29-سبتمبر-2022
دعوات للحد من توريد عدة مواد في تونس

"الميزان التجاري لتونس يعاني من عجز كبير" (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

 

أثارت بيانات الرئاسة التونسية التي تعرضت مؤخرًا للدعوة لترشيد التوريد ردود أفعال متباينة كما تحولت أحيانًا إلى حالة من التندر والسخرية على وسائل التواصل الاجتماعي خاصة بعد دعوة الرئيس قيس سعيّد "للضغط على استيراد طعام القطط والكلاب ومواد التجميل والعطورات الأجنبية"، للحد من اختلال الميزان التجاري.

يذكر أن الأسواق التونسية تشهد فقدان عديد المواد الأساسية من سلّة المواطن كالزيت والسكر والقهوة وغيرها وارتفاعًا لافتًا في أسعار عديد المواد.

وحسب آخر تحيين للمعهد الوطني للإحصاء، فقد بلغ العجز التجاري لتونس 16899- مليون دينار، موفى أوت/أغسطس 2022، مقابل 10480 - مليون دينار خلال الفترة ذاتها من سنة 2021، مما يعني تعمق العجز التجاري بنسبة 61%.

 

 

  • السلطة تغالط الرأي العام

فسرت الكاتبة الصحفية والمحلّلة في الشأن الاقتصادي جنات بن عبد الله، في تصريحها لـ"الترا تونس"، دعوات ترشيد التوريد بكونها "تصب في إطار تحديد التوريد مع البلدان التي نسجل معها عجزًا تجاريًا متفاقمًا"، مشيرة إلى أن التصريحات الرسمية التونسية تبيّن عجزًا تجاريًا مهمًا مع كل من الصين وتركيا وتحقيق فائض تجاري مع فرنسا والاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني أن الرئيس يدعو لترشيد التوريد مع الصين وتركيا والمحافظة على المبادلات التجارية مع الاتحاد الأوروبي".

وتابعت "والحال أن النسخة السادسة لدليل احتساب ميزان المدفوعات لصندوق النقد الدولي يكشف أن المبادلات التجارية التي تتم في إطار المناولة تتم على أساس الملكية، وبالرجوع إلى الوضع التونسي فإن قطاعات النسيج والملابس الجاهزة والالكترونيك والميكانيك تخضع صادراتها لنظام التصدير الكلي وتنشط شركاتها في إطار المناولة بما يعني أن الاحتساب المعتمد حاليًا من قبل السلطات التونسية والجهات الأوروبية احتساب خاطئ يرتقي لمستوى التدليس استنادًا إلى النسخة السادسة من دليل احتساب ميزان المدفوعات لصندوق النقد الدولي"، وفقها.

الكاتبة الصحفية والمحلّلة في الشأن الاقتصادي جنات بن عبد الله لـ"الترا تونس": "إنقاذ ميزان المدفوعات والميزان التجاري ينطلق من كشف حقيقة المبادلات التجارية مع الدول الأوروبية"

وأضافت بن عبد الله "السلطات التونسية أعلنت سابقًا أن العجز التجاري خلال الأشهر الثمانية الأولى كان في حدود 16 مليار دينار وبلغ اليوم 25 مليار دينار، واستنادًا لإحصائيات سنة 2019 وفي ظل غياب المعلومة الدقيقة التي ينشرها المعهد الوطني للإحصاء يتضح أن عجز الميزان التجاري لتونس مع الاتحاد الأوروبي يناهز 50% من  إجمالي العجز الذي بلغ 31.2 مليار دينار سنة 2019، من بينهم  14.1 مليار دينار عجز مع الاتحاد الأوروبي، 3.7 مليار دينار منه مع فرنسا مقابل 4 مليار دينار عجز سنة 2018، في حين أن العجز التجاري مع الصين بلغ سنة 2019 مستوى 5.8 مليار دينار وبلغ مع تركيا 2.5 مليار دينار".

وشددت المحلّلة في الشأن الاقتصادي على أنه "إذا ما أرادت تونس ترشيد التوريد، فعليها الاعتراف أولاً بعجز الميزان مع الاتحاد الأوروبي وعلى رأسه فرنسا وإيطاليا وألمانيا واعتماد النسخة السادسة لدليل احتساب ميزان المدفوعات لصندوق النقد الدولي المعتمد من قبل الاتحاد الأوروبي منذ سنة 2010".

