23-فبراير-2019

اليساريّ هو قطب الرواية وجوهرها

 

تُعدّ رواية "الطلياني" للجامعي والروائي التونسي شكري مبخوت من أهمّ الأعمال الفنيّة التي عزّزت المدوّنة الأدبيّة بعيد ثورة الحريّة والكرامة، وقد لا يحتاج القارئ إلى كدّ الذهن وتقليب النظر ليتبيّن صدى التحوّلات التي شهدتها تونس منذ 2011 في مضمون النصّ وأسلوبه وبنيته. من أوكد هذه التحوّلات المؤثرة بلوغ حرّية التعبير ذروتها كشفًا وتحليلًا وهتًكا للحجب والأسرار وعودة السجالات الفكريّة والإيديولوجيّة خاصّة بين اليساريين والإسلاميين عَودةً تحاكي أجواء ما شهدته الجامعة التونسيّة من صراعات حادّة بين هذين التيارين خاصّة في الفترة الفاصلة بين نهاية حكم الحبيب بورقيبة وبداية نظام بن علي.

تُعدّ رواية "الطلياني" للجامعي والروائي التونسيّ شكري مبخوت من أهمّ الأعمال الفنيّة التي عزّزت المدوّنة الأدبيّة بعيد ثورة الحريّة والكرامة

هذه الأجواء ظلّت موضوع تحقيق ومراجعة من قبل العديد من النقّاد والباحثين والإعلاميين الذين استندوا في رصدها وتحليلها وتقييمها إلى الوقائع والشهادات والتسجيلات والمناشير وغيرها من المصادر الخاصّة والرسميّة المكتوبة والشفويّة، في المُقابل لم يجنح المبخوت في شهادته على هذه الفترة التي عاينها وعاناها إلى الخطاب المباشر، إنّما توخّى في ذلك الأدبَ سبيلًا والفنّ مَطيّةً.

يقوم شاهدًا على ذلك تصريحه لوكالة "رويترز" على هامش الدورة 22 لمعرض الكتاب بالدار البيضاء في فيفري/شباط 2016 قائلًا: "في رواية الطلياني لم أكن بحاجة إلى القيام ببحث تاريخيّ لأنّها فترة جيلي أنا... تلك الفترة من تاريخ تونس ليست مكتوبة، والتحدّي الذي خضته هو أن أكتب قصّةَ جيلي سرديًا، وفي الآن نفسه مسيرة بلد يعيش تلك التحوّلات والتناقضات والأزمات".

اقرأ/ي أيضًا: "أجمل الذّنوب".. جدل حول جنس المؤلف وتغريبة للطلبة التونسيين

القادحُ الواقعيّ والأفق الفنّي

لا شكّ أنّ رواية "الطلياني" لشكري المبخوت يتجاذبها قطبان، قطبٌ جماليّ إمتاعيّ وقطبٌ توثيقيّ تسجيليّ. تشكّل القطب الأوّل من خلال البنية القصصيّة التي تقوم على الإثارة خاصّة في مطلعها، والتشويق في مختلف سياقات تنامي أحداثها، والتفنّن في وصف ملامح الشخصيّات وبعض المشاهد الحسيّة الحميميّة وصفا اتّسم في الغالب بالطرافة والشعريّة.

لا شكّ أنّ رواية الطلياني لشكري المبخوت يتجاذبها قطبان هما قطبٌ جماليّ إمتاعيّ وقطبٌ توثيقيّ تسجيليّ

أمّا القطب الثاني، وهو مجال الاهتمام في تحليلنا، فقد تجسّد من خلال الحضور المكثّف للقرائن والمؤشّرات الواقعيّة من أمكنة وأعلام وتواريخ وأحداث عَرَضَهَا السارد عرضًا صريحًا متواترًا دقيقًا حتّى لم تكد تخلو منها صفحة من رواية الطلياني (تمتدّ على 344 صفحة، الطبعة الأولى 2014، دار التنوير للطباعة والنشر).

