30-مارس-2021

"لونيفار" كان فضاء حالمًا لليسار التونسي وللثقافة البديلة (رمزي العياري/الترا تونس)

 

تصدير: "إن أعادوا لك المقاهي القديمة.. من يعيد لك الرّفاق..." 

(محمود درويش)

 

الخوض في علاقة الإنسان بالمكان هو مغامرة داخل مفازة الكلام ودلالاته ومعانيه البعيدة، إنه السّير على أرض زهرها فخاخ وألغام من الفكر والتفلسف، فهذه العلاقة الشائكة تبدو غير مفهومة وغير محسومة، فهي تنسجها عبر أزمنة مترابطة، أحداث وشخصيات أساسية وأطياف المارّين عبر أفنية المكان والقصائد التي بذلت على النواصي ونبتت مع أصص القرنفل والنعناع الذي يملأ أحيانًا جنبات المكان.

ولا ننسى تلك السرديات الصغيرة والكبيرة التي قدّت من طواحين الكلام وتحالفات الورد البرّي مع انعكاسات الغروب على أقصى جدار يسند المكان ويمنع عنه الموت، فالأمكنة تموت كلّما هجرتها حمامُ القلب.

يتحوّل المكان إلى عنصر جذب وغواية، فننخطف إلى الكاريزما التي نسجت حوله لنجلس إلى جداوله دون أن نشعر ونجول بأعيننا المندهشة بحثًا عنّا في ينابيع قوته

قد ينشدّ الإنسان إلى مكان فسيح عميم بالكروم ورشيد بالعيون الجارية أو بيت قديم مازال حبل غسيله صامدًا أمام ريح الشمال يروي قصص من مرّوا وغادروا للى الأبد مبتسمين لأنهم لم ينسوا قوت الحمام قبل الرحيل، أو زقاق خلفي تتدلّى فوانيسه درّية الأنوار، أو صخرة يعشش في أكوانها اليمام والقبّر وكانت مجلسًا يوميًا للأجداد للضحك والتأمل، أو مقهى قاتلت من أجل بقائه الكلمات والهمسات ورائحة القهوة تذرع المساءات قرب ينابيع الشعر والأيديولوجيا والسياسة.     

في كل مدينة وفي كل قرية وداخل كل غابة وقرب كل الشواطئ والأنهار وحذو أشجار اللوز وباسقات النخيل وعلى التخوم والسهول الفسيحة وعلى طول الجسور والساحات القديمة، هناك زوايا وأمكنة محبّبة وجذّابة وخاطفة لقلب الإنسان، فقط  لجمالها أو فتنتها أو لذكرى جلاّسها أو لتحوّلها مع الزمن إلى عنوان لغروب أهلّة المساء أو لأنها شهدت شهقة الشهيد قبل أن يرتطم دمه بفوهة بندقية قاتله، أو نظرة أخيرة لشاعر مجهول على جدار عتيق  بحانة المدينة، أو ذكرى بحّارة جلسوا في ركن من الرصيف لينسجوا شالات صوفية لحبيباتهم على إيقاع رشفات قهوة سوداء يفوح منها الحب وينبت على أديمها اللّامرئيّ قوس قزح. 

هكذا يتحوّل المكان إلى عنصر جذب وغواية، فننخطف إلى الكاريزما التي نسجت حوله لنجلس إلى جداوله دون أن نشعر، ونجول بأعيننا المندهشة بحثًا عنّا في ينابيع قوته، فترسم قلوبنا الصغيرة إحداثيات الإلهام في المكان الساحر.   

اقرأ/ي أيضًا: في عوالم مقهى البرلمان التونسي.. توافقات وصراعات

وفي تونس كما في عديد الأمكنة من العالم، هناك العديد من الأمكنة الجاذبة الملهمة لكننا سنفرد حديثنا هنا عن "مقهى الكون" أو مقهى "لونيفار" كما يحلو للتونسيين تسميته.

