26-مارس-2021

كان مقهى البرلمان أو القبة السفلية، المكان الأقل مسرحة إلى وقت قريب

 

كانت الأجواء مشحونة داخل قاعة الجلسات في ذلك اليوم، وهو أول يوم لي في المجلس التأسيسي، كمراسلة صحفية لإذاعة جهوية، قبل أن أدرك أن الأيام ستتشابه حتى تصبح واحدة مع اختلاف الموضوع، الكل ضد الكل، بينما تلتقط الكاميرا مداخلات النواب، التي تذاع مباشرة عبر التلفزيون التونسي.

كنا نترقب الوضع ونسجل ما تجود به قريحة المتدخلين من قرائن وحجج. وحين يخرج بعضهم لفترة قصيرة نحاول الحصول على تصريح حصري لإضفاء الوضوح على بعض السجالات، أسبابها وأبعادها.

بعض المواقف قد تتغير وتجد بعض الخلافات نقاط التقاء بعيدًا عن الأضواء داخل قبة البرلمان، وذلك تحديدًا في مقهى البرلمان، أين تختفي كل  أجواء المسرحة 

لكن بعض المواقف قد تتغير أو تتعدل وتجد بعض الخلافات نقاط التقاء بعيدًا عن الأضواء داخل قبة البرلمان، فخارجها وتحديدًا أسفلها، تختفي أجواء المسرحة بما تجسده من أبعاد اتصالية وثلاثية صاحب الرسالة (النائب)، المتلقي (الجمهور) والوسيلة (التلفزيون).

خارج هذا المربع، تتغير الأساليب والغايات وحتى الأدوار، ليس فقط داخل لجنة التوافقات التي تحاول إيجاد سبل التقاء بين الفرقاء، لكن أيضًا داخل مقهى البرلمان، القبة السفلية والمكان الأقل مسرحة والأكثر واقعية. ووفق هذا السياق الجديد قد يصعب فك الشيفرة.

المقهى السياسي في تونس

لطالما كان المقهى فضاءً لتبادل الآراء السياسية والمعارضات الشعرية وحتى الخصومات، التي تتأجج نارها إذا كان أحد الطرفين شخصًا لا يقبل التنازل أو الاستسلام لفكرة تجابه فكرته أو تفوتها دقة وإقناعًا، أو بلهجتنا التونسية المحلية "نغار".

وتاريخيَّا مثلت العديد من المقاهي، أشهر الفضاءات التي اجتمع فيها رواد الفكر والأدب في تونس، لعل أبرزهم عبد العزيز الثعالبي، الذي كان يلتقي في مقهى (التوتة) بالحلفاوين، مع أصدقائه ومريديه، قبل أن تتوسع الدائرة وتصبح أكثر جماهيرية.

إذ كانت المقاهي فضاءً لتشكل الرأي العام، والتقاء الأفكار على غرار السياق الذي برزت فيه جماعة تحت السور، بما عكسته من وعي سياسي واجتماعي وتقارب مع الفئات الشعبية، لتقاطع مطالبها وتوقها للتحرر.

يقول عبد اللطيف الحناشي، أستاذ التاريخ  المعاصر في الجامعة التونسية لـ"ألترا تونس"، إن المقهى لعب دورًا في تشكيل الوعي السياسي في تونس قبل الاستقلال وكانت أغلبها في المدينة العتيقة، وأخرى بعد الاستقلال في الحي الأوروبي، مثل مقهى البرلمان في شارع شارل ديغول، الذي جمع ثلة من الطلبة التونسيين حول نقاشات سياسية، أو مقهى باريس وغيرها الكثير.

طالما كانت المقاهي فضاءً لتشكل الرأي العام والتقاء الأفكار في تونس على غرار السياق الذي برزت فيه جماعة تحت السور، بما عكسته من وعي سياسي واجتماعي

فماذا لو كان المقهى داخل مؤسسة سياسية تشريعية، تجتمع فيها "النخب" السياسية، لتحديد السياسات والمصادقة على القوانين التي تهم البلاد؟

مدخل مقهى البرلمان التونسي

مقهى البرلمان.. لجنة توافقات بعيدًا عن الكاميرا

بعد الثورة التونسية عام 2011، اشتهر مقهى البرلمان، ليس فقط لما يمثله من متنفس في ظل التشنج والخلافات الحاصلة، لكن باعتباره لجنة التوافقات الثانية، أحيانًا. ولعله يوازي قبة البرلمان رغم اختلاف سعة المكان وقيمته، فكلاهما على الجهة اليسرى، الأولى تعترضك قبالة بهو المجلس، قاعة يحميها سياج ملون، بابها ضخم ولها حراس يحمونها، وفي الداخل ممثلة بشكل مسرحي يبدع فيها الساسة أمام الكاميرا.

أما الثانية فنجدها أقصى اليسار بعد تجاوز البهو ثم الدخول في ممر طويل على شكل قاعة جلوس، حتى نصل إلى درج سفلي، بعد تجاوزه يعترضنا فضاء أكثر واقعية وعفوية، وفيه كواليس لا تنقلها الكاميرا إلا استثناءً، لكن الصحافيين البرلمانيين غير غافلين عنها.

