05-فبراير-2020

عرض الثلاثي جبران من بين العروض العربية الحاضرة في برمجة الدورة الثانية للمهرجان العربي للموسيقى الملتزمة

 

في فلسطين، يشبّ البعض على المقاومة ويشيبون عليها، أسلحة كثيرة وأساليب أكثر وهدف واحد هو قطع دابر الاحتلال الصهيوني، وبين حجارة ورصاص وهتافات تضادد المحتل ومعزوفات تزيّن دروب البلد الجريح يتجلّى توق ملحّ لمعانقة الحرّية. وجوه كثيرة للاحتلال ووجوه أكثر للمقاومة من بينها الفنون، عالم سرمدي يركن إليه البعض للانعتاق من سطوة الواقع والثورة عليه، عالم يستمدّ تفاصيله من الواقع ويضرب جذوره في أزمنة مختلفة ويبني من الحرف والنوتة أسوارًا من الأمل لا تهاب القصف.

سكوت قصير للموسيقى وضع إثره الإخوة جبران قلوبهم على الخشبة فنبضت بصوت فلسطين وطنهم الذي يحملونه في أوتار أعوادهم

ولأن الموسيقى تقول ما لا يمكن قوله وما لا نستطيع السكوت عنه، اصطفاها الثلاثي جبران لغة يكتبون بها سطورًا وسطورًا عن القضية الفلسطينية وعن المقاومة التي لا يخبو بريقها، وفي عرض ضمن المهرجان العربي للموسيقى الملتزمة كانت ألحانهم صوتًا لفلسطين الحرّة.

اقرأ/ي أيضًا: حوار/ ثلاثي جبران: نرفض "صفقة القرن" وعلينا ديون حب لتونس لابد أن نسددها

حينما يلقي الثلاثي جبران قلوبهم على الركح

"سنمضي إلى حتفنا، أوّلًا، سندافع عن شجر نرتديه.. وعن جرس اللّيل، عن قمر، فوق أكواخنا نشتهيه.. وعن طيش غزلاننا سندافع، عن طين فخّارنا سندافع"، كلمات للشاعر محمود درويش تتسلّل من بين حروفها ألحان العود العذبة وترحل بنا إلى الشرق الجميل.

وعلى ركح قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة، تعانقت الألحان والكلمات والانفعالات والتعابير لترسم ملامح مسرح موسيقي شعري راوح فيه التشكيل الموسيقي بين العود والتشيلو والإيقاعات، ليكون "برزخًا" بين عالمين في تماه تام مع فلسفة قصيدة محمود درويش "خطبة الهندي الأحمر".

موسيقى آل جبران تخاطب روحك ووجدانك لا تملك إلا أن تسكن إليها وتسافر بين نوتاتها

" مساء الحب.. مساء الجمال.. مساؤك يا تونس.. مساؤك يا فلسطين.. اليوم نختتم جولة عالمية بعشرين عرضًا موسيقيًا في تونس، البلد العربي الذي اختلطت فيه دماء شهدائنا بدماء شهدائكم من أجل قضية عادلة.. اليوم سنرمي بقلوبنا على الركح لنقول إنّنا مازلنا نجلم ومازال لدينا أمل في الأمّة العربية والجمهور لنستعيد وطنًا حرًّا عاصمته القدس"، كلمات قالها جبران الأكبر سمير.

"مسيرة طويلة" يمتدّ على تسع مقطوعات موسيقية جذورها ضاربة في قصيدة "خطبة الهندي الأحمر، ما قبل الأخيرة، أمام الرجل الأبيض"

سكوت قصير للموسيقى، وضع إثره الإخوة جبران قلوبهم على الخشبة فنبضت بصوت فلسطين وطنهم الذي يحملونه في أوتار أعوادهم، وانسابت الموسيقى ثائرة متمرّدة وامتزجت برهبة المسرح المحمّل بالرفض، رفض كل نفس حرّ لـ"صفقة القرن".

ومن رحم شعر درويش، تولد الألحان مقاومة تعانق الأعالي ولا تنخفض إلا لتثور من جديد، ألحان تثير فيك عاصفة من الأحاسيس الهوجاء وتحمل إليك تراتيل الشهداء وترانيم الثوار وصرخات الأحرار، مناجاة الأمهات وضحكات الأطفال ودعاء العجائز. "القمر المعلّق" و"زمن الصناعات" ومقطوعات موسيقية أخرى من الألبوم الأخير "مسيرة طويلة"، عزفها الثلاثي جبران وعازف "فيولونسال" فرنسي وعازفي إيقاع أحدهما من شمال فلسطين والآخر من إيران، لتكون الموسيقى جسرًا ولغة تخاطب بين موسيقيين من ثقافات وحضارات مختلفة.

