تتشبث اناستازيا طفلة الثماني سنوات بثوب أمها وهي تنظر إلى المسافة التي تفصل السفينة الحربية "القسطنطيني" عن سواحل مدينة بنزرت التي بدأت تلوح في ذلك اليوم من شهر ديسمبر/كانون الأول من سنة 1920، وقفت تلك الطفلة دون أن تدري شاهدة عيان على فترة تاريخية كانت ليلفّها النسيان لولا أن أدركتها ذاكرة سيدة ذات 80 عامًا لتسرد تفاصيل هروب حوالي 6000 ضابط بحرية روسي نحو بنزرت على متن 33 بارجة وسفينة حربية روسية من جحيم الحرب الأهلية التي اندلعت في روسيا سنة 1917 والتي انتهت بسقوط القيصر.
اناستازيا شيرنسكي المولودة سنة 1912 في روسيا ليست أديبة أو كاتبة روسية لها مؤلفات ودواوين عدّة، هي باختصار طفلة فرّت بدفاتر ذاكرة 6000 شخص من مقصلة التاريخ الذي طوى لعقود صفحة جحيم الهروب نحو اللاوطن لتفتحها بعد ثمانية عقود كانت كافية لاسترداد أنفاسها، وتشارك الإنسانية متعة مشوبة بألم عند تصفّحها عن طريق كتابها أو مولودها الوحيد "بنزرت...المرفأ الأخير" الذي صدر بالفرنسية سنة 2000 أي تسع سنوات قبل وفاتها ودفنها في بنزرت، هذا الكتاب الذي يعتبر الشهادة الوحيدة على إحدى نكبات الإنسانية.
وثّقت اناستازيا شيرنسكي فترة تاريخية كانت ليلفّها النسيان بسرد تفاصيل هروب حوالي 6000 ضابط بحرية روسي نحو بنزرت على متن 33 بارجة وسفينة حربية روسية من جحيم الحرب الأهلية التي اندلعت في روسيا سنة 1917
تقول اناستازيا شيرنسكي في كتابها "اليوم و في هذه اللحظة التي أكتب فيها لأقدم شهادة على الأزمان البعيدة، في مكان مألوف كلّ ما فيه يذكّر بهذا الماضي، أستطيع القول إن هذه السنوات التي مضت على أرض الغربة لا تبدو لي الآن قطيعة أو انفصالًا، بل نسجًا للذاكرة مدى الحياة، إذ أتت اللحظة التي تلت الألم الحاد الذي تقبّلته على مضض بخسارة أناس أحببتهم لأستحضرهم اليوم بهدوء" إذ تعتبر اناستازيا عند تأليفها للكتاب آخر ركاب "القسطنطيني" التي بقيت على قيد حياة جاهدت فيها لحفظ آثار وذاكرة أسطول وبحّارة الجيش الأبيض الروسي.
الوطن فكرة وموقف
في سنوات اللجوء في بنزرت رفضت اناستازيا الحصول على الجنسية الفرنسية في الوقت الذي قامت فيه باريس بمنح الجنسية الفرنسية لمن اعتبرتهم أقليات في تونس إبان فترة الاستعمار، ولم تتقدم بطلب للحصول على الجنسية التونسية أيضًا ، كي لا يمنعها هذا يومًا من الحصول على الجنسية الروسية لتتوّج ثباتها على مبدئها سنة 1997 بحصولها على جواز السفر الروسي، فالوطن فكرة والفكرة لا تموت أو هكذا اختصرت اناستازيا علاقتها بوطنها إذ اتخذت موقفًا رافضًا وفي عديد المناسبات للحصول على الجنسية السوفياتية بعد تفكك روسيا القيصرية.
وطنها لم يكن مجرّد أوراق ثبوتية ورقعة جغرافية بل امتدّ إلى أبعد من ذلك بكثير، وطنها كان ثقافة وكتبًا يتقاسمها الأطفال المتسامرون على ظهر السفينة الراسية في بنزرت التي عاشت على متنها أربعة سنوات من الحجر الإجباري، وطنها هو مراقص الباليه الروسي وقصائد بوشكين وليرمنتوف التي حرص البحارة الروس اللاجئون إلى بنزرت على تلقينها لأطفالهم في ظروف حالكة واستثنائية أملًا منهم في العودة إلى الوطن يومًا ما.
في هذا السياق، كتبت اناستازيا شيرنسكي عن ذكرياتها في بنزرت "كنا نعيش على جسر ضيق للسفينة ولم يكن أهلنا قادرين على شراء تذكرة سفر بالقطار إلى تونس، ولكننا كنا قادرين على السفر إلى كافة أنحاء العالم من خلال المكتبة التي أحدثت في إحدى قاعات السفينة. في القاعة المخصصة للدراسة كنا نجتمع مع المعلمين للصلاة صباحًا ثم لنبدأ العمل...وفي ظرف وجيز استطعنا تدارك البرنامج التعليمي المطبّق في روسيا".
يقول الدبلوماسي التونسي أحمد ونيس الذي قام بتقديم كتاب " بنزرت...المرفأ الأخير": إننا، من خلال اناستازيا، نقتنع بسهولة بأنّ المقاومة الفعلية والحقيقية في تلك الفترة كانت من خلال الثقافة الروسية المميزة والقابلة للتوارث على مرّ العصور والتي قاومت التدمير بتشبثها باللغة والآداب والتقاليد التربوية والفنون والإبداع.
نجاح استثنائي
درست انستازيا في المدارس الفرنسية ببنزرت، واستطاعت رغم عائق اللغة الذي رافق بداياتها المدرسية التألق والحصول على شهادة الباكالوريا في العلوم سنة 1932 رغم كل ما أحاط بعائلات البحارة الروسيين من تدهور في المعيشة وتنازلات عن الرتب العسكرية نظير العمل برتب متدنية في البحرية الفرنسية أو عمال في حضائر المعمّرين في تونس، تذكر انستازيا كيف عملت والدتها، وهي زوجة القائد السابق للبحرية الروسية، معينة منزلية لدى إحدى العائلات الفرنسية في بنزرت والتي كانت تقول لابنتها "لا اخجل من غسل الأطباق والصحون، لكنني كنت سأخجل كثيرًا لو غسلتها بطريقة سيئة".
انستازيا لم تعش مرحلة الطفولة التي توقفت في مدينة سيباستوبول الروسية في سن الثامنة، لكن رحلة المعاناة واللجوء لم تجد إلى شعورها بالانتماء سبيلًا ولم تثنها عن الذود عن فصل من حياتها وتاريخ وطنها
دروس من التأقلم والجَلد تمكنت إثرها، وهي في سن العشرين ولأول مرة منذ لجوئها إلى بنزرت، من السفر إلى ألمانيا بعد أن تلقّت عرضًا من عائلة ألمانية ثرية لتعليم طفليها اللغة الفرنسية مقابل الإقامة والأكل وتعلّم الألمانية، لم تتردد بقبول العرض رغم معضلة جواز السفر التي ظلت تواجهها طيلة حياتها.
اقرأ/ي أيضًا: "دار الأقنعة".. عن إهمال موقع يروي حكايات أثرياء روما
صورتها وهي تلتقي بالعائلة الألمانية في مدينة إرفورت لم تفارق مخيلتها إذ تقول: "عند وصول القطار إلى إرفورت وجدت ثلاثة أشخاص في انتظاري، كنت كتلة من التعاسة بحقيبة حمراء كانت وسيلتهم في التعرّف علي" كما تذكر في كتابها كيف عملت عازفة بيانو في إحدى قاعات السينما وفي المطاعم حتى تتمكن من توفير مبلغ زهيد من المال للسفر وإتمام دراستها الجامعية التي أنهتها أستاذة للرياضيات والعلوم في معاهد مدينة بنزرت.
يقول برتران دو لانوي عمدة باريس من 2001 إلى 2014 والذي كان أحد تلاميذها ببنزرت: "بابو" كما كنا نسميها جميعًا، كانت كائنًا استثنائيًا وفلتة من فلتات الحياة. رحلة تلك المهاجرة الروسية الشابة كانت رواية مغرقة في التاريخ والثقافة والفضول والإبداع، لكن قبل كل شيء الحب. هذا الحب الذي أعطته للآخرين، لعائلتها، لأصدقائها، لطلابها الذين كنت من بينهم، لتونس، حيث اختارت أن تعيش جميلة، وكريمة، وغالبًا ما تكون غير متوقعة، عندما أفكر فيها اليوم تتملكني عواطف وأحاسيس جياشة".
ذاكرة الوطن في الغربة
انستازيا شيرنسكي لم تعش مرحلة الطفولة التي توقفت حسب قولها في مدينة سيباستوبول الروسية في سن الثامنة، لكن رحلة المعاناة واللجوء لم تجد إلى شعورها بالانتماء سبيلًا ولم تثنها عن الذود عن فصل من حياتها وتاريخ وطنها، إذ خصصت وهي شابة وقتها للعناية بقبور من شاركوها رحلة اللّاعودة للوطن والذين واروا الثرى في مقبرة المسيحيين ببنزرت دون أن يعرفوا طريق العودة للوطن.
في السنوات الأخيرة لحياتها وخاصة بعد صدور كتابها "بنزرت...المرفأ الأخير" أصبحت ومنزلها مزارًا للسياح الروس الذين اعتبروها صرحًا من صروح الصمود والوطنية الخالصة
لا نعلم هل خشيت غياب الذاكرة بموت الأجساد؟ أم رأت في نصبهم التذكارية جزءًا من حياتها لم تستطع الانفصال عنه لتسعين عامًا.
يقول محمود بن محمود، السينمائي التونسي ومخرج الشريط الوثائقي "انستازيا بنزرت"، إنها كانت أمينة متطوعة في مقبرة البحارة الروسيين في بنزرت، إذ مثّلت الذاكرة الحيّة في تلك الفترة لحلقة من التاريخ وقع تجاهلها طويلًا وحجبها من طرف نظام الاتحاد السوفياتي السابق ثم من نظام الحكم الفردي في تونس ما بعد الاستعمار.
في السنوات الأخيرة لحياتها وخاصة بعد صدور كتابها "بنزرت...المرفأ الأخير" أصبحت ومنزلها مزارًا للسياح الروس الذين اعتبروها صرحًا من صروح الصمود والوطنية الخالصة، وكانت طواقم السفن الروسية التي ترسو في ميناء بنزرت تدرج زيارة اناستازيا ضمن برنامجها، إضافة إلى كم هائل من المراسلات التي كانت تصلها من الجالية الروسية في كامل أنحاء العالم.
توفيت اناستازيا شيرنسكي في 21 ديسمبر/كانون الأول 2009 ودفنت في مقابر المسيحيين بمدينة بنزرت، حيث اختارت أن تجاور والدها وأفرادًا من عائلتها وأصدقائها من عائلات البحارة، دفنت بعد أن وضع محبوها في قبرها حفنة من تراب روسيا كانت أوصت بها قبل موتها هي كل ما حملته معها إلى الأبد.
اقرأ/ي أيضًا: