24-ديسمبر-2018

الفاضل الجزيري يعود للمسرح بعد انقطاع دام طويلًا (رمزي العياري/الترا تونس)

لا بدّ للمتأمل في تاريخ المسرح التونسي المعاصر أن يتوقف لا محالة على أسماء عديدة ألمعية وجدلية، لكنّ يبدو أن صدى اسم الفاضل الجزيري هو واضح وجليّ لمقدرته العالية على التّمثيل ولتصوراته الفنية والفلسفية حول فنّ المسرح وإسهاماته التأسيسية من المسرح الجنوب بقفصة سنة 1972 رفقة جليلة بكار ومحمد إدريس ومحمد رجاء فرحات، إضافة لـ"المسرح الجديد" سنة 1976 رفقة الراحل الحبيب المسروقي والفاضل الجعايبي.

علاقة الفاضل الجزيري بالمسرح ليس علاقة خطية نمطية، بل هي علاقة متقطّعة بطريقة إبستيمية، يغيب ليعود وغيابه قد يكون غيابًا ماديًا جسديًا أو ذهنيًا وروحيًا، فالرجل يقيم إقامة أبدية في المناخات الفكرية للمسرح وما جاوره.

يغادره أحيانًا نحو تفريعات فنية أخرى ولدت من جنبات فن المسرح مثل السينما فأنتج "ثلاثون" و"خمسون"، أو نحو الأعمال الفرجوية المستلهمة من الإرث الموسيقي الشعبي والحديث عن "النوبة" أو الإرث الصوفي التونسي والحديث عن "الحضرة"، ولكنه يعود للينبوع الأول للفنون ألا وهو المسرح.

علاقة الفاضل الجزيري بالمسرح ليست علاقة خطية نمطية بل هي علاقة متقطّعة بطريقة إبستيمية

يعود الجزيري، وبعد مدة من الغياب عن الإنتاج المسرحي، إلى المسرح هذه الأيام عبر بوّابة مؤسسة المسرح الوطني التونسي انطلاقًا من إشرافه على ورشة مسرح أنجزها مع مجموعة من المسرحيين الشباب وبمشاركة أنيقة للفنان الكبير محمد كوكة.

اشتغل العمل المسرحي الجديد على نص هو من أعتى النصوص المسرحية لتلبسه بالفلسفة والتفكير النقدي الحرّ، وهو "كاليغولا" للفيلسوف الفرنسي ألبير كامو الذي كتبه سنة 1938 وسنّه لم تتجاوز الخامسة والعشرين.

حمل العمل الجديد اسم المسرحية الأمّ "كاليغولا"، وتم تقديمه في عرض خاص السبت 22 ديسمبر/كانون الأول 2018 بقاعة الفن الرابع التابعة للمسرح الوطني التونسي بحضور جمهور غفير من المسرحيين والسياسيين والمثقفين.

من عرض مسرحية "كاليغولا"

و"كاليغولا" مهداة لروح الفنان المسرحي الراحل محسن بن عبد الله في الذكرى الأولى لوفاته وهو يعد من رموز فرقة بلدية تونس للمسرح، وأحد رفقاء أيقونة المسرح التونسي علي بن عياد. فهو أحد أساتذة الفاضل الجزيري في المسرح في بداياته عندما كان تلميذًا بالمعهد الصادقي ثم طالبًا للفلسفة في كلية 9 أفريل 1938، والراحل محسن بن عبد الله هو تحديدًا من خطا معه الخطوات الأولى وكان وراء مشاركته في مسرحية "مراد الثالث" التي كتبها خصيصًا للفرقة البلدية الكاتب والسياسي الحبيب بولعراس.

اقرأ/ي أيضًا: مسرحية "تقاسيم على الحياة".. "تشيكوف" يلاعبنا ويحملنا إلى ذواتنا المهشمة

تعدّ "كاليغولا" نصًا عويصًا يتنزّل في خانة المسرح ذهني والفلسفي وقد اشتغلت على متنها كل مسارح الدنيا لأنها محمولة على جملة من القيم الإنسانية والقضايا الوجودية التي تهمّ الانسان أينما وجد.

وتبدو، من هذا المنطلق، مهمة الجزيري صعبة بعض الشيء زد على ذلك أن "كاليغولا" كانت نصًا مغريًا لعلي بن عياد سنة 1963 حينما حوّلها لعمل مسرحي رفقة حسن الزمرلي، وقام هو بدور "كاليغولا"، وعُرضت على مسرح "دقة الروماني" بجهة تبرسق في ولاية باجة كما احتضنتها أهم مسارح فرنسا.

والسؤال المطروح: ما هي القراءة أو الزاوية المتاحة التي سينفذ منه الفاضل الجزيري لعالم لا متناه في أرض "كاليغولا" ألبير كامي؟

خشبة رمادية ميّالة إلى السواد تبدو ملساء، وقفراء، وجدباء مع أضواء ساكنة، وخافتة، وراكنة إلى الليل وكأنّها تقول إن الصبح ليس بقريب. وعاصفة مطريّة تتعالى مزاريبها ومجاريها وتخفت لحين، ثم تتعالى من جديد في حركة سيزيفية متواصلة كأن بالإنسان في ذاك المهبّ يقيم إقامته الأبديّة.

