29-سبتمبر-2021

"البطان" يصنفها التاريخ بأنها من أهم المدن الأندلسية بتونس (مصدر الصورة: محمد حمدان)

 

مدينة "البطان" هي من أبرز مدن الخط المُوريسكي التونسي فقد كانت لها مكانة كبيرة وحظوة لا محدودة لدى البايات الحسينيين الذين حكموا تونس قبل الاستقلال لإسهامها في  الدورة الصناعية والفلاحية ولقربها من حاضرة تونس (العاصمة حاليًا) فهي تزود القصور الملكية بما تجود به البساتين المثقلة بالثمار وأجود أنواع الحبوب التي تجود بها الحقول الفسيحة المترامية على ضفاف وادي مجردة والمنسوجات اليدوية الفاخرة والأغطية الصوفية...  

لكن "البطان" لم تنل الشهرة التي حظت بها مدن أندلسية أخرى على غرار: تستور أو العالية أو الزريبة أو زغوان... وذلك بالرغم من تحوّزها على رصيد تاريخي وتراثي هام ومدوّنة متميزة من العادات والتقاليد الأندلسية إلا أن "البطان" وبعد مرور سنوات الازدهار باتت  تعاني من النسيان والتّهميش والتنكر فهي لا تلقى العناية والتقدير اللازمين ولم تدرج في المسالك السياحية ولم يثمن رصيدها التراثي في الدراسات والبحوث والتوثيق السينمائي...

"البطان" يصنفها التاريخ  بأنها من أهم المدن الأندلسية بتونس بل هي من أندرها في شمال إفريقيا لخصوصياتها الطبيعية والثقافية، وهي من أبرز مدن الخط الموريسكي التونسي وكانت لها مكانة هامة لدى البايات الحسينيين 

و"البطان" يصنفها التاريخ  بأنها من أهم المدن الأندلسية بتونس بل هي من أندر المدن في شمال إفريقيا بأسرها  للخصوصيات الطبيعية والثقافية التي تمتلكها، وقد عرفت استقرار الموريسكيين المهجّرين عنوة إبان سقوط غرناطة في هجرة قسرية أولى بداية من 1492 وهجرة ثانية بعد سنة 1605 أي بعد صدور المرسوم الملكي الإسباني القاضي بطرد جميع المسلمين واليهود وتهمتهم هي التآمر مع الحكام العثمانيين لشمال إفريقيا  ضد ملوك إسبانيا وذلك في مخالفة واضحة وصريحة لاتفاق تسليم غرناطة وهو لا يعدو أن يكون سوى تعلة لتطهير شبه الجزيرة الإيبيرية من غير المسيحيين.

اقرأ/ي أيضًا: جولة في رحاب تستور وعين تونقة ودقة: حينما تبوح حجارة المكان بأسرار التاريخ

والموريسكيون الذين استقروا بالبطان إبان الهجرة الأولى هم اللذين أطلقوا عليها التسمية وهو نفس اسم قرية صغيرة تبعد نحو 15 كلم شمال مدينة "سرقسطة" الأندلسية، أما أبناء الهجرة الثانية فقد أسسوا لنقلة نوعية للمدينة مازالت شواهدها باقية إلى اليوم لأن أغلبهم كانوا من علماء الزراعة وتقنيات الصنائع والحرفيين...

القنطرة العجيبة وأدوارها المختلفة

وتتميز مدينة "البطان" بقنطرتها العجيبة التي تعلو نهر مجردة أكبر الأنهار التونسية وتعتبر أهم معلم أثري بها وكانت قد بنيت برغبة من الأندلسيين أنفسهم وبأمر من يوسف داي واستمر بناؤها من 1616 إلى 1622 وكانت الغاية الأساسية من ذلك هي التحكم في مياه الوادي لأغراض زراعية.

تتميز مدينة "البطان" بقنطرتها العجيبة التي تعتبر أهم معلم أثري بها والتي كانت قد بنيت برغبة من الأندلسيين أنفسهم وبأمر من يوسف داي

وسميت "القنطرة العجيبة" لجمال هندستها إذ تحتوى على عشرين قوسًا صغيرًا وأيضًا لأن أبوابها تنغلق فيعلو منسوب الماء ويفيض على البساتين المجاورة فترتوي الزراعات بجميع انواعها ويتوفر الماء الصالح للشراب. وكان ذلك يحدث 3 مرّات في السنة: مرّة بين شهريْ أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني وأخرى بين شهري جانفي/يناير وفيفري/شباط وأخيرة خلال شهر أفريل/نيسان.         

صورة فوقية لـ"القنطرة العجيبة" وجزء من مدينة البطان التاريخية

 "البطان"عاصمة الشاشية  

وإلى حدّ قريب كان لـ"البطان " إسهامات هامة في صناعة "الشاشية" أو "الكبّوس" كما يحلو لعامة التونسيين تسميتة. و"الشاشية" كانت ولا زالت رمزًا للباس التقليدي التونسي و"الشاشية" في التعريف المتداول لها هي طاقية توضع على الرأس وتصنع من الصوف المصبوغ بالقرمز.

برع سكان البطان في القيام بالمراحل الأساسية في صناعة الشاشية التي كانت تستهلك بكثافة في كامل البلاد التونسية وببلدان الشمال الإفريقي

 وقد برع سكان "البطان" أيما براعة في القيام بالمراحل الأساسية في صناعة الشاشية التي كانت تستهلك بكثافة في كامل البلاد التونسية وببلدان الشمال الإفريقي وخصوصًا ليبيا ومالي. وتُلبس على مدار السنة، خاصة خلال الاشهر الشتوية فهي تقي من البرد، كما كانت إلزامية في المدارس الدينية وفي المدارس النظامية فيما بعد. 

مصنع الشاشية بالبطان

وقد أكّد العديد من الرحالة والمؤرخين على غرار هنري دانون وأحمد بن أبي ضياف من خلال كتبهم أن الموريسكيين اللذين أسسوا مدينة البطان أحدثوا مصنعًا على ضفة وادي مجردة يعرف بمعمل الشاشية حيث كان يوجه لهم الصوف من مدينة جربة فتزرده النسوة في البيوت حتى يأخذ شكل الشاشية ثم يقوم المصنع المذكور بتلبيدها حتى تأخذ شكلها النهائي ثم توجه لمدينة تونس لسوق الشواشين لكربلتها باستعمال نبتة "الكرضون" التي يقوم أندلسيو مدينة "العالية" الكائنة بجهة بنزرت بتجفيفها وإعدادها خصيصًا لصانعي الشواشي ثم توجه السلعة لصبغها بمدينة أندلسية أخرى وهي "زغوان" لتعاد مجددًا لتونس العاصمة والمدن الأخرى من أجل بيعها.

اقرأ/ي أيضًا: توبربو ماجوس.. مدينة شامخة تحدت الزمن وعانت الهجر

الجواد البربري رمز الخيول التونسية الأصيلة 

كما تمتاز مدينة "البطان" بخصوصية أخرى وهي تجويد وتربية الجواد البربري الأصيل وهو جواد ذو أصول "نوبية" تنقل من المجتمعات الموجودة على ضفاف نهر النيل إلى برابرة شمال إفريقيا عن طريق التجارة والحروب وذلك قبل ألفي سنة، ثم اهتمت به مملكة قرطاج ليصبح العمود الفقري لجيوشها ونخبة فرسانها وذلك لكفاءتها في القتال ولصبرها في مكابدة الأعمال الصعبة.

عرفت البطان بتجويد وتربية الجواد البربري الأصيل وهو جواد ذو أصول "نوبية" تنقل من المجتمعات الموجودة على ضفاف نهر النيل إلى برابرة شمال إفريقيا عن طريق التجارة والحروب

ويذكر أن القائد حنبعل كان يعول كثيرًا على هذا النوع من الجياد كما أن بايات تونس اتخذوا من البطان مكانًا مثاليًا لتربية هذا الجواد نظرًا لقربها من قصورهم وأبراجهم وثكنات جيوشهم بضاحة منوبة وأيضًا لتفاني الأندلسيين في تربيتها وحسن تدريبها.

كما صدر أمر من الباي في سنة 1896 يقر بإنشاء سجل رسمي يحفظ أنساب الخيول التونسية وتدوين الجياد البربرية. 

مهرجان الجواد البربري بالبطان

وواصلت البطان عنايتها بالجواد البربري إلى اليوم حيث ذهبت الدولة الحديثة في سنة 1988 إلى إنشاء "المؤسسة الوطنية لتحسين وتجويد الخيول" وكان من أدوار هذه المؤسسة حماية الجواد البربري من الانقراض.


إن مدينة البطان التي تنام الآن على أرض النسيان والإهمال على تخوم ولاية منوبة هي مدينة عريقة ضاربة في التاريخ وذات خصوصيات طبيعية مميزة ونسيج تراثي يتسم بالندرة، وذلك بالنظر إلى تمازج ثقافتين متجاورتين هما الثقافة الأندلسية الوافدة والتونسية المحلية ولامتلاكها لمدونة زاخرة بالعادات والتقاليد في الأكل والملبس والزواج والأعياد مهددة بالزوال والاندثار، بسبب جحود الأيام والإمعان في عدم الاهتمام.

وبالتالي فإن الدولة التونسية مطالبة باعتماد خطة إنقاذ عاجلة واضحة لمدينة البطان وتراثها الكبير على غرار إنشاء متحف بهذه الجهة أو بعث مؤسسة بحثية مرموقة تهتم بالتاريخ الأندلسي في تونس أو إنشاء قطب سياحي بالمدينة يستقبل الوافدين الراغبين في الاطلاع على الرصيد الثقافي بها أو تسويقها عبر مسالك الرحلات الداخلية والسياحة الخارجية... وذلك من أجل الحفاظ على هذه الخصوصيات الحضارية لمدينة غنية وعريقة والتي يمكن اعتبارها وجهًا مضيئًا في تاريخ تونس.       

 

اقرأ/ي أيضًا:

تستور... تأبى نسيان الأندلس المفقود

مكثر.. هل تبقى المعالم الأثرية شاهدة على حضارات مرت من هنا؟