30-ديسمبر-2019

يمثل الطلبة من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء رقمًا ثابتًا في الأقطاب الجامعية التونسية (كريس ماغراث/Getty)

 

يشكل الطلبة القادمين من البلدان الإفريقية جنوب الصحراء مكونًا ثابتًا في المجتمع الطلابي في المؤسسات التعليمية والتكوينية التونسية، ورقمًا ثابتًا في الأقطاب الجامعية ومدارس التكوين المهني، وهم اليوم جزء من الفسيفساء العرقية والدينية والثقافية التي تتجمع في تونس من الوافدين عليها والمقيمين بها.

ويستعد، خلال هذه الفترة، هؤلاء الطلبة، القادمين بالخصوص من السينغال وبوركينافاسو ومالي والكاميرون والتشاد والكونغو الديمقراطية وكونغو برازافيل والنيجر والتشاد وغيرها، لاستقبال سنة إدارية جديدة على طريقتهم الخاصة التي تحفظ تواصلهم مع ثقافتهم وديانتهم وتقاليدهم في تحدّي البعد عن الأوطان وما يعانونه من غربة بعيدًا عن أهلهم ومجتمعاتهم.

يشكل الطلبة القادمين من البلدان الإفريقية جنوب الصحراء مكونًا ثابتًا في المجتمع الطلابي في المؤسسات التعليمية والتكوينية التونسية

وتنتشر، في هذا الإطار، على مواقع التواصل الاجتماعي وبمواقع مختصة في شؤون الطلبة دعوات لقضاء سهرات جماعية ليلة رأس السنة. وتضم هذه الدعوات طلبة المؤسسة الواحدة أو طلبة جنسية دولة معيّنة، كما تدعو أحيانًا لسهرة تضمّ طلبة يحملون ديانة بعينها أو مجموعة تدعو لنفس المعتقد للاحتفال بقدوم سنة جديدة بعيدة عن الأوطان.

وتمثّل الغربة الجامع بين كافة طلبة جنوب الصحراء وما تستتبعها من تحديات يواجهونها في سبيل الاندماج في المجتمع التونسي والتأقلم مع خصوصيته عبر إرادة قوية هدفها هو النجاح في تحصيل علمي مشرّف تهون من أجله الغربة عن الأوطان ويخفّف من وطأة الهجرة.

اقرأ/ي أيضًا: عن عبدو السينغالي.. بائع أساور في "لافيات" وصاحب حكمة

الاحتفال برأس السنة الميلادية في تونس.. مثال للتعايش

في إحدى مقاهي سوسة بجهة سهلول التي تتميّز بوفرة المعاهد العليا الخاصة التي تستقطب طلبة جنوب الصحراء، التقينا الطالب الكاميروني إيف جاك ميلوبو (Yves Jaques Meloupou)، كاتب عام جمعية الطلبة والمتربصين الأفارقة بتونس، التي تعتبر الجامع بين كافة طلبة جنوب الصحراء والناطق باسمهم والمفاوض مع الجهات الرسمية من أجل تذليل عقبات الحياة الجامعية والسياسة التعليمية.

إيف جاك ميلوبو (طالب كاميروني) لـ"ألترا تونس": أنا مسيحي الديانة وأؤدي صلاتي في الكنيسة وهذا من أفضال المجتمع التونسي المتسامح

كان يبدو ميلوبو حذرًا منذ الوهلة الأولى في حديثه معنا نتيجة نقص التواصل مع الإعلاميين قبل أن يأخذ الحديث بيننا منعرج الثقة المتبادلة بعيدًا عن الجفاء، وقد سألناه عن عاداته في قضاء ليلة السنة الميلادية ليشير، في بداية حديثه، إلى أن الكاميرون الواقعة في منطقة وسط الغرب الإفريقي تضم معتقدات محليّة وديانات سماوية وعشرات اللغات المختلفة. وبيّن أن هذا التنوّع يفرض اختلافًا في العادات والتقاليد سواء في الاحتفالات أو الأعراس أو الأحزان مضيفًا أن أغلب البلدان جنوب الصحراء تتضمن تنوعًا في مجتمعاتها مثل بلده.

وعن نفسه، تحدث ميلوبو لـ"ألترا تونس" قائلًا: "أنا مسيحي الديانة وأؤدي صلاتي في الكنيسة وهذا من أفضال المجتمع التونسي المتسامح عبر حرية ارتياد الكنائس فالدولة تعتبر الضامن لحرية التعبد". وقال إن من عاداته ليلة السنة الميلادية في تونس ارتياد كنيسة القديس فيليكس بسوسة، وهي كنيسة كاثوليكية مشيّدة سنة 1916 لاستقطاب المسيحيين في سوسة زمن الاستعمار الفرنسي، ووفرت الدعم الروحي للعائلات المتديّنة. وتسلمت الدولة التونسية إبان الاستقلال الكنيسة بموجب اتفاقية الفاتيكان مع "ضمان أنها لن تستخدم إلا لأغراض عامة متوافقة مع طابعها ووجهتها الخاصة بهم".

 كنيسة القديس فيليكس بسوسة (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

 

وحدثنا ميلوبو أنه ارتاد ليلة رأس السنة الفارطة كنيسة القديس فيليكس، واجتمع بعد أداء الصلوات في إحدى القاعات المجاورة للكنيسة لتشارك العشاء بين أبناء الديانة المسيحية قبل أن يتنقل كل واحد منهم نحو وجهته بين السهر في مكان ترفيهي أو قضاء سهرة جماعية في منزل أحدهم. "لكنني شخصيًا أفضل أن أشاهد فيلمًا على الساعة الحادية عشرة ليلًا ثم أتلو الأدعية وأشكر الله عند الاقتراب من الساعة الصفر"، هكذا تحدث الطالب الكامروني لـ"ألترا تونس".

