27-مايو-2019

أول جلسة علمية لمعهد تونس للفلسفة

 

تصدير: "دافعوا عن عقولكم كما لو كنتم تدافعون عن حصون مدينتكم" (هيريقليتس)


تحت سقف هذا المعنى الفلسفي "الهيريقليتسي"، انتظمت جلسة علمية بعنوان "الفلسفة اليوم.. لماذا؟"، في أولى أنشطة معهد تونس للفلسفة، بتاريخ 23 ماي/آيار 2019 بفضاء قصر الأدب والفنون، القصر السعيد، بضاحية باردو بالعاصمة.

ومعهد تونس للفلسفة، المدشّن بتاريخ 26 أفريل/نيسان المنقضي بمحاضرة "الفلسفة وأزمة الثقافة" قدّمها عبد الوهاب بوحديبة، تأسس بمبادرة من المجلس العلمي لكرسي اليونسكو للفلسفة بدعم من وزارة الشؤون الثقافية ليكون أول بيت للفلسفة في تونس وفي العالم العربي. ويشرف على المعهد ثلة من الفلاسفة والباحثين التونسيين من بينهم فتحي التريكي، ومحمد علي الحلواني، وحميد بن عزيزة، ومحمد محجوب وزينب الشارني.

سهرة "الفلسفة اليوم... لماذا؟" لم تحد عن هواجس الفريق المؤسس لمعهد تونس للفلسفة الذي يتوجس منذ مدة ملامح أزمة تفكير وعطب ثقافي تعيشهما المجتمعات العربية بما فيها المجتمع التونسي، ودليله غياب الفلسفة بآلياتها ومفهمتها في مراحل التشخيص الأولى لأمراض المجتمع وعدم الإنصات لأهلها وتشريكهم في كل ما هو إستراتيجي.

أثارت سهرة "الفلسفة اليوم... لماذا؟" عدة نقاط حارقة لعل أولها ضرورة التأسيس لأنشطة فلسفية متنوعة خارج أسوار الجامعة

أثارت هذه السهرة الفلسفية، التي حضرها جمهور ألمعي من المثقفين التونسيين، عدة نقاط حارقة لعل أولها ضرورة التأسيس لأنشطة فلسفية متنوعة خارج أسوار الجامعة دون التخلّي عن هويّة الفلسفة وهي معادلة صعبة لم يتدرب عليها إلا قلة من الجامعيين ممن انخرطوا في أنشطة جمعياتية وأسهموا في بعض ندوات الفكر والثقافة والأدب والفن.

اقرأ/ي أيضًا: حرية الضمير في تونس.. حبر على ورق الدستور؟

يدرك هؤلاء الباحثين تمام الإدراك أن الفلسفة ليست معبدًا بل ورشة محفزة للبحث والحكمة والجمال، وهي لا تعدو أن تكون سوى كدحًا يوميًا نحو استرداد معنى الحياة المسلوب من قبل الساسة والتجار وأهل التقنية والتجريد. وقد أجمع الحضور في هذه السهرة على ضرورة تحلى الجامعي بالشجاعة وكسر الجدران اللامرئية التي تحيط بالجامعة وترويض المتوحش في الفلسفة وزرع الألفة بينها وبين المتلقى وافتكاك موقعها في المجتمع.

وتطرقت الجلسة إلى ما اُعتبر العلاقة شبه المنعدمة بين الفلسفة والفضاء العام بمعناه العام، ولذلك حلت الدعوة من أجل تأصيل الفلسفة إلى الاستناد إلى ما قاله امانويل كانط بأن "الفلسفة هي النظرية العامة للتربية"، ولعل هي تربية البشر على المنطق والأخلاق والفن والسفر عبر الزمن لتحقيق العقل في التاريخ على حد عبارة هيغل.