تلك القرائن ساهمت في شدّ هذا العمل الأدبيّ إلى تربته التي نشأ فيها، ومثّلت قادحًا على إنشائه، غير أنّ هذه السمة عُدّت بالنسبة إلى بعض النقّاد من الأسباب التي حدّت من أدبيّة النصّ، وهو موقف يبرّره تصوّرٌ للأدب يحرص أصحابه على النأي بالعمل الفنّي عن وَحَلِ الواقع والتحليق به في عوالم الخيال والترميز والإيحاء.

اليساريّ قطب الرواية وجوهرها

لم ينكر شكري المبخوت البعد التوثيقيّ في روايته، فقد أقرّ بذلك في العديد من الحوارات والندوات، هذا الاعتراف يُبيح لنا اعتماد عمله الفنّي مرجعًا ندرس من خلاله الفترة الزمنيّة التي دارت فيها أحداث الرواية. ولأن عبد الناصر وزينة الشخصيّتين المركزيّتين المهيمنتين ينتميان إلى اليسار التونسيّ، اتّجه بحثنا إلى النظر في صورة اليساريّ من خلال مؤشّرات عديدة متضافرة أهمّها ملامح هذين الفاعلين وخطابيهما وعلاقتهما ببقيّة الشخصيّات ودورهما في تنامي الأحداث، ذلك أنّ حضور أطراف أخرى في الرواية لم يكن مركزيًا، إنّما كانت الغاية منه مزيد التعمّق والتوسّع في كشف صورة اليساريّ التي تشكّلت من خلال سائر أركان القصّ، غير أنّها بدت أكثر وضوحًا في شخصيّتي عبد الناصر الملقّب بـ"الطليانيّ" ورفيقته زينة.

لئن غلبت على نمط السرد تقنية الاسترجاع التي كسرت خطيّة الأحداث فإنّ ذلك لم يُخلّف في الرواية غموضًا أو التباسًا

يمكن رصد صورة اليساريّ التونسيّ في الفترة المذكورة من خلال أربعة مستويات، أوّلها يتّصل بالخصال الذهنيّة والنفسيّة ودور المحيط الاجتماعيّ والتربويّ في صقلها وتنميتها وتوجيهها، والثانية ترتبط بطبيعة الأنشطة السياسيّة والنقابيّة تنظيمًا وخطابًا وأسلوبًا، والثالثة تتعلّق بالصراعات بين اليساريين وطرائقهم في إدارة الخلافات الداخليّة، والرابعة مدارها على علاقة اليساريين ببقيّة الأطراف خاصّة الدساترة والإسلاميين.

 تتكشّف هذه القضايا للقارئ بيسر، إذ لا يحتاج إلى التفسير والتأويل وتقليب النظر، فالخطاب حوارًا أو وصفًا قد بدا أميل إلى البساطة والوضوح وقُرْبِ المَأْخَذِ. ولئن غلبت على نمط السرد تقنية الاسترجاع التي كسرت خطيّة الأحداث، فإنّ ذلك لم يُخلّف في الرواية غموضًا أو التباسًا، بل ساهم في الكشف عن بعض الملامح المتأصّلة في القائد اليساريّ أو تلك التي تفجّرت في فترة المراهقة، فوجدت من يصقلها، وينمّيها، ويوظّفها وفق رؤية مخصوصة، منها خصال التمرّد والحسّ التضامنيّ والنزعة الحقوقيّة وإهمال المظهر مقابل الحرص على التحصيل المعرفيّ والثقافيّ والأخذ بأساليب الإقناع والتأثير وتعبئة الأنصار وإفحام الخصم وإرباكه وغيرها من الصفات التي ارتأينا تفصيل القول فيها من خلال العناصر الموالية نظر إلى دورها في رسم صورة اليساريّ.

