ثمّة مناطق داخل أقبية الذّات لا يطالها إبداعيًّا سوى المسرح دونًا عن بقيّة الأشكال الإبداعية الأخرى وذلك لأنّ المسرح هو فعل إبداعيّ يحفر بلا هوادة وبلا ادعاء في صخرة الحياة الصلبة والمريعة. المسرح تمتدّ يده عميقًا نحو ثنايا الرّوح هناك حيث تسكن، فيستنبت لها أجنحة من صميم خلجاتها ولا يتوانى على تدريبها على الطيران عاليًا في سماءات التساؤل علّ الأجوبة ترذّ الأديم فتكون الحياة بطعم مغاير.
على خشبة مسرحيّة "سكون" تتكسّر نصال الأزمنة على دروب الأمكنة التي قطعتها الذات ترحالًا مرًّا لذيذًا فيما يشبه الألم
هذا بعجالة وعلى سبيل المدخل ما حاولت مسرحية "سكون" لنعمان حمدة توطينه على خشبة قاعة الفنّ الرّابع بتونس مساء الجمعة 7 فيفري/ شباط 2020. طيلة العرض تبدو الخشبة خالية تمامًا من أيّ ديكور عدا بعض المتممّات الصغيرة بالكاد تلتقطها عين المتلقّي في زحمة إنارة أنجزها كمال السّحباني. وقد بدت متقشّفة لأبعد الحدود فلكأنّنا في غسق يتشبث به الليل ويأبى تركه. يقف الممثل وحيدًا في أقصى الركح الملفوف بالديجور، منهكًا كقارب خشبي قديم لفظه البحر للتوّ، ومعه تبدأ رحلة دائريّة مشرّعة على الأسئلة الحارقة.
اقرأ/ي أيضًا: صوت فلسطين الحرّة.. حينما يُلقي الثلاثي جبران قلوبهم على الركح
هنا... على خشبة مسرحيّة "سكون " تتكسّر نصال الأزمنة على دروب الأمكنة التي قطعتها الذات ترحالًا مرًّا لذيذًا فيما يشبه الألم. هنا لا مجال لأسئلة من قبيل متى؟ وأين؟ إنه المطلق الذي تعشقه الذات المنكسرة، المنهكة، التي عبثت بها أعاصير الحياة، حيث كلّ شيء منساب كجدول في حقل فسيح.
ما حدث على الخشبة هو أن تخرج من الذّات الأصلية ذات أخرى فيما يشبه الولادة الرمزيّة. ويدأ الحوار بينهما حول كل شيء، تمامًا كما فعل الروائي الإيطالي ألبارتو مورافيا في روايته "الأنا والهو". الحوارات التي حصلت بين الذّات المنكسرة وصداها الذي تحول بدوره إلى ذّات أخرى شبيهة، كانت حوارات كالكوابيس التي تصيبنا خلال النوم متلعثمة وغائمة مشفّرة المعاني.
في هذه الحوارات طرحت الأسئلة الوجودية التي عادة ما تطرحها الفلسفة والأديان من قبيل " شكون أنا ؟ منين جيت؟ آش نعمل هنا ؟".
ما يحدث خلال مسرحية "سكون" هو تحول هذا الرّمز اللّذوي إلى "ذات" مستقلة مسكونة هي الأخرى بحرائق اللذة والسّؤال
قد تكون محطّة القطارات التي كانت تقف بها "الذّات" المتكلمة تعلّة لتبيان أن الحياة تشبه القطار، تمضي على سكة الأقدار إلى مجاهل الزمن وما وراء الإدراك العقلي وأنه على الذّات أن تتوقف في إحدى المحطّات ولو لمرّة واحدة، وتقوم بطرح الأسئلة التي يجب أن تطرح حول هذه الرحلة العجيبة. أحيانًا قد لا تتحصّل "الذّات" القلقة بالتساؤل على أجوبة واضحة، لكن في النهاية قد تكون الأسئلة هي الشفاء والضمّيدة.
اقرأ/ي أيضًا: عمار بلغيث.. رسام حوّل أحد كهوف جبال الكاف إلى فضاء للفن
كما يبقى سؤال اللذة سؤالًا محيّرًا ومقضًّا بالنسبة للذات التي تريد التحرر والتوق والطيران في سماءات المطلق، لكن أغلال اللذة جاذبة وقاسية وآسرة. وهنا تبرز على خشبة مسرحية "سكون" الممثّلة أميرة درويش كرمز لأم اللذائذ وأعتاها وأقساها وأبهاها. ويشرع هذا الرمز للذة في ممارسة جبروته على "الذّات" المتكلّمة كسرًا لسؤال طرحته الفلسفة القديمة مفاده " لماذا لا نقيم في اللّذة دون أن تنتهي؟". لكن ما يحدث خلال المسرحية هو تحول هذا الرّمز اللّذوي إلى "ذات" مستقلة مسكونة هي الأخرى بحرائق اللذة والسّؤال.
إن الحوار بين الذاتين نعمان حمدة وأميرة درويش كان مليئًا بالإيماءات الخفية التي تسكن الجسد لكننّا نتغافل على رؤيتها والاهتمام بها، الحوار كان مليئًا بالغمغمات والانكسارات والهزائم والحيرة والرقص والموسيقى. لقد كان صراعًا حيًّا وحوارًا عميقًا بين ذاتين قد تبدوان متضادتين، لكن في لحظة ما من المسرحيّة سرعان ما انصهرا وتحوّلا إلى كائن واحد هو الإنسان.
مسرحية "سكون" كانت فاكهة لعين المتلقّي وحيرة فلسفية كبرى نفّذها الثنائي نعمان حمدة وأميرة درويش بكل ما أوتيا من حكمة الفنّ المسرحيّ
إن هذا العمل الفنّي كان دائري الشكل تماما كحركة "السكون" ضمن حركات اللغة. السكون الذي تلفظه باقي الحركات لغرابته وإقامته الأبديّة على حافّة الكلمات وعلى ذرى الحروف في أواخر الجمل والنصوص. مسرحية دائرية المعنى أيضًا فهي تعود على بدء لتلتقي عند نقطة "الإنسان المألوم".
مسرحية "سكون" التي أنتجتها مؤسسة المسرح الوطني التابع لوزارة الشؤون الثقافيّة، كانت فاكهة لعين المتلقّي وحيرة فلسفية كبرى نفّذها الثنائي نعمان حمدة وأميرة درويش بكل ما أوتيا من حكمة الفنّ المسرحيّ، أداء وإيماء وأحاسيسًا تخرج لتوّها طازجة من روح الممثل التي تسكنهما لتتلقفها أعين المتلقين الشاخصة.
النص الأصلي وقبل تحويله إلى "كوابيس مسرحية جميلة" كان كتابة مشتركة بين نعمان حمدة وليليا الأطرش. لقد حاولا الثنائي الكاتب وكسابقيهم مداواة جراح الإنسان القديمة بالكلمات والوقوف أمام المرآة بكلّ شجاعة، عراة أمام السؤال، عتاة أمام الأجوبة المحتملة. لقد كان نصًّا فلسفيًا بامتياز.
اقرأ/ي أيضًا:
"موسم الهجرة إلى الفنون".. أو حينما تصبح السوق الأسبوعية مسرحًا