مصدر الصورة: موقع كابيتاليس

 

"لونيفار" هو أول مقهى يعترضك مباشرة بعد كاتدرائية القديس سان فانسان دي بول بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس. ليس بعيدًا عن تمثال العلامة عبد الرحمن بن خلدون، حارس المعرفة في البلاد، ينبت "مقهى لونيفار" بسيطًا كعشبة منسية على خدّ مزراب، فهو يبدو للوهلة مقهى وحانة شعبية لا تختلف عن بقية المقاهي والحانات بشارع الشوارع لكن هذا المكان هو متحف للذكريات.

ينبت "مقهى لونيفار" بسيطًا كعشبة منسية على خدّ مزراب، فهو يبدو للوهلة مقهى وحانة شعبية لا تختلف عن بقية المقاهي والحانات بشارع الشوارع لكن هذا المكان هو متحف للذكريات

هنا في "لونيفار" عندما تجلس لنفسك على ناصيته وتشرع في التأمل تسمع حفيف الأيديولوجيا وتلمس عرائش روحك أصوات من غادروا.. هنا ينفتح قلبك على عالم من الاستعارات السميكة، هي شاهدة على جزء من التاريخ الثقافي والسياسي بتونس.

"مقهى لونيفار" يقابله من الضفة الأخرى من شارع بورقيبة "مقهى باريس" وهو مقهى خاص بالطبقة البورجوازية عامة، لكن مع بداية ستينيات القرن العشرين تشكلت داخل أروقته مجموعات من المثقفين الميسّرين المشتغلين مع سلطة فتية منهمكة في بناء دولة الاستقلال، ومن هؤلاء المثقفين نذكر جماعة مدرسة تونس للرسم وفي مقدمتهم الرّسام زبير التركي، عمّار فرحات ومسرحيين مرموقين من الفرقة البلدية التي كان يرأسها علي بن عياد وموسيقيين مثل محمد القرفي وشعراء مثل الشاعر منوّر صمادح.

وقد ساهمت هذه المجالس الثقافية اليومية بمقهى باريس في رسم التوجهات والأحلام الثقافية لتونس التي هيمنت عليها الثقافة الفرنسية لعقود طويلة حتى أنه راجت في تلك الأيام مقولة شهيرة وهي "تونسة الثقافة"، لكن وفي الوقت نفسه دفعت هذه الجلسات الثقافية إلى نشأة جلسات أخرى مضادة لها "بمقهى لونيفار" جمعت المنشقين وغير الرسميين والمختلفين وغير المنخرطين في التصور البورقيبي للحياة الثقافية التونسية. 

جمعت "لونيفار" جلسات للمنشقين وغير الرسميين والمختلفين وغير المنخرطين في التصور البورقيبي للحياة الثقافية التونسية خلال القرن الماضي 

وقد عرف "لونيفار" أوج جلساته الثقافية في السبعينيات والثمانينيات وخاصة الجلسات التي كانت تجمع كلاً من الروائي والصحفي حسن بن عثمان والشاعر محمد الصغير أولاد أحمد والناقد الثقافي أحمد حاذق العرف (الامبراطور) والروائي والمترجم حسونة المصباحي، الذي ينضم إليهم كلما عاد من ألمانيا حيث كان يقيم. ويزور المقهى رموز من الجامعة التونسية مثل توفيق بكار وصالح القرمادي ويأتيه أيضًا المحامون والأطباء.  

كما كان يجلس في هذا المقهى الممثل المسرحي المنصف السويسي والشاعر المنصف المزغني والفيلسوف كمال الزغباني والشاعر رحيّم الجماعي والرسام حسين مصدق وعمار القاسمي عميد الفرقة الموسيقية "الحمائم البيض".

ومع التسعينيات، ظهرت مجموعة أخرى من الكتّاب والمثقفين كانت تجلس على ناصية المقهى ولنا أن نذكر مثلاً من الشعراء عبد الرزاق المسعودي وعبد الفتاح بن حمودة والكاتب والصحفي ناجي الخشناوي.

