29-يناير-2020

الرسام عمار بلغيث صاحب "كهف الفنون" (مريم الناصري/ ألترا تونس)

 

"ابتسم أنت وراء البلايك"، و"انتبه طريق مراقب بالرادار" (على الرغم من أنّ الطريق فلاحية وغير معبّدة)، و"محمية المبدعين لحمايتهم من الانقراض"، وغيرها من العبارات الساخرة المدونة على اللافتات التي تعترضك على حافة الطريق المؤدية إلى "كهف الفنون"، رسائل خطّها الفنان عمار بلغيث لاستقبال الزائرين إلى متحفه بطريقة طريفة.

عند الوصول إلى مدخل المرسم، تشعر لوهلة أنّك أمام كوخ رث، أو بيت بسيط في أحد الأرياف المنسية. جدار يبدو متداعيًا للسقوط، وفوهة صغيرة وباب قديم وشجرة شاحبة، لا شيء قد يوحي لك بأنّك أمام مرسم فنان غني باللوحات الفنية.

ما إن تطأ قدمك مدخل المرسم حتى تجد نفسك في كهف يمتد في أحشاء الأرض حوالي 30 مترًا، مضاء ببعض الشموع والأضواء الخافتة، وقد علقت في جدرانه لوحات فنية ودونت بعض الكتابات الطريفة. كما هيأ الفنان مرسمه على جانبيه بمقاعد للراحة في شكل مجالس، مفارشها من المرقوم التقليدي الصوفي وبعض جلود المواشي.

اقرأ/ي أيضًا: شباب يبدع.. تحويل النفايات إلى قطع فنية

ما إن تطأ قدمك مدخل المرسم حتى تجد نفسك في كهف يمتد في أحشاء الأرض حوالي 30 مترًا (مريم الناصري/ ألترا تونس)

أرض منبسطة بالتراب، وجدران من الحجارة كما هي دون أي تزويق، رائحة التربة والرطوبة تغزو المكان، وأشياء بسيطة انتظم بعضها فيما ركن بعضها الآخر بشكل عشوائي، وتلك الأضواء الخافتة أضفت على مكان جمالية ورونقًا وشيئًا من السكينة تحت الأرض.

قبل أن تصل إلى آخر الكهف، يجول بصرك على الجدران لتلمح تلك اللوحات وتفاصيلها وألوانها، وتلك المقالات والكتب والمجلات، الفرنسية منها والعربية، وقد رصفت بشكل منتظم في بعض أركان الكهف. ولا يمكنك أن تمرر بصرك على أحجار جدران الكهف وكيف رصفت دون أن توقف بصرك لتقرأ تلك الكتابات التي دوّنها على جدران كهفه الصغير، من قبيل "رسمتك يا تونس وأنت وراء الأفق البعيد، رسمتك بكلّ ما أملك من أحاسيس ومشاعر، ونقلت ما تخيلته من ألوانك وصورك على لوحاتي، حتى خفت أن لا يبقى بذاكرتي شيء أمسح به دموع الحنين بغربتي". كما كتب أيضًا "إذا متّ يومًا بينكم فضعوني في أعلى مكان من أرضكم واحسدوني على سلامتي".

يوجد الكهف في جبال "سراورتان" من منطقة "المدينة" التابعة لمعتمدية الدهماني بولاية الكاف، على بعد بعض أمتار من الموقع الأثري "ألتيبيروس"

"كهف الفنون"، هكذا اختار الرسام عمار بلغيث تسمية مرسمه البعيد عن كلّ مألوف، ليكسر به الصورة النمطية لشكل وفضاء ورشة الرسم العادية. ويوجد الكهف في جبال "سراورتان" من منطقة "المدينة" التابعة لمعتمدية الدهماني بولاية الكاف، على بعد بعض أمتار من الموقع الأثري "ألتيبيروس"، اسم الامبراطور الروماني الثاني. 

 يجول بصرك على الجدران لتلمح تلك اللوحات وتفاصيلها وألوانها، وتلك المقالات والكتب والمجلات (مريم الناصري/ ألترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا: "شيطانة ألترا ترايل".. عن توظيف الرياضة في مجالات أخرى

رغم أنّه خريج المعهد العالي للفنون التشكيلية والهندسة المعمارية خلال السبعينيات، ورغم بقائه لأكثر من 15 سنة في شرق آسيا، وسفره إلى عدّة دول على غرار الصين الشعبية وتايلندا والفلبين واندونيسيا، قرّر بلغيث العودة إلى أرض الوطن، وإلى منطقته الريفية البسيطة بالتحديد، وامتهن اختصاصه الأصلي وهو الفن التشكيلي. يشير إلى "أنّه لم يجد أفضل من أن يكون هذا الكهف مصدرًا لإلهامه ومرسمه الصغير بعيدًا عن صخب المدينة والنمط السائد لورشات الرسم".

عمار بلغيث لـ"ألترا تونس": لحمارتي الفضل الكبير في تحويل هذا الكهف المهجور إلى ما هو عليه اليوم

ويقول عمار بلغيث لـ"ألترا تونس" إنّ كهفه كان في البداية مكانًا خاصًا به فقط، ولم يكن يخطط لأن يصبح مزارًا أو مكانًا يزوره عشاق الرحلات أو عشاق الرسم، لكن منذ سنة 2011 أصبح قبلة لعشرات الزائرين لاسيما منهم الشباب المشارك في الرحلات الداخلية، الذين يزورون المنطقة الأثرية هناك في الدهماني ليمروا خلال نهاية رحلتهم بكهفه الصغير لزيارته والاطلاع على لوحاته الفنية وتجربته".

كانت زيارتنا له خلال المشاركة في إحدى تلك الرحلات. ولم يكن مبرمجًا مسبقًا أن يحدّثنا عن تجربته في إنشاء ذلك الكهف. لكنّه اعتاد أن يروي تفاصل تجربة إنشاء ذلك المرسم إلى كلّ زواره بطريقة طريفة، لا يخفي فيها الصعوبات التي واجهته وقلة الامكانيات والدعم. كما لا ينسى "صاحبة الفضل" في تشييد كهف الفنون وهي "حمارته".

لم يكن يخطط لأن يصبح كهفه مزارًا أو مكانًا يزوره عشاق الرحلات أو عشاق الرسم (مريم الناصري/ ألترا تونس)

يروي عمار قصّة طريفة عن "حمارته"، تلك التي يقول عنها "إنّ لها الفضل الكبير في تحويل هذا الكهف المهجور إلى ما هو عليه اليوم". فهي ساعدته في نقل أغراضه وأدوات رسمه وأثاثه البسيط الذي أثث به المكان. فكانت مساعده الأول في تأسيس محرابه أو مرسمه في ذلك الكهف. ويضيف "أنّه خصّها بلوحة وبعض الكتابات التي كرّمها فيها، قائلًا " أسندت هذه الشهادة إلى الدابة بهيمة لعزيز تقديرًا لما قدمته من مجهودات فائقة في سبيل إنشاء كهف الفنون وما قدمته من تضحيات ودعم لفائدة الثقافة بالمنطقة".

المنطقة الأثرية هناك والمهمشة والغائبة عن مخططات الزائرين أو برامج وكلات الأسفار والرحلات السياحية، لا تشهد كما يقول الرسام سوى زيارة بعض الشباب أو التلاميذ في إطار الرحلات المدرسية. فاختار إنجاز هذا الكهف تخليدًا لبعض تراث الجهة وتوظيف الفنّ لخدمة والتعريف بالمنطقة، حتى أصبحت تشهد إقبالًا كبيًرا خلال السنوات الأخيرة.

خص عمار بلغيث حمارته بلوحة وبعض الكتابات (مريم الناصري/ ألترا تونس)

وعلى الرغم من جمال هذا الكهف وطرافة فكرته وأهميته الثقافية والفنية، إلا أنّه بقي خارج حسابات التظاهرات الثقافية. كما يشكو تجاهل ولامبالاة المسؤولين الجهويين على امتداد السنوات التي تعاقبت على إحداثه، دون أن يلقى دعمًا سوى من بعض الزوار الذين يقدّمون مساهمات بسيطة لشراء بعض المواد الأولية والأدوات التي يحتاجها في رسمه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

النكت الدينية.. جرأة نقدية أم تطاول على المقدسات؟

الهريسة الحارّة.. نكهة لا غنى عنها في المطبخ التونسي