24-مايو-2019

شاعر قد لا يرقى إلى جماهيريته شاعر آخر في تونس

 

الشاعر المنصف المزغني شخصية ثقافية تونسية إشكالية وغير نمطية، عاشت أهم المراحل والمحطات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي عرفتها تونس منذ سبعينيات القرن الماضي إلى اليوم.

هو شاعر قد لا يرقى إلى جماهيريته شاعر آخر في تونس، ولكن يحوم نقاش مطوّل حول هذا الذيوع، بين من يرى أن إضفاء بهارات مسرحية على أسلوبه في إلقاء الشعر وانجذابه نحو الميديا هي سبب شهرته بين الناس، وبين من يرى، من الباحثين والنقّاد الجامعيين المختصين في فن الشعر، أن المزغني شاعر مجيد لا يترك الكلمات تسري على عواهنها بل يحكّكها ويدققها ببراعة لا يباريه فيها ناظم، ولعلّ شهادة محمد الهادي الطرابلسي، عميد كلية الآداب بمنوبة في التسعينيات، حول مدوّنة المزغني الشعرية خير دليل.

الشاعر المنصف المزغني شخصية ثقافية تونسية إشكالية وغير نمطية وهو شاعر قد لا يرقى إلى جماهيريته شاعر آخر في تونس

اقرأ/ي أيضًا: أيام قرطاج الشعرية.. هاجس التأسيس لا يمنع التفلسف حول جدوى الشعر

منتدى الفكر التنويري التونسي اختار الاحتفاء بالمسيرة الأدبية للمنصف المزغني تحت عنوان "سحريّة اللغة وسقف الكلام" على امتداد يومي 20 و21 ماي/آيار 2019 بمدينة الثقافة بالعاصمة ضمن أنشطة المنتدى الذي ترعاه وزارة الشؤون الثقافية، وقد كرّم سابقًا العلامة حسن حسني عبد الوهاب، والكاتبة نافلة ذهب والروائي والقاص حسن نصر.

وما إن تم الإعلان عن الاحتفاء بالمزغني في المنتدى حتى ارتفع النقاش من جديد سواء عبر المنصات الإعلامية المتنوعة أو شبكات التواصل الاجتماعي حول المواقف السياسية للشاعر قبل الثورة سواء في الفترة البورقيبية أو النوفمبرية، وأيضًا حول مدوّنته الإبداعية بشقيها النثري والشعري في شكلها ومضمونها، لكن كانت السّهرتان بمثابة الإجابة على الأسئلة المطروحة.

مجمل المداخلات والشهادات والبورتريهات المعروضة خلال فعاليات الاحتفاء بالشاعر قدمها كتاب مرموقون وجامعيون وأصدقاء مقربون منه، من بينهم صالح بن رمضان، وأحمد حاذق العرف، ومحمد صالح بن عمر، وآمال مختار، وشكري السلطاني، ونور الدين بالطيب، وعبد القادر العليمي، ونور الدين صمود وحسن بن عثمان.

ودون الخوض في تفاصيل المحاضرات التي ستُنشر لاحقًا ضمن عدد خاص من مجلة الحياة الثقافية، بدت شخصية المزغني من خلال ما ذُكر متعددة ومتقلبة وآسرة وعابثة وساخرة وعفوية وكوميدية ومخاتلة وجريئة وهادئة.

الشاعر المنصف المزغني شخصية ثقافية تونسية إشكالية وغير نمطية

 

المزغني الذي قدم من مدينة صفاقس إلى العاصمة في السبعينيات وهو بعد في أوج شبابه، كان يحمل صوت الشاعر بيد وجموح أحلامه باليد الأخرى، وتسكنه الأيديولوجيا ويغمره الأمل في تغيير مجتمعه.

أصدر "عناقيد الفرح الحاوي" سنة 1981، ثم "عيّاش" سنة 1982 وهي أشهر مجاميعه لنفسها الملحمي ووعيها بتردّي الأوضاع التونسية. كان الشاعر في تلك الفترة غرامشيًا مناضلًا في دروب الحرية، لكن ريح السياسة في زمن الحبيب بورقيبة كانت عاتية فوجد نفسه في السجن رفقة زمرة من المعارضين وكان ذلك درسه الأول.

لم يخفت صوته بعد السجن بل ظل وفيًا لـ"ريشة البطة" يكتب شعرًا ذهبيًا وشعبيًا، فنشر سنة 1989 "قوس الرياح" ثم "حنظلة العلي" وهي قصائد في تناصّ مع رسومات ناجي العلي ويتبدى في هذا الكتاب التزام للشاعر بالقضية الفلسطينية.

المزغني الذي قدم من صفاقس إلى العاصمة في السبعينيات وهو بعد في أوج شبابه كان يحمل صوت الشاعر بيد وجموح أحلامه باليد الأخرى

اقرأ/ي أيضًا: اتحاد الكتّاب التونسيين.. هل بات إرث الماضي عبئًا نحو المنشود؟

مع حلول التسعينيات، سلك الشاعر مسلكًا آخر خفت فيه صوته النضالي بالمعنى السياسي والاجتماعي، فقلّ نشره فكسر "ريشة البطة " ومسك "الريشة الذهبية" وأصبح مديرًا لبيت الشعر، وانشغل بتأسيس المكتبة الشعرية التونسية وتنظيم الندوات الشعرية والأدبية التونسية والعربية.

كما جنح قلمه في تلك الفترة إلى أسلوب جديد في الكتابة الشعرية وهو قصيدة "الهايكو" اليابانية حيث الإيجاز والتكثيف، لكن المزغني أضفى عليها أسلوبه في الإلقاء المصبوغ بالمسرح الكوميدي وهو ما جعله جماهيريًا وجذابًا إعلاميًا في تونس وخارجها. وكانت خلاصة هذه التجربة مجموعة "حبّات" التي أصدرها سنة 2002 عن دار الأداب اللبنانية.

وفي السنوات التي سبقت الثورة، بدا المنصف المزغني تأمليًا في كتاباته الشعرية فكان يبحث عن تصميمات أخرى للقصيدة، يقف على سقف الكلام منقبًا في أرض الشعر عن صور نادرة فعاد للمطوّلات في الكتابة وأشهرها قصيدته "أغنية امرأة عائدة من الحرب"، كما غير أسلوبه في الإلقاء في اتجاه ترنيم قصائده.

جنح المنصف المزغني في التسعينيات إلى أسلوب جديد في الكتابة الشعرية وهو قصيدة "الهايكو" اليابانية حيث الإيجاز والتكثيف وأضفى عليها أسلوبه في الإلقاء المصبوغ بالمسرح الكوميدي

الشاعر المحتفى بمسيرته "لا يعتقد في الإلهام الشعري" كما ذهب محمد صالح بن عمر في كتابه الذي أصدره حول التجربة الشعرية للمزغني سنة 1996. فالشعر بالنسبة إليه صنعة وكل صورة في القصيدة هي نتيجة بحث وتنقيب عن دقائق اللغة و"توظيفها اللّعبي" ولا تخضع لقواعد الصدفة وهو بذلك يشبه الشاعر الفرنسي بول فاليري الذي يعتقد في السيطرة الشكلية على القصيدة.

وقد تضمن اللقاء الاحتفائي معرضًا وثائقيًا يروي مسيرة المنصف المزغني منذ يفوعته بمسقط رأسه بصفاقس وبداياته الشعرية ولقاءاته مع كبار الشعراء العرب على غرار محمود درويش ونزار قباني وعبد الوهاب البياتي و بلند الحيدري والطاهر الهمامي وأولاد أحمد، وكذا أسفاره لأهم المهرجانات الشعرية العربية والعالمية عدا عن إصداراته ومقالاته، وهو ما يؤكد عمق التجربة الإبداعية واتساعها.

المزغني بعد الثورة لم يعد صوته بتلك القوة التي كان عليها في السبعينيات والثمانينيات رغم نضج تجربته ومراكمة النشر والسفر والكتابة في الصحافة التونسية والعربية والاحتفاءات التي تأتيه من هنا وهناك، لكنه يظل علمًا من أعلام الثقافة والشعر في تونس يمتطي سحرية اللغة ويقف على سطح الكلام.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فن الأدبة أو الشعر الملحون التونسي.. ذاكرة شعب للاضمحلال

8 تواريخ في حياة شاعر تونس أبو القاسم الشابي