المرحلة التلمذيّة وخصال التمرّد والقيادة والصدام

بدا اليساريّ من خلال رواية "الطليانيّ" مجبولًا على الرفض والتمرّد مندفعًا صداميًا، يتجلّى ذلك منذ النشأة الأولى سواء في الأسرة أو المدرسة أو في الحيّ، وهو ما سينعكس لاحقًا على جلّ اختياراته السياسيّة والحزبيّة والنقابيّة. فَزِينة حبيبة البطل ورفيقته وزوجته التي فارقها بعد سنتين كانت "في جميع التحرّكات التلمذيّة في المعهد الصغير وفي المبيت رأس الحربة تخطب في التلاميذ، فتحرّكهم، وتُبيّن لهم ما ينبغي فعله ومتى يبدأ التحرّك ومتى يجب إيقافه..." (ص44)، هذه النزعة الحجاجيّة تغذّيها قيم تضامنيّة وحسّ نقابيّ مبكّر فقد "طُردت من المعهد على خلفيّة نشاطاتها في الثمانينيات للمطالبة بنقابة لأبناء المعاهد".

اقرأ/ي أيضًا: جيلبار نقّاش يقدّم "كريستال" في حلتها العربية: أقف وحيدًا على أرض الحرية

كما "كانت معروفة بمشاكستها وعدم سكوتها عن الحقّ وحمايتها للتلاميذ الجدد في المبيت" ومن التفاصيل التي تؤكّد ميل "الرفيقة زينة" إلى المواجهة أسلوبها في مخاطبة المدير حينما نهاها عن مغادرة المبيت دون إذن قائلًا في حزم: "لسنا فندقًا هنا عليك بالالتزام بالنظام الداخلي وإلّا أطردناك" فأجابته زينة بهدوء وسرعة كمن يُطلق نيرانًا كثيفة من رشّاش بلغة نقابيّة أذهلته: "حين تُصلحون النوافذ المكسّرة التي تدخل منها الرياح والأمطار، وحين تنظفون المراحيض  وتقضون على الروائح الكريهة التي تنتشر في الممرات والأدراج وقاعات النوم... وحين تحسّنون الأكلة وتقضون على الحشرات فيها..وقتها تصبحون فندقًا مريحًا لا يهرب منه التلاميذ" (ص 46).

مواقف الرفًض والسخط والتحدّي في زينة نموذج المناضلة اليساريّة في الفترة المدرسيّة بدت بلا قيود ولا حدود، إذ لم تكن أسرتها المفقرة المهمّشة قادرة على لجمها والحدّ من اندفاعها، فقد أقرّ والدها للمدير لمّا دعاه إلى ردعها بأنّه "لا يتحكّم فيها، فهي ابنة بورقيبة الذي جعل النساء مستقويات على الرجال والآباء والإخوة، فكيف سيكلّم ابنة متعالية متفوّقة في دراستها وهو لا يعرف كتابة اسمه على الجرّة؟ ثمّ "اعترف الأب أنّه نفض يديه منها، ولم تعد تكلّمه منذ سنوات ولا تعتبره أبا لها..." (ص47).

التلميذ الحصيف و"النقابيّ الشريف"

حصافة "الرفيقة زينة" ونباهتها وجرأتها بدت في رواية الطلياني متأصّلة في شخصيّتها غير أنّ المبخوت يكشف فنيًا عن بعض الشروط الموضوعيّة المساهمة في دعم جسارة الرفيقة فللإقدام والبَأْس دعائمُ مكشوفة وأخرى خفيّة لا غنى عنها للمداومة والاستمرار، أوّلها النبوغ والتفوّق الدراسيّ الذي جعل إدارة المعهد تقيم لهذه التلميذة اعتبارًا خاصًا طمعًا في نتيجة باهرة على مستوى وطنيّ يتباهي بها المدير.