كما بيّن المشرفون على الجلسة أن الالتحام بالفضاء العام يتطلب إلى جانب التحلي بالجرأة، نزع التوحش المخيف على بعض الأعلام والمدارس الفلسفية واسترداد الألفة والمودة مع الناس وجعل الفلسفة سكينتهم والشجرة التي يستظلون بظلها من قيض اليومي القاتل. إنها استعادة "الأغورا الإغريقية" والاستعداد التام للدفاع عن العقل كما الدفاع عن حصون المدينة.

ضرب أهل الاختصاص مثالًا حيًا عن غياب الفلسفة عن الفضاء العام في تونس وهو عدم تشريك الفلاسفة في تونس في كتابة الدستور

وضرب أهل الاختصاص مثالًا حيًا عن غياب الفلسفة عن الفضاء العام في تونس وهو عدم تشريك الفلاسفة في تونس في كتابة الدستور والاقتصار على فنيي القانون وفقهائه وهو ما جعل النتيجة بلا روح خاصة وأن مسألتي الحرية والديمقراطية هي من القضايا التي تخوض فيها الفلسفة باستمرار بل هي من مجالاتها الحيوية.

كما تناولوا أمثلة أخرى عديدة عن غياب الفلسفة عن الفضاء العام بما في ذلك الفضاء الديني والفضاء العام الفني والإبداعي والفضاء العام التعليمي والفضاء العام السياسي، وتناول الحديث أيضًا غياب الفلسفة عن الإعلام ولذلك جاءت الدعوة إلى ضرورة تمتين العلاقة معه لما للإعلام من أدوار تربوية واتصالية هامة في هذا العصر.

اقرأ/ي أيضًا: يسرا فراوس: يجب تحرير الجسد بتونس وهذا موقفنا من أحكام الشريعة الخاصة بالنساء

وأكد الباحثون على أن اقتحام الفلسفة للفضاء العام من شأنه أن يخفف من الصلف الدغمائي السائد وسط موجة الجهل المقدس كما يخفف من منسوب العنف والتطرف بأنواعه داخل المجتمع وفق تعبيرهم.

حاولت سهرة " الفلسفة اليوم.. لماذا؟" الإجابة على سؤال جدوى الفلسفة بالنسبة للتونسي والعربي بشكل عام باعتبارها تدفع نحو نحت عقل نقدي له قدرات على قراءة الواقع وتحليله وتأويله ومن ثمة النهوض به نحو آفاق أجمل، وذلك مع التأكيد على ما تتطلبه الفلسفة من حريات لأنه مع انتفاء الحرية تختنق الفلسفة وتموت.

أكد الباحثون أن اقتحام الفلسفة للفضاء العام من شأنه أن يخفف من الصلف الدغمائي السائد وسط موجة الجهل المقدس كما يخفف من منسوب العنف والتطرف بأنواعه داخل المجتمع

يمثل، في الأثناء، بعث معهد تونس للفلسفة نتيجة لمراكمة معرفية وثقافية امتدت لعقود أسهم فيها درس الفلسفة بالمعاهد الثانوية وبالجامعة، كما أسهمت أقلام علمية لقامات فلسفية تونسية كانت تنشر الفلسفة هنا وهناك.

ويمثل المعهد، وفق تصريح أحد مؤسسيه فتحي التريكي، تنويعة على ما حدث في بعض المجتمعات الأوروبية التي خاضت نفس التجربة وأخرجت الفلسفة من حيّزها الرسمي والأكاديمي بتوسع مساحاتها في أروقة المجتمع. وأكد التريكي أن المعهد سيقدم دروسًا غير إشهادية في الثقافة الفلسفية بشكل دوري، كما سيقدم الإصدارات الفلسفية الجديدة وسيحدث مكتبة مختصة في الفلسفة وجوائز تمنح سنويًا للفاعلين في هذا الاختصاص الحيوي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

محمد علي الكبسي: كنّا أوّل من قام بالتمييز ﺑﻴﻦ التنوع والاختلاف (حوار– 1/2)

محمد علي الكبسي: تونس لم تعد قادرة على التعبير عن نفسها (حوار - 2/2)