وقالت بن عبد الله، خلال حديثها لـ"الترا تونس" "نحن مع ترشيد التوريد.. لكن السلط التونسية تخفي عديد الحقائق عن الشعب التونسي فبداية إنقاذ ميزان المدفوعات والميزان التجاري ينطلق من كشف حقيقة المبادلات التجارية".

بن عبد الله تساءلت أيضًا، "كيف يمكن أن نتصور أن لنا فائضًا مع فرنسا التي تعتبر ثاني قوة اقتصادية في الاتحاد الأوروبي؟ هذا يعني أن فرنسا تعتمد في اقتصادها كليًا على واردات تونس ذات الاقتصاد الهش والغارق في المديونية والتي تتسول اليوم من صندوق النقد الدولي بما قيمته ملياري دولار"، وفق تعبيرها.

جنات بن عبد الله لـ"الترا تونس": من الضروري اعتماد الإجراءات الظرفية الحمائية التي أقرتها أحكام الاتفاقيات مع المنظمة العالمية للتجارة التي تتيح لكل بلد له عجز مع طرف ثان اعتماد سياسة حمائية ظرفية تمكنه من استعادة توازناته الخارجية

وتابعت جنات بن عبد الله حديثها لـ"الترا تونس" بالقول إن رئيس الجمهورية مدعو اليوم لمطالبة محافظ البنك المركزي ووزارة التجارة بكشف الأسباب التي جعلتهم يخفون هذه الحقائق عن الشعب التونسي، كشف الحقائق يخوّل لتونس اعتماد الإجراءات الظرفية الحمائية التي أقرتها أحكام الاتفاقيات مع المنظمة العالمية للتجارة التي تتيح لكل بلد له عجز مع طرف ثان اعتماد سياسة حمائية ظرفية تمكنه من استعادة توازناته الخارجية، الظروف تفرض على رئيس الجمهورية المطالبة باعتماد هذه الإجراءات الحمائية مع كل من السوق الأوروبية وتركيا والصين ومراجعة اتفاقيات التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي وتركيا لإعادة التوازن لتوازناتها المالية الخارجية".

وبيّنت بن عبد الله "تونس تسّجل عجزًا تجاريًا شهريًا بـ3 مليار دينار اعتمادًا على النسخة السادسة لدليل احتساب ميزان المدفوعات لصندوق النقد الدولي، ومفهوم الترشيد يسمح للدولة بوضع قائمة أولويات للتوريد، نحن نعلم أن السوق التونسية في حاجة للطاقة والمواد الأساسية الضرورية والمواد نصف المصنعة والمواد الأولية، كما يمكن وضع قائمة لضبط مفهوم الكماليات، ترشيد التوريد لا يعني إغلاق السوق ولكن اتباع الأولويات".

جنات بن عبد الله لـ"الترا تونس": "يمكن وضع قائمة لضبط مفهوم الكماليات، ترشيد التوريد لا يعني إغلاق السوق ولكن اتباع الأولويات"

وواصلت محدثتنا تفسيرها "إذا ما واصلت السلط التونسية تدليس المبادلات التجارية مع الاتحاد الأوروبي فلا يمكن الحديث عن ترشيد التوريد ولا عن وضع إجراءات ظرفية حمائية معه وستبقى السوق التونسية مستباحة من قبل بلدان الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها فرنسا، تونس قامت بعمليات توريد تناهز قيمتها المليار دينار فقط لسيارات من فرنسا في وقت لا نجد العملة الصعبة الكافية لتوريد الزيوت النباتية والمواد الأساسية، أعتقد أن بوادر إنقاذ الاقتصاد التونسي تنطلق بمعالجة ملف التجارة الخارجية".

 

 

  • ترشيد التوريد دون السقوط في الشعبوية

في ذات السياق، قال المختص في الاقتصاد معز الجودي في تصريح لـ"الترا تونس" "الميزان التجاري لتونس يعاني من عجز كبير، حيث بلغ العجز إلى حد شهر أوت من سنة 2022  حوالي 17 مليار دينار وستنتهي هذه السنة بعجز سيتجاوز 20 مليار دينار وهو رقم قياسي".

معز الجودي لـ"الترا تونس": "الميزان التجاري لتونس يعاني من عجز كبير، حيث بلغ العجز إلى حد شهر أوت من سنة 2022  حوالي 17 مليار دينار وستنتهي هذه السنة بعجز سيتجاوز 20 مليار دينار وهو رقم قياسي"

ووضّح الجودي "هذا العجز يعود إلى كثرة الواردات مقابل الصادرات وإلى ضعف تغطية الصادرات للواردات، للحد من هذا العجز يجب إقرار ترشيد التوريد وتطوير الصادرات".