 

تتعّدد أشكال احتفال الطلبة من إفريقيا جنوب الصحراء بليلة رأس السنة الميلادية (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

 

وخلال لقائنا مع ميليبو، كانت بجانبنا طالبة مالية مسلمة اسمها جينيبا توري ( Djeineba Touré ) أسرّت لنا أنها تفضل قضاء ليلة رأس السنة مع صديقاتها وأبناء بلدها وتناول بعض المأكولات التقليدية المتكونة أساسًا من لحم الدجاج والمرطبات. وهي تعتبر ليلة السنة الجديدة "مثل باقي الليالي غير أنها تبقى ذات بعد رمزيّ وتجديد الأمل في حياة ملؤها النجاح" وفق تعبيرها، مضيفة "ومن الطبيعي أن نفتقد في ليلة رأس السنة الجديدة أهالينا الذين يبعدون آلاف الأميال فنشتاق إليهم ونحن نحاول أن نعوّض الغربة ببعض الفرح هنا".

اقرأ/ي أيضًا: "البنقة".. تخمّر الألم ورقصة الانعتاق

عنف وعنصرية واختلاف اللغة.. حواجز على الطريق

لم يكن حديثنا مع كاتب عام جمعية الطلبة والمتربصين الأفارقة إيف جاك ماليبو بمنأى عن التطرق للصعوبات التي تعترض طلبة جنوب الصحراء الوافدين على تونس ولسان حالهم يقول ما قال أبي حيان التوحيدي "ويد الغريب قصيرة ولسانه أبدًا غريب ... والناس ينصر بعضهم بعضًا وناصره قليل".

وتشير دراسة أعدها مؤخرًا المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن 50 في المائة من المهاجرين القادمين من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء يعتبرون تجربتهم في تونس "إخفاقًا"، ولفتت الدراسة إلى أن "مصادر أعمال العنف التي مورست على هؤلاء المهاجرين الذين شملتهم العينة (962 مهاجرا) تنقسم الى أعمال فردية قام بها مواطنون وسائقو سيارات الأجرة وأصحاب المحلات التجارية وأخرى مؤسساتية حيث تصدرت مراكز الأمن أعلى نسبة وخلفها مكاتب الاستقبال والمؤسسات الخاصة والموظفين ورؤساء العمل.

إيف جاك ميلوبو (طالب كاميروني) لـ"ألترا تونس": نحن نعيش بالفعل مشكل الأمن وأغلب طلبة بلدان إفريقيا جنوب الصحراء مُستهدفون بالاعتداءات في الشارع 

ويؤكد محدثنا إيف جاك ميلوبو ما جاء في هذه الدراسة قائلًا: "نحن نعيش بالفعل مشكل الأمن فأغلب طلبة بلدان إفريقيا جنوب الصحراء مُستهدفون بالاعتداءات في الشارع من طرف منحرفين بل يعتبروننا هدفًا سهلًا، وستجد أننا نتعرض بنسب مرتفعة للسطو خاصة على جنس الإناث".

وتأسف لوجود عقبات في التواصل لغويًا مع السلطات الأمنية عند التعهد بمثل هذه القضايا وخاصة في بيان ملابسات الجريمة، وهو ما يؤدي إلى ضياع حقوق الضحايا وإفلات الجناة من العقاب.

مراسل "ألترا تونس" مع  كاتب عام جمعية الطلبة والمتربصين الأفارقة في تونس (ألترا تونس)

 

وأضاف كاتب عام جمعية الطلبة والمتربصين الأفارقة: "في مدينة سوسة مثلًا بالتحديد في حي الرياض وحي بوخزر باعتبارهما حيان شعبيان يستقطبان العديد من طلبة بلدان إفريقية جنوب الصحراء تتعرض الفتيات خاصة إلى السطو بشكل مستمرّ من شبان على متن دراجات نارية" مؤكدًا على المطالبة بتوفير بالأمن وتحسين التواصل مع السلطات المعنية.

وبخصوص الخدمات الإدارية، دعا مليبو في حديثه لـ"ألترا تونس" إلى توفير حل جذري لمشاكل النفاذ إلى الخدمات الإدارية مقترحًا شباكًا موحدًا في كل جهة لتقديم خدمات جيدة بتكلفة أقل بالخصوص لاستخراج الوثائق الإدارية داعيًا إلى دعم اللامركزية وعدم الاضطرار للتنقل إلى العاصمة من أجل إمضاء وثيقة ما.

يبدو أن انخراط الطلبة المنحدرين من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء في النسيج المجتمعي التونسي يواجه بعض الصعوبات من بينها حاجز اللغة والعنصرية وغياب الأمن، لكن تبقى مثل هذه المناسبات الإنسانية الكونية مثل احتفالات رأس السنة الميلادية أو الأعياد الإسلامية نقطة التقاء بين الحضارات المختلفة وعامل توحيد بين الأجناس البشرية، على أمل تعزيز أواصر التعايش والانفتاح.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أبعاد العنصرية: تابوه التمييز العرقي في تونس

التمييز العنصري في تونس.. السر المخجل؟