد الترفيع للمرة الخامسة في سعر المحروقات في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، من المرجّح أن تونس سجلت في الثلاثية الأخيرة لسنة 2022 أرقام تضخم قياسية لم تبلغها منذ سنة 1982. حيث تشير أرقام البنك العالمي إلى 14.4% ، فيما يبرز مقال بتاريخ 19 أكتوبر/ تشرين الأول 1982 لجريدة لوموند نسبة 12% نقلًا عن حكومة مزالي آنذاك. قد لا تخفى على عاقل هشاشة الاقتصاد التونسي، فضلًا عن أزمته الهيكلية التي يعانيها منذ عقود، ما يؤثر سلبًا على قدرته التنافسية وضعفه أمام الأزمات الخارجية. وهذا إرث متواصل عانته جميع الحكومات المتتالية منذ الثورة، ولا زالت.
في رده على سؤال ماذا يمكن للحكومة أن تفعل على المدى القريب؟ قال نادر حداد: "ليس هناك خيارات كثيرة مطروحة أمام هذه الحكومة، فالدولة عاجزة وتعاني حالة من الترهّل يقارب الشلل. من يعجز عن توفير أوراق طباعة بإداراته، لا يمكنه تقديم مساعدات حقيقية للمواطنين. كما أن هناك الالتزامات والإشارات التي تقدمها السلطة السياسية القائمة تجاه صندوق النقد الدولي. فلم يبق إلا عملية رفع نسب الفائدة المديرية من قبل البنك المركزي -للحد من الاقتراض وترشيد الاستهلاك- الذي لم يفتأ محافظه يذكرنا في كل مرة بدوره التعديلي والتزامه الحفاظ على استقرار السوق المالية".
حمزة المدب (باحث في الاقتصاد السياسي) لـ"الترا تونس": هناك أزمة تزود وتزويد للأسواق بالمواد الاستهلاكية كالخضر والغلال وباقي المواد الغذائية، فضلًا عن أزمة سيولة وعملة صعبة
تخضع المعاملات الاقتصادية، وبالتالي الأسعار، إلى القانون المقدس للاقتصاد: "العرض والطلب". بعد العمليات الاستعراضية التي أثثتها السلطة السياسية في مهاجمة مستودعات تخزين المواد الغذائية والاتهامات المعممة والمسقطة على الفاعلين الاقتصاديين بالاحتكار، بالإضافة إلى الخطاب الشعبوي ومصطلحات "مسالك التجويع"، أدّى كلّ ذلك إلى ظهور أزمة تزويد في الأسواق نتيجة عزوف كبار المنتجين عن التخزين، وفق تصريح عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الفلاحة والصيد البحري لإذاعة شمس أف أم بتاريخ 27 أكتوبر 2022 في تعليقه على ارتفاع أسعار مادة البطاطا: "أزمة كانت منتظرة بسبب عزوف المخزنين خوفًا من قانون الاحتكار".
وهو ما أكّده الباحث في الاقتصاد السياسي حمزة المدب في تصريحه لـ"الترا تونس": "صحيح أن هناك نسبة من التضخم مستوردة، لكن هناك أزمة تزود وتزويد للأسواق بالمواد الاستهلاكية كالخضر والغلال وباقي المواد الغذائية وحتّى الماء، وتتحمل السلطة المسؤولية الكبرى في ضرب سياسة التخزين. كما أن هناك أزمة سيولة وعملة صعبة، حيث يذكر أن عدد الأيام التوريد تراجعت، وفق أرقام البنك المركزي من 155 يوم بداية السنة إلى حوالي 90 يومًا، ما يعني وجود صعوبات وتخفيض نسب التوريد، وهو ما لاحظته من متابعتي لنشريات المعهد الوطني للإحصاء، لكن في المقابل هناك ارتفاع أسعار الواردات، فضلًا عن المرسوم الجديد الخاص بالتوريد الذي أتوقع أن تكون نتائجه كنتائج مرسوم الاحتكار" وفقه.
حمزة المدب لـ"الترا تونس": كان الأمر واضحًا منذ جائحة كورونا، منظومتنا الصناعية والفلاحية في حالة تبعية مفرطة، ما يجعلها عرضة لكل صدمة خارجية
من الواضح أن هامش الحركة للسلطة السياسية محدود نظرًا لشح الموارد، وأن الآمال معقودة على الاتفاق المنتظر إمضاؤه مع صندوق النقد الدولي، والذي يفترض أن يفتح أبواب الأسواق المالية العالمية للحكومة لتعبئة الموارد. وفي انتظار ذلك، لا يبدو أن للحكومة أي خيارات مطروحة لإسعاف كاهل المواطن. لكن من جهة أخرى، هناك مسألة مراجعة الدعم وتوجيهه نحو مستحقيه وفق تعبير وزيرة التجارة، ما يعني أن مؤشرات التضخم تميل نحو مزيد من التدهور. "الحكومة رفعت المدعوم قبل أن ترفع الدعم"، يعلّق حمزة المدب، في إشارة لانقطاع عديد المواد الأساسية المدعومة على غرار الزيت والسكر والحبوب.. وغيرها.
على المدى القصير، يتفق الخبيران، نادر حداد وحمزة المدب، على أن الخيارات محدودة، بل تكاد تكون معدومة، أمام السلطة الحالية. لكن نظريًا وعلى المدى المتوسط والبعيد، على السلطة الانطلاق استعجاليًا وجدّيًا في مراجعة المنظومة الاقتصادية: "لقد كان الأمر واضحًا منذ جائحة كورونا: منظومتنا الصناعية والفلاحية في حالة تبعية مفرطة، ما يجعلها عرضة لكل صدمة خارجية". هكذا يرى المدب، مشددًا على ضرورة وضع ملفي الأمن الطاقي والغذائي في أول سلّم الأولويات. فيما يرى حداد أن لا مناص من تشجيع المبادرة الفردية وخلق الثورة بمزيد تحرير الأسواق.
جائحة "التضخم" مرجحة للاستمرار طيلة السنوات القادمة، ما سينعكس سلبًا على البنى الاجتماعية ومزيد تضخم مؤشرات اللامساواة بين الفئات والطبقات الاجتماعية
قبل الختام، تجدر الإشارة إلى أن جائحة "التضخم" مرجحة للاستمرار طيلة السنوات القادمة (5 سنوات كحد أدنى)، ما سينعكس سلبًا على البنى الاجتماعية ومزيد تضخم مؤشرات اللامساواة بين الفئات والطبقات الاجتماعية. ولئن كانت الاتفاقيات السابقة سببًا في التحوّلات الحضارية التي عرفتها ونزوح الأرياف وخلق الأحزمة الهامشية حول المدن، فلا شك أن مؤشرات الاتفاق القادم بدأت بالظهور مع رحلات الصيف السرية المكثفة نحو الحدود الجنوبية للقارة العجوز، بانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع من تقلبات الشتاء الساخنة وما قد يترتب عنها من توتر اجتماعي، خاصة مع تغييب الاتحاد العام التونسي للشغل عن خارطة طريق الحكومة.