وتابع المختص في الاقتصاد في حديثه لـ"الترا تونس": ما تحدث عنه رئيس الجمهورية عن الحد من استيراد مواد التجميل وطعام الحيوانات الأهلية يمثّل جزءًا ضئيلاً من التوريد ككلّ، المُكلف حقًا هو توريد المحروقات والمواد المنجمية التي كنّا ننتجها في تونس، مثلاً كالبترول المكرر جرّاء تعطل محطة التكرير بجرزونة لسنوات، مشددًا "قبل أن يتحدث عن مواد التجميل وغيرها على الرئيس تنشيط المشاريع العمومية، وإعادة محطة التكرير بجرزونة إلى العمل وإدخال الإصلاحات اللازمة على المؤسسات العمومية".

معز الجودي لـ"الترا تونس": استيراد مواد التجميل وطعام الحيوانات الأهلية يمثّل جزءًا ضئيلاً، المُكلف حقًا هو توريد المحروقات والمواد المنجمية التي كنّا ننتجها في تونس

فكرة ترشيد التوريد والتحكم في عجز الميزان التجاري خطوات مطلوبة ومطروحة بقوة، واصل الجودي حديثه لـ"الترا تونس"، "لكن دون الدخول في باب الشعبوية والأمور الجزئية والتفصيلية لأنها ستؤثر على بعض مواطن الشغل ونشاط بعض الأسواق والمحلات، من غير المعقول أن يتسبب ترشيد التوريد في تحطيم مواطن شغل ومحلات تجارية أو صناعات تكميلية".

 

 

  • دفع للأزمة بعيدًا عن جذورها!

في سياق آخر ولمعالجة الموضوع من جانب اجتماعي، تواصل "الترا تونس" مع الكاتب محمد بالطيب الذي قال إن تونس تعيش صعوبات اقتصادية واضحة، تتجلّى في المعيشي اليومي في حياة المواطنين، متحدّثاً عن صعوبات في الحصول حتى على المواد الأساسيّة كالسكر وغيره من المواد. وبغض النّظر عن مسؤوليّة السلّطة الحاليّة عن هذه الأزمة، وهي تتحمّل بلا شكّ جزءًا منها، يقول بالطيب إن الجزء الآخر الذي قد يكون الأهم يقع على عاتق الحكومات السابقة التي أوصلت المديونيّة إلى أرقام غير مسبوقة.

الكاتب محمد الطيب لـ"الترا تونس": خطاب "العطور الأجنبية" و"أكل الحيوانات الأهلية" يمكن قراءته كدفع للأزمة بعيدًا عن جذورها العلميّة الحقيقيّة إلى ما يشبه محاولة ردمها تحت خطاب يبحث عن ملامسة المشاعر

وتابع حديثه لـ"الترا تونس": مشكلة السلطة الحالية في تونس تتمثل في الخطاب الذي تواجه به هذه الأزمة، خطاب لا يتحدّث عن حقيقة الوضع الاقتصادي، ولا يستدعي الأرقام أو النّسب المائوية، بل هو خطاب يرتكز على فكرة المؤامرة".

وأضاف "في موضوع التوريد هناك محاولة لتوجيه الأزمة نحو المواد الكماليّة، مثل العطورات الأجنبية وطعام الحيوانات الأهليّة، ورغم أنّ هناك أزمة توريد واضحة في تونس، ونزيفًا كبيرًا للعملة الصعبة يجب مواجهته ومراجعة جملة الاتفاقيات مع عدد من البلدان التي يختل معها الميزان التجاري بشكل كبير، لكن في المقابل لا يمكن حل هذه الأزمة بخطاب يرتكز على ثنائيّات مثل "العطور الأجنبية" و"ضروريات الحياة"، خاصة مع ما يمكن فهمه من تشنيع على سلوك وأنماط حياة فئات اجتماعية (مترفة نسبيًا) واللعب على مشاعر أخرى (أكثر فقرًا)، أو ما يمكن قراءته كدفع للأزمة بعيدًا عن جذورها العلميّة الحقيقيّة إلى ما يشبه محاولة ردمها تحت خطاب يبحث عن ملامسة المشاعر والحصول على الدعم السياسي من الفئات الشّعبية أكثر من بحثه عن حلول فعليّة للوضع"، وفق تقديره.