صورة مقهى لونيفار من الداخل (رمزي العياري/الترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا: أشهر 7 مقاهي في العاصمة تونس

"لونيفار" كان فضاء حالمًا لليسار التونسي وللثقافة البديلة الحرّة المتخلصة من أوثان السياسة فأغلب القيادات التاريخية للاتحاد العام لطلبة تونس (نقابة طلابية بالجامعة التونسية لها توجهات يسارية) وأغلب الطلبة المنخرطين فيه كانت لهم صولاتهم وجلساتهم السرية والعلنية بـ"مقهى الكون"، لقد رسموا وطنًا جميلاً غير قابل للتحقق في ظل حكمين متسلّطين، لكن الثورة أنصفتهم ودفعتهم نحو الحلم من جديد.

عرف "لونيفار" أوج جلساته الثقافية في السبعينيات والثمانينيات وخاصة الجلسات التي كانت تجمع كلاً من الروائي حسن بن عثمان والشاعر محمد الصغير أولاد أحمد والناقد الثقافي أحمد حاذق العرف (الإمبراطور) والروائي والمترجم حسونة المصباحي

جلس إلى "تيراس لونيفار" الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو عندما كان مدرّسًا بقسم الفلسفة بإحدى أمجد الكليات التونسية، وهي كلية 9 أفريل،وذلك في ثمانينيات القرن الماضي. ولعل فوكو استلهم من هذا المكان والفضاء المحيط به المطل أساسًا على ساحة الاستقلال التي يتوسطها تمثال ابن خلدون والتي شهدت زمن الاستعمار الفرنسي أعتى المظاهرات والاحتجاجات المطالبة بالحقوق المسلوبة للتونسيين وضمنها في بعض كتبه التي كتب بعضها أثناء إقامته التونسية مثل "المراقبة والمعاقبة" و"الكلمات والأشياء".

المقهى الذي بات مطبوعًا باليسارية في كل شيء، زاره الفنان الفرنسي الملتزم ليو فيري سنة 1985 وهو المعروف بمواقفه المنحازة للقضايا العادلة للشعوب وذلك عندما دعته تونس لإحياء حفل بالمسرح الأثري بقرطاج، ويذكر أن  جمهورًا من المثقفين التونسيين حضروا الجلسة مع ليو فيري وقد رفعت هذه الزيارة من المنسوب الرمزي للمقهى الشهير. 

"مقهى لونيفار" حافظ على بساطته وناصيته على شارع الشوارع لكنه لم "يمتحف" نفسه كأن يزين جدرانه المثقلة بالذكريات بصور من مرّوا ومن جلسوا    

"مقهى الكون" تحوّل مع مرور السنوات إلى مكان ملهم تمامًا كمقهى "ريش" بشارع طلعت حرب بالقاهرة الذي كان محجّة للمثقفين والصحفيين المصريين منذ 1909 وإلى اليوم، والذي وصفه نجيب محفوظ بأنه أجمل مكان في الكون لتأمل الناس أو مقهى "لا فلوريديتا" بالعاصمة الكوبية هافانا، الذي جلس إليه الرّوائي الأمريكي إرنست هيمنغواي لسنوات طويلة جعلت من المقهى إحدى أهم الأماكن السياحية في كوبا. 

"مقهى لونيفار" حافظ على بساطته وناصيته على شارع الشوارع لكنه لم "يمتحف" نفسه كأن يزين جدرانه المثقلة بالذكريات بصور من مرّوا  ومن جلسوا كما لم تذهب البحوث إلى إفراد المقهى الشهير بكتاب يخلّد ذكراه للأجيال القادمة.

                

اقرأ/ي أيضًا:

افتتاح أول مقهى نسائي في حي التضامن!

المقهى العالية بسيدي بوسعيد.. أصالة ورمز للمدينة