تعدّ "كاليغولا" نصًا عويصًا يتنزّل في خانة المسرح الذهني والفلسفي وقد اشتغلت على متنها كل مسارح الدنيا لأنها محمولة على جملة من القيم الإنسانية والقضايا الوجودية

تحملنا هذه الديكورات والمتمّمات المسرحية إلى عالم المسرحية الذي بدا غير محكوم بالزمن، شخصيات تلتحف بالبياض أملًا في النقاء والصفاء والخلود وسط عاصفة الحياة القاسية والتي الفناء أحد أهزوجاتها المشتهاة.

كان الحوار باللهجة التونسية، وقد بدا مطبوعًا بطريقة الجزيري في كتابة نصوصه المسرحية فهو نص يلمّح ولا يصرّح، يقول ولا يقول، هو نص مخاتل ومليء بالترميز ومشحون بالتفكير، وحتى الممثلين الشباب الذين أنجزوا أدوارهم بكل حرفية انصبغوا بطريقة الجزيري في التمثيل فبدوا متشبهين به في لكنته وطريقة نطقه للكلمات باللهجة التونسية.

ولم تتخل النسخة الفاضلية لـ"كاليغولا" عن مركزيّات النص الأصلي لكامي، إذ أبقى العمل أبقى على الشخصية الأصلية "كاليغولا" باعتبارها شخصية تتقاطع ملامحها مع الحكام الطغاة المتجبرين اللذين يصادرون حريات الشعوب وحقّهم في التعبير والسلام الانساني.

و"كاليغولا" هي كنية وتعني الحذاء العسكري الروماني وصف بها ثالث الاباطرة الرومانيين الذي حكم في الفترة ما بين 37 و41 ميلادية، وهو سليل أسرة خوليو كلاوديان، الأسرة الحاكمة الأولى للإمبراطورية الرومانية وكان حاكمًا دمويًا ومختلًا ومتجبًرا ومهوسًا بممارسة الجنس إلى درجة مفاحشة أخواته وخاصة أخته الكبرى "دورسيلا" والتي كان يعشقها ويهيم بها على الطريقة الفراعنة للحفاظ على نقاء الدماء الملكية.

الممثل المسرحي محمد كوكة في عرض "كاليغولا" 

اقرأ/ي أيضًا: اختتام أيام قرطاج المسرحية.. غياب الأسئلة الجمالية والفلسفية أمام غوغاء البهرج

وقد أشار الجزيري في هذا العمل إشارات رشيقة لما يعرفه المجتمع التونسي اليوم على غرار النقاشات حول مسألة الحريات الفردية والمساواة في الإرث، وهي قضية محل جدل مجتمعي، كما أشار إلى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية شعب أحتلّت أرضه ويروم التحرر كلفه ذلك ما كلفه.

كما تطرح المسرحية من جملة ما تطرح موضوع الارادة الفردية والارادة الجماعية، وهي إرادة تطمح إلى تغيير الواقع نحو الافضل والتخلص من الظلمات في اتجاه أنوار الانعتاق من كل المكبلات.

وخاضت "كاليغولا" أيضًا في الحب باعتباره جوهر وأسّ في هذه الحياة، وهو خوض بجرأة وبلا قيود ضمن المساحات الواسعة في أبنية الحوار المسرحي التي تطرح أسئلة هامة منها: ما هي حدود الحب؟ وما هي القواعد التي تحكمه؟ ولماذا توجد هذه القواعد والأخلاقيات التي يضعها الانسان كالعقبات أمام سيول الحب المتدفقة من قلبه الصغير؟

وممثلو هذا العمل هم كل من خديجة بكوش، وزينب الهنشيري، ومريم بن يوسف، وأديب حامدي، وعبد الحميد نوارة، ومحمد بركاتي وسليم الذيب، وهو فريق عمل متجانس ومتماسك رغم صعوبة النص وصعوبة التعامل مع ما يريده المخرج من أجسادهم الفتية وعقولهم المتوقدة نحو التجريب المسرحي مع أساتذة أفذاذ مثل الفاضل الجزيري وغيره.

مخرج المسرحية فاضل الجزيري

كانوا ينسابون كالسيول على الخشبة متماهين مع الأضواء ومتسامقين لتلك الجدران السوداء العالية طيعة أجسادهم وحركاتهم، أما أصواتهم فكانت تحكمها درامية الحوارات الثنائية والجماعية التي تتعالى ثم تتحول إلى همس بالكاد نسمعه.

فيما كان أداء الممثل القدير محمد كوكة أداءً متميزًا على حدة، إذ قضى هذا المسرحي المحنك تجربة نصف قرن في المسرح، وقضى جزءًا وفيرًا منها في فرقة بلدية تونس واشتغل بالتمثيل والتأليف والحياكة المسرحية والإخراج، فكان حضوره يحمل الإضافة بلا شكّ بل أشعّ على المسرحية وأبهجها.

إن "كاليغولا" للفاضل الجزيري في عرضها الأول هي وجهة نظر إبداعية مسرحية تتلمس الواقع التونسي في بعض تفاصيله السياسية والثقافية، وتذهب مباشرة كسهم إلى الوجدان الإنساني فيما يتعلق بالقيم الكونية، وذلك انطلاقًا من نص مسرحي فلسفي مرجعي للفرنسي ألبير كامي.

وأكدت هذه المسرحية، من جهة أخرى، أن جذوة فنّ المسرح عند الجزيري مازالت متقدة وتنبض بالخلق والتصورات الابداعية وذلك رغم البعاد أحيانًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بـ"غاليري" قصر خير الدين.. عبد العزيز القرجي ينهض كطائر الفنيق مزهرًا ومبهجًا

فيلم "سامحني" للراحلة نجوى سلامة: انتصار لقيم العفو ودفاع عن رومانسية الموت