السبب الثاني ينسل من رحم الأوّل، لكنّه أخطر يتمثّل ما تحظى به زينة من دعم وتوجيه من قبل المربّين "فنجابتها وحُبُّ الأساتذة جميعًا لها وتميّزها عن بقيّة التلاميذ كان دائمًا ينقذها من الطرد" (ص44)، غير أنّ هذا الدعم سرعان ما تحوّل إلى توجيه وتأطير أو ما يسمّيه خصوم اليساريين بالدمغجة (من معانيها عمليّة التسويق للفكرة باعتماد المغالطة)، وهي تهمة لا تنطبق تمامًا على تجربة زينة التي بدت قادرة على التحليل والمراجعة وأبعد ما تكون عن الترديد والانضباط الحزبيّ (كما سيتّضح من خلال القسم الخاصّ بالصراعات الداخليّة بين اليساريين).

مواقف الرفًض والسخط والتحدّي في زينة نموذج المناضلة اليساريّة في الفترة المدرسيّة بدت بلا قيود ولا حدود و لم تكن أسرتها المفقرة المهمّشة قادرة على لجمها والحدّ من اندفاعها

من المربّين الذين ساهموا في نحت شخصيّة زينة أستاذ التاريخ والجغرافيا (وهو ما يتناسب مع صورة نمطيّة في تونس تصنّف المربين في الغالب تصنيفًا يجعل أساتذة الفلسفة والتاريخ والجغرافيا أقرب إلى التيّار اليساريّ من بقيّة الاختصاصات الأخرى). فقد كانت زينة تتّصل بأستاذ التاريخ والجغرافيا، وهو من النقابيين النزهاء، وكان يمدّها ببعض الكتب التي تلتهمها التهامًا والمجلّات التي تطالعها في قاعة الطعام وفي قاعة المراجعة رغم منع المجلّات فيها...". (ص 46).

دور الأساتذة في التأطير والتوجيه يبدو أوضح في سيرة الرفيق عبد الناصر الملقب بالطلياني، وهو الذي يشبهها في تمرّده الأسريّ ولا يختلف عنها في تحرّره وجرأته فكرًا وسلوكًا. يقول السارد: "وقد أسرّ لي الطليانيّ بعد زمن أنّه كان يتزوّد بالكتب التي بدت لنا أوّل مرّة غريبة من أستاذ في معهدنا، فقد انتبه إلى ما يتمتّع به عبد الناصر من اتّقاد ذهن ونزوع نحو التمرّد واستعداد للمعرفة، فعمل على تشجيعه خارج الدرس، وظلّ يمدّه بتلك الكتب الغريبة، وما أخفاه عبد الناصر علينا أنّ الأستاذ فتحي.ك ( أُشير إلى اللقب بحرف الكاف) كان يجمع بدوره خلال السنة الدراسيّة بعض التلاميذ في بيته القريب من حيّنا حيّ باب الجديد، ومنهم عبد الناصر ليتحدّثوا في الثقافة والأدب والسياسة، وقد علمتُ أنّ أستاذنا فتحي سُجن بعد أحداث 26 جانفي/كانون الثاني 1978 في ما كان يسمّى بقضيّة جريدة الشعب السريّة الناطقة باسم الاتّحاد العامّ التونسيّ للشغل (ص 43).

فضلًا عن النبوغ المدرسيّ والإحاطة من بعض الأساتذة، يملك اليساريّ الناشئ في مرحلته المدرسيّة أسلحة قويّة تسنده في اندفاعه وبها يواجه خصومه منها ما سنفصّل القول فيه من خلال العنصر الأوّل (تهمة التحرّش وشبهة "الخوانجي") من الجزء الثاني من تحليلنا، وفيه كذلك حديث عن الصراعات الداخليّة بين الأجنحة اليساريّة في الجامعة والعلاقة بين اليساريين وخصومهم من الدساترة والإسلاميين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "مأزق تشايكوفسكي" لشوقي برنوصي: تأمّلات في الذات والمجتمع

اتحاد الكتّاب التونسيين.. هل بات إرث الماضي عبئًا نحو المنشود؟