عبد اللطيف الحناشي، أستاذ التاريخ المعاصر لـ"ألترا تونس": المقهى لعب دورًا في تشكيل الوعي السياسي في تونس قبل الاستقلال وكانت أغلبها في المدينة العتيقة وأخرى بعد الاستقلال في الحي الأوروبي

تقول آمنة السالمي، صحفية برلمانية منذ مرحلة التأسيس البرلماني، من خلال مواكبتها لأشغال 3 مجالس نيابية منذ الثورة إلى اليوم، إنه "على خلاف القاعات التي تعقد فيها الجلسات الرسمية لمناقشة القوانين والتصويت عليها أو جلسات منح الثقة للحكومات المتعاقبة، فإن عديد الأروقة داخل البرلمان كانت أماكن تجتمع فيها الأضداد، وأقصد بذلك نوابًا من كتل برلمانية مختلفة وأحيانًا نوابًا من كتل بينها خصومة سياسية كبيرة". 

وبينت أن المقهى "غالبًا ما يكون مكانًا يعم فيه التناغم والانسجام بين ألد الخصوم، حتى تكاد لا تصدق أن من يجمعهم التناغم والوفاق في زاوية من زوايا مقهى البرلمان هم نفس النواب الذين يدخلون في نقاشات حادة تصل حد المشادات الكلامية وكيل التهم لبعضهم البعض، وأحيانَا تصل إلى حد التشابك بالأيدي والعنف المادي داخل قاعة الجلسات". 

كما كان المقهى، وفق حديث السالمي لـ"الترا تونس"، شاهدًا على إبرام عدة توافقات، ويلجأ ممثلو بعض الكتل إلى هذا الرواق داخل المجلس لتقريب وجهات النظر المخالفة لهم بهدف تمرير مشروع قانون وتوفير النصاب القانوني المطلوب أو للإقناع بمرشحيهم لأحد الهيئات الدستورية، ناهيك عن جلسات منح الثقة للحكومات والتي تشهد كواليسها تجمعات غير مسبوقة للنواب من كتل متصارعة في أروقة البرلمان المختلفة، في مساع من الكتل المؤيدة للحكومة لكسب الأصوات أو للعمل على إسقاطها من قبل الكتل الرافضة لها".

وهو ما أكده مراسل صحيفة الشروق التونسية، سرحان الشيخاوي لـ"ألترا تونس"، قائلًا إن "مقهى البرلمان هو القلب النابض لهذه المؤسسة، فما يحدث ويُحاك في المقهى وفي الكواليس يترجم في شكل قرارات رسمية، يصادق عليها في الجلسة العامة"، مؤكدًا ضرورة اطلاع الصحفي على ما يحدث داخله من كواليس حتى تكون الصورة كاملة بالنسبة إليه.

آمنة السالمي، صحفية برلمانية لـ"الترا تونس": غالبًا ما يكون مقهى البرلمان مكانًا يعم فيه التناغم  حتى تكاد لا تصدق أن من يجمعهم هذا التناغم هم نفس النواب الذين يدخلون في نقاشات حادة تصل حد المشادات

يقول الشيخاوي "شخصيًا أحرص على أن أكون مواكبًا لكل ما يحدث هناك، فبعض اللقاءات التي يعتبرها البعض تلقائية أو عفوية، تعني لي الكثير وما لقاءات المقهى وحديث الكواليس إلا أرضية تُبنى عليها الاصطفافات". 

وأوضح  أن عدة اتفاقات انطلقت شرارتها من المقهى، على غرار التصويت على التحوير الوزاري الذي دفع به رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد إلى البرلمان، والذي تم بموجبه تعويض وزير الداخلية الأسبق لطفي براهم بهشام الفوراتي في جويلية/يوليو 2018.

وقال "في البداية كانت الأصوات التي سيتحصل عليها الفوراتي لا تتجاوز 80 صوتًا، لكن بعد أكثر من سبع ساعات حاسمة، وقعت خلالها لقاءات عديدة في المقهى وفي الكواليس، انتهت بتغيير النتائج والتصويت على التحوير ومرور الوزير الجديد بـ 148 صوتًا".

سرحان الشيخاوي، صحفي برلماني، لـ"ألترا تونس": "مقهى البرلمان هو القلب النابض لهذه المؤسسة، فما يحدث ويُحاك في المقهى وفي الكواليس يترجم في شكل قرارات رسمية، يصادق عليها في الجلسة العامة"

مقهى البرلمان التونسي

المقهى كامتداد للصراع السياسي..

تحول مقهى البرلمان مؤخرًا إلى مربع لكيل الاتهامات وتسجيل نقاط سياسية، وأصبح خاضعًا للمسرحة والتمثيل والتمايز بين الكتل، في الدفاع المستميت عن نادل تعرض لما اعتبره النواب هرسلة من النائبة عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري الحر.

كانت عبير وكعادتها تجوب المجلس عبر خاصية المباشر، تُخضع الجميع لفكرة أن يكونوا متاحين للعموم دون استشارتهم، حتى تجنت ظلمًا على منظفة في المجلس وعلى الصحفي سرحان الشيخاوي، حين فتحت بابًا صادف خروج الصحفي منه ووجود منظفة في زاوية على شكل غرفة، تظهر بصدد استكمال مهامها قبل الخروج.

الصحفي سرحان الشيخاوي، الذي عاد إلى منزله بعد يوم عمل مضن دون أن يدرك وقوعه في شرك النوايا السيئة، وجد نفسه محل شبهة هو منها براء، ليكشف حقيقة وجوده في المكان ذاته، حيث لعبت الصدفة دورها.

تحوّل مقهى البرلمان مؤخرًا إلى مربع لكيل الاتهامات وتسجيل نقاط سياسية، وذلك إثر اتهامات وجهتها النائبة موسي لأحد الصحفيين ولعاملة في البرلمان إضافة إلى نقاشاتها التي تبث مباشرة حتى مع عاملين في المقهى

أما النائبة عبير موسي، التي كانت محل تساؤل من الجميع لاتهامها زورًا أشخاصًا ذنبهم الوحيد أنهم وقعوا أمام كاميرا هاتفها، فقد أخضعت الجميع مجددًا لخاصية المباشر، تُشهد نادل المقهى على حيثيات الواقعة وتبرئ نفسها مما أمعنت فيه قبل يوم، فأوقعت نفسها في مطب آخر داخل المقهى.

وأعادت النائبة بذلك تشكيل هذا الفضاء برؤية جديدة، بعيدًا عن الاتفاقات والانسجام، وأقرب للخلاف والتواطؤ والاتهام.

النائبة عبير موسي "تستجوب" نادلًا بمقهى البرلمان وهو فيديو قد أثار استياء واسعًا

 

ومن المرات القليلة التي ينزل فيها السياسيون بكل ثقلهم ليكرموا نادلًا، أهديت له باقة ورود، وزاره رئيس البرلمان وجلس معه على الطاولة ذاتها في صورة رمزية اختلف فيها نمط التفاعل بين الشخوص.

وكانت أيضًا المرة الأولى، التي يشهد فيها صحفي على اتهامه ويكون موضوع نقاش، عوض أن يكون الحلقة التي تنقل وتغطي الأحداث من الكواليس. 

في هذا السياق، يقول الشيخاوي لـ"الترا تونس"، إنّ الزج بالصحفيين في المعركة السياسية يعود إلى عوامل مختلفة، منها حالة هستيريا أصابت عددًا من السياسيين، الذين دخلوا في منطق "الشعبوية" خطابًا وسلوكًا وهو ما جعلهم يصطدمون بالإعلام في محاولة لإرضاء قواعدهم. 

وهي وفق رأيه، محاولة للقيام بعملية فرز تطال الجميع بما في ذلك الإعلام، الذي يراد له الاصطفاف في هذه المعركة إما مع هذا السياسي أو الحزب أو ذاك، ومحاولة لتأسيس مفهوم السياسي "المظلوم" أو إعادة بعض الأسماء إلى السطح، باستهداف الصحفي.

وبيّن أن هذا الفضاء طاله ما طال كل الأمكنة داخل البرلمان، "تحوّل المقهى إلى مساحة صراع سياسي، بعد أن كان مساحة للفعل السياسي غير الرسمي ووقتًا مستقطعًا".

سرحان الشيخاوي: أصبح مقهى البرلمان شديد التغطية وانتقل من العفوية في مستوى السلوك إلى احتساب كل خطوة وكل تصرف داخله، وذلك بعد أن اجتاحت خاصة "المباشر" كل أركان البرلمان

وتابع "كان هذا المكان خارج نطاق التغطية والتصوير، والجميع يجلس فيه بأريحية حتى الأضداد السياسية يمكن أن تجلس على طاولة واحدة، لكن اليوم أصبح شديد التغطية وانتقل من العفوية في مستوى السلوك إلى احتساب كل خطوة وكل تصرف داخله". 

كما بينت السالمي، أن مقهى البرلمان كان أقل ضجيجًا وصخبًا من قاعات الجلسات العامة أو اللجان وتكاد تنعدم فيها المشاحنات بين الفرقاء السياسيين، التي تُنقل صوتًا وصورةَ عبر وسائل الإعلام، مما هو حاصل اليوم.

بعد أن كانت القبة السفلية ملجأ صارت مطاردة سياسيًّا، فشبح الخصومات يخيم على المؤسسة التشريعية الأولى في تونس برمتها، وهي اليوم في مواجهة الأضواء في كل أروقتها بفضل خاصية المباشر، لكن التوافقات والاصطفافات ستجد مكانها حتمًا، وإن كانت خارجه، لكن بنكهة أخرى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أشهر 7 مقاهي في العاصمة تونس

المقهى العالية بسيدي بوسعيد.. أصالة ورمز للمدينة