30-يناير-2019

انتعشت تجارة تهريب المخططات العبرية في تونس بعد الانفلات الأمني في ليبيا (Getty)

 

"مخطوطة عبرية عمرها ما يقارب 6000 سنة للبيع والسعر متروك للتفاوض، للتواصل اترك هاتفك أو إيميلك، وأنا أتصل بك إن شاء الله"، أو قد يصادفك عرض آخر مضمونه "إن كنت تبحث عن مخطوطات عبرية أو أثرية في تونس أو تود عرض مخطوطة لك، فأنت في المكان الصحيح"، فيما ينشر آخر "من لديه مخطوطات عبرية أو مكتوبة بماء الذهب فليتواصل معي عبر الخاص"، جميعها عروض تُنشر على بعض المواقع الالكترونية أو صفحات التواصل الاجتماعي لسوق بيع المخطوطات وتهريبها إلى الخارج، عروض علنية وكأنّها غير مخالفة للقانون!

اقرأ/ي أيضًا: اليهود في الحياة السياسية التونسية.. حضور محتشم ومحاولات للتوظيف

تونس.. سوق نشطة لتهريب الآثار اليهودية

أحبطت الأجهزة الأمنية التونسية، في عديد المناسبات، عمليات تهريب آثار عبر الحدود التونسية الجزائرية أو الحدود التونسية الليبية، بما في ذلك تهريب أو بيع مخطوطات لا سيما منها العبرية، خاصة في السنوات الأخيرة.

ففي جانفي/كانون الثاني 2019، تمكّنت فرقة الأبحاث والتفتيش بالمحمدية، جنوب غرب العاصمة، من حجز 6 مخطوطات وجلدات عبرية قديمة وذات قيمة أثرية، مخطوطات تم الاستيلاء عليها من متاحف ليبية، كان مهربوها، 3 أشخاص يتجارون بالآثار بين تونس وليبيا، ينوون التفويت فيها بمقابل مبالغ مالية تفوق 1.5 مليون دينار.

باتت تونس سوقًا نشطة لتجارة الآثار والمخطوطات العبرية خاصة بعد انفلات الوضع الأمني في ليبيا

وأفادت سعاد التومي، محافظ التراث بالمتحف الوطني بباردو، في تقرير وفق معاينة أولية أنّ المحجوز يعتبر من المخطوطات الأصلية والنادرة، وهو ذو قيمة تاريخية هامّة لا يمكن حيازتها ولا الاتجار بها. وتتمثل تلك المخطوطات في لفافة من ثلاث ورقات مكتوبة بماء الذهب باللغة العبرية، يعود تاريخه إلى القرن 19. أما المخطوط الثاني، فيتمثّل في لوحة من الجلد كتبت عليها أنشودة دينية مستوحاة من التوراة. 

ويعود المخطوط الثالث إلى الفترة الحديثة وهو عبارة عن كتاب على جلد ماعز، أما المخطوط الرابع فهو كتاب عبري من الجلد يتضمن 18 صفحة دُوّنت عليه حِكم وأمثال مستوحاة من حياة اليهود. ويعود تاريخ هذا الكتاب أيضًا إلى الفترة الحديثة، إضافة إلى مخطوط يضمّ 12 صفحة عليها زخرفة هندسية ونباتية وحيوانية وتجسيمات إنسانية نادرة جدًا، بالإضافة إلى كتيب ذو غلاف من الجلد يتضمّن 15 صفحة في شكل مخطوطات مكتوبة بالعبرية مع زخرفة مكثفة، ورجّح التقرير أن هذا الكتيب يعود أيضًا إلى الفترة الحديثة.

كما حجزت الأجهزة الأمنية في فيفري/شباط 2018 مخطوطًا باللغة العبرية الآراميّة مكتوب بماء الذهب الخالص على جلد ثور بطول المترين تقريبًا، بحوزة ثلاثة أشخاص بولاية قفصة كانوا يعتزمون بيعه بـ700 ألف دينار. وهو مخطوط يتضمن طقوس وعادات اليهود أثناء احتفالاتهم.

اقرأ/ي أيضًا: دواميس سوسة.. أسرار سراديب الموتى ورحلة البحث عن "الراعي الطيب"

فيما حجزت فرقة مكافحة الإجرام في ماي/آيار 2018 مخطوطًا يهوديًا ذا قيمة تاريخية وأثرية هامة، كانوا يعتزمون بيعه عبر شبكات الإنترنت المظلم، بمبلغ مالي لا يقل عن 12 مليون دينار تونسي.

فيما تمّ في ديسمبر/كانون الأول 2016 إحالة 3 متهمين أمام الدائرة الجناحية بالمحكمة الابتدائية بتونس وجهت لهم تهمة مسك وحيازة منقولات ذات قيمة تاريخية ودينية بنية الاتجار. وكان قد عثر تونسي على مخطوط مكتوب باللغة العبرية فعرضه علي أحد تجار "الأنتيكا" في تونس، ليستعين بدوره بتاجر فرنسي قام ببيع المخطوط بـ5 مليون دينار إلى تونسي مقيم بفرنسا اكتشف لاحقًا أن المخطوط غير أصلي ومقلد، غير أن المعهد الوطني للتراث أكد لاحقًا أن لهذا المخطوط قيمة تاريخية ودينية، وقد خُطّ فيه باللغة العبرية تعليمات الرب إلى اليهود.

ذلك البعض مما تمّ حجزه من مخطوطات عبرية خلال السنوات الأخيرة، تباع في السوق السوداء في تونس وتهرّب إلى الخارج، وقد تورط، في هذه العمليات، تونسيون وليبيون إضافة لأجانب من فرنسا وإيطاليا. الأمر الذي يدفع إلى التساؤل عن مصدر تلك المخطوطات، وإن كانت تونسية بالأساس أو وقع تهريب أغلبها من ليبيا بعد الانفلات الأمني إلى تونس.

حبيب القزدغلي يستعرض تاريخ اليهود التونسيين

تواصل "الترا تونس" حول هذا الملف مع حبيب القزدغلي، العميد السابق لكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة وأستاذ التاريخ المعاصر المتخصص في المسألة اليهودية ومدير مخبر التراث. وأشار محدثنا، في بادئ حديثه، أنه فعلًا يتمّ من حين لآخر الإعلان عبر مختلف وسائل الاعلام عن إحباط أجهزة الأمن أو الديوانة التونسية لعمليات تهريب مخطوطات عبرية وغيرها بيد تجار الآثار أو المهربين.

ويؤكد أن هذه اللقى الأثرية متنوعة وهي تتكون من قطع جنائزية وخاصة من المخطوطات المكتوبة بالخط العبري باعتماد ماء الذهب أو الحبر المنسوخة على الجلد وهي تختلف في حجمها ومن حيث قيمتها التاريخية ومن حيث درجة قدمها، موضحًا أن ما يهم المهرب ليس قيمتها العلمية أو التاريخية وإنّما قيمة المال الذي يعتقد أنها ستدره عليه، وفق قوله.

حبيب القزدغلي (أستاذ التاريخ المعاصر): تختلف القطع المهربة ومنها مخطوطات مكتوبة بالخط العبري باعتماد ماء الذهب أو الحبر المنسوخة على الجلد وهي تختلف في حجمها ومن حيث قيمتها التاريخية

وأضاف القزدغلي أن هذه التجارة شهدت تطورًا متصاعدًا منذ عام 2011 ومصدرها التراب الليبي حيث استفاد المهربون من أجواء انعدام الاستقرار الأمني وعمليات التخريب الحاصلة في عدّة مباني عمومية وخاصة نتيجة انتشار الفوضى، وهكذا أصبحت مثل هذه المخطوطات جزءًا من البضائع التي تدخل التراب التونسي قصد بيعها في تونس وخارجها، وقد وصل عددها إلى عشرات المخطوطات حسب آخر الاحصائيات، وفق تأكيده.

كما شملت عمليات الحجز، وفق محدثنا، مخطوطات وكتب مسروقة من دور عبادة يهودية أو مقامات أولياء تونسية كما حصل في معبد الغريبة بالكاف ومعبد المكنين ومقام الولي يوسف المعرابي بحامة قابس جنوب البلاد.

 تاريخ وجود اليهود بالبلاد التونسية ضارب في القدم (ناصر طلال/وكالة الأناضول)

على صعيد آخر، أشار أستاذ التاريخ المعاصر المتخصص في المسألة اليهودية إلى أنّ تاريخ وجود اليهود بالبلاد التونسية ضارب في القدم، مبينًا أنه حسب الروايات المتداولة والتي لم يقع تثبيتها بدعائم أثرية يعود وجود اليهود في جزيرة جربة إلى القرن السادس قبل الميلاد الموافق لتحطيم هيكل سليمان من طرف نابوخ النصر. وأضاف أنّ أقدم البقايا المادية لمعابد يهودية تم العثور عليها قرب حمام الأنف أو قليبية وهي تعود إلى الفترة الرومانية مشيرًا لتواصل وجود اليهود في الفترات الإسلامية.  

وقال القزدغلي لـ"الترا تونس" إن الوجود اليهودي انتشر بكثافة في الفترة الاستعمارية نتيجة الاستقرار الأمني حيث لم تخل أي مدينة تونسية كبرى أو متوسطة من وجود مجموعة يهودية، ولكل منها معابدها وحاراتها ونشاطها التجاري والحرفي، وعددهم لم يتجاوز في أغلب الأحيان 5 في المائة من سكان المدن باستثناء أريانة أو حلق الوادي.

وأفاد محدثنا، في هذا الإطار، إلى أن الحضور اليهودي زمنيًا رافق التاريخ العام للبلاد التونسية، مبينًا أنه جرى تدوين هذا التاريخ في البداية من طرف مؤرخين ورحالة أجانب، قبل أن يظهر جيل من المثقفين المؤرخين من أبناء الجماعة اليهودية التونسية.

على صعيد آخر، أشار أستاذ التاريخ المعاصر أنّ عدد اليهود في تونس يبلغ اليوم حوالي 1200 نفرًا بعد أن كان عددهم في كامل البلاد أكثر من 100 ألف عند الاستقلال سنة 1956. وقد امتدت هجرة اليهود التونسيين لمدة عشرين سنة اقترنت بدايتها مع تأسيس دولة "إسرائيل" عام 1948 وكانت آخر موجاتها اثر حرب 1967، وقد حمل العديد منهم أثاثهم وأغراضهم العائلية، لكن المعالم الدينية والمعابد والمقابر فهي لا تزال شاهدًا على حضورهم وفق تأكيده.

اقرأ/ي أيضًا: قراءة في كتاب "تطوّر الخطاب السياسي في تونس تجاه القضية الفلسطينية"

مشروع لمتحف حول تاريخ اليهود في تونس

أخبرنا حبيب القزدغلي، في هذا السياق، أن مخبر التراث الذي ينشط منذ 20 سنة ويرأسه حاليًا تعاقد من أجل إنجاز برنامج بحث طموح، وفق تعبيره، مع فريق بحث ينتمي إلى جامعة "شيفيلد" البريطانية، سيبحث لمدّة سنتين بمشاركة باحثين تونسيين وبريطانيين من أجل حصر ودراسة الارث التاريخي اليهودي التونسي وحمايته باعتباره أحد مكونات الحضارة التونسية العريقة متعددة الروافد والتي تفتخر بجذورها البربرية والبونية والرومانية والمسيحية واليهودية والعربية والاسلامية والأندلسية والعثمانية والأوروبية.

عائلة يهودية في تونس سنة 1874 (Getty)

وأضاف أنّه إلى جانب الدراسة والتعريف بتاريخ اليهود التونسيين باعتباره أحد مكونات الحضارة التونسية، فإن الحل الأمثل يكمن في إنشاء متحف خاص بتاريخ اليهود التونسيين، أو عبر إضافة أجنحة خاصة بالتراث اليهودي يمكن أن تضمها المتاحف الوطنية أو الجهوية الموجودة في أغلب جهات البلاد.

القزدغلي: التوجه نحو إنشاء متحف قد يساهم في محاربة الاتجار بالتراث وتهريب إحدى مكونات الإرث الحضاري التونسي

وأشار أنه سبق لمخبر التراث أن طرح هذه الفكرة منذ ثلاث سنوات على كل من الحكومة التونسية وأيضًا على مجلس الجماعة اليهودية، وقد لقيت الفكرة الدعم والترحيب من قبل وزير السياحة السابقة سلمى الرقيق رئيس مجلس الجماعة اليهودية روجي بيسموت، حسب تأكيده، لتُبعث لجنة لدراسة المشروع عام 2017 في مختلف جوانبه العلمية والتراثية والميدانية ترأستها المؤرخة من أصل تونسي لوسات فالنسي. وبين أن تقريرًا حول هذا الموضوع عُرض عام 2018 على الحكومة التونسية، وتحديدًا وزارتي الثقافة والسياحة، وأيضًا على رئاسة الجمهورية.

ويختم حبيب القزغلي حديثه بالتأكيد أن إنشاء مثل هذا المتحف سيمثل أحد عناصر الإجابة العقلانية والرصينة لمحاربة الاتجار بالتراث وتهريب إحدى مكونات الإرث الحضاري التونسي، وفق قوله، مضيفًا أنه سيكون من مهام المتحف صيانة هذا التراث وحمايته ودراسته والبحث في مدلول اللقى الأثرية وخصائصها وعرضها للزوار التونسيين وللأجانب مع إمكانية عرضها في المتاحف العالمية باعتبارها إحدى روافد الهوية التونسية العريقة والمتعددة، وفق تعبيره.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بالصور: فسيفساء الجم.. بالحجارة تتشكل الصورة ويصنع الجمال

بن عمّو مؤلف "عام الفزوع": شوقي الماجري أراد تزييف تاريخ "بن غذاهم" (حوار)