اقرأ/ي أيضًا: عمار بلغيث.. رسام حوّل أحد كهوف جبال الكاف إلى فضاء للفن

و"مسيرة طويلة" يمتدّ على تسع مقطوعات موسيقية جذورها ضاربة في قصيدة "خطبة الهندي الأحمر، ما قبل الأخيرة، أمام الرجل الأبيض"، وعناوينها مستلهمة من كلماتها، وفيه تتجاوز القضية الفلسطينية كل الحدود فيصدح صوت "روجر واترز" مغنّيًا لأطفال غزّة. على إيقاع جمل موسيقية شجيّة تسير في كل الاتجاهات غير مبالية بقيود الاحتلال، يحيي جبران الأكبر "واترز" المؤيّد للقضية الفلسطينية والداعي لمقاطعة دولة الاحتلال فنيًا وثقافيًا، ويداعب أوتار عوده ليشكل رفقة أخويه وسام وعدنان معالم "زمن الصناعات".

وإذ تصاعد صوت الإيقاعات تجلّى "زمن المعادن"، وإذ تسللت أنغام "الفيولونسال" من قطعة الفحم تبزغ شمبانيا الأقوياء، ومع كل نوتة يرسمها الثلاثي في الأثير تتجلّى لك فلسطين باسمة حالمة تهدم كل الحدود لتبث شكواها في كل العالم عبر الكلمة واللحن. مع تصاعد الموسيقى وانخفاضها، تتأرجح مشاعرك بين أوتار العود وانفعالات الإخوة على الركح فتجول بين تعابير وجوههم واهتزازات أجسادهم وهم يغازلون أعوادهم بأنامل محمّلة بقضيّة تتجاوز المدى، فيخلقون موسيقى عربية الهويّة كونية الهوى.

فلسفة وجودية تأويها موسيقى الثلاثي جبران وبعض من التصوّف تجلّى أكثر حينما غنّى العازف الإيراني

وموسيقى آل جبران تخاطب روحك ووجدانك لا تملك إلا أن تسكن إليها وتسافر بين نوتاتها. وبين النوتة والأخرى تنبت لك أجنحة تحملك إلى فلسطين حيث الأبواب العتيقة تفتح ذراعيها لحلم الاستقلال وأشجار الزيتون تؤوي في أحشائها دماء الشهداء ونظرات النصر في أعين أبنائها.

فلسفة وجودية تؤويها موسيقى الثلاثي جبران وبعض من التصوّف تجلّى أكثر حينما غنّى العازف الإيراني، وإن كانت كلمات الأغنية غير مفهومة فإنّك قطعًا ستغرق معه في عالم رسم ملامحه بإحساسه وتعابير وجهه وبصوته الذي يتخطّى حدود اللغة.

"أهواك"، غنّى سمير جبران للجمهور التونسي الذي شاركه الغناء وتفاعل مع الموسيقى التي أوجدها وبقية العازفين على الركح، موسيقى تصوّر الحياة والمقاومة والقدر بما يحمله من حالات وجودية وانفعالات وتفاعلات، موسيقى انتهت إلى جمع الإخوة الثلاثة عند أوتار عود واحد داعبوا أوتارهم وأكنّ أناملهم توحّدت.

"أهواك" غنّى سمير جبران للجمهور التونسي الذي شاركه الغناء وتفاعل مع الموسيقى

عن المهرجان العربي للموسيقى الملتزمة

وعرض الثلاثي جبران من بين العروض العربية الحاضرة في برمجة الدورة الثانية للمهرجان العربي للموسيقى الملتزمة، إذ تشارك في فعالياتها خمسة بلدان عربية هي فلسطين، ولبنان، وسوريا، ومصر، والمغرب بعروض موسيقية متنوعة تلتقي كلّها عند الالتزام.

وفي افتتاح التظاهرة التي لفت إليها الأنظار رغم جدّتها، حضر الفنان اللبناني أحمد قعبور صاحب أغنية "أناديكم أشد على أياديكم" ومجموعة أجراس من تونس بقيادة الفنان عادل بوعلاق.

وفي فعاليات المهرجان الذي تنظمه دار الثقافة بن رشيق، والذي يمتد من غرّة فيفري/ شباط الجاري إلى السادس من نفس الشهر، الجمهور على موعد مع عدة عروض ومنها مجموعة "ديما ديما" التونسية للفنان ياسر الجرادي وفرقة "إسكندريلا" المصرية ومجموعة عيون الكلام ومجموعة البحث الموسيقي بقابس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"موسم الهجرة إلى الفنون".. أو حينما تصبح السوق الأسبوعية مسرحًا

مسرحيّة "ذئاب منفردة".. عودة الفردانيّة